يقول ابن إسحاق: 'حدثني الزهري أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء. فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك'.
وهكذا يجب أن يدرك كل من يريد أن يلتزم بالإسلام ودعوته ويعيش في بلد من البلاد، ألا يشترط على أولي الأمر فيها منصبًا أو عرضًا من أعراض الدنيا، لأن الإسلام والدعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء والدعاة إلى الإسلام جزء من البلاد الإسلامية ومؤسساتها.
والداخل في الدعوة، إنما يريد ابتداء وجه الله، والعمل من أجل رفع راية الإسلام أينما كان في مؤسسة أم شركة أو وزارة، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبه. لذا قال يحيى بن معاذ الرازي: 'لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة'.
وربما عللت النفس وشيطانها لصاحبها بما فعل يوسف عليه السلام وإنما هذا من تسويل الشيطان، فالرئاسة لا تطلب إلا إذا تعذر وجود البديل أو الأكفأ، عندها يكون لزامًا عليه طلبها، لا لذاتها إنما كي لا يستلمها من هو دونه بالكفاءة فَيُضَيّع الأمانة، وهذا يوسف عليه السلام مثالاً لذلك، عندما رأى أنه لا يوجد من هو أكفأ منه، قال للملك: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف:55].
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ في ظلال هذه الآية:
'إنه لم يسجد شكرًا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون. ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين كما يقول المتملقون! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيرًا مما ينهض بها أحد في البلاد، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحًا من الموت وبلادًا من الخراب، ومجتمعًا من الفتنة فتنة الجوع'.
فالذي يلتحق بركب الدعوة، عليه ألا يتوقع رئاسة، أو منصبًا ما، فضلاً عن أن يسعى إليه ويفرح به! أما المتقدمون للدعوة ودعاتها السابقون فيها فهم عرضة للخطأ والصواب وعليهم أن يكونوا أكثر حلمًا وسعة في صدورهم لتقبل النقد والرأي الآخر! اقتداء بالداعية الأول المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم أو التنحي إن طُلبَ إليهم ذلك عن مركز إداري أو رئاسي! فالتخلي عن الإدارة والمركز لن يمس مكانة الداعية لا علميًّا ولا دعويًا!!
وعلى الجميع يجب أن يوطن نفسه من أول يوم يضع فيه قدمه على باب الدعوة، بأن يكون جنديًا لها، فإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في المقدمة كان في المقدمة، ليس له هدف سوى مرضاة الله، إنما يحدث التعثر إذا التفت لغير الله، وحدثته نفسه بأمر من حظوظها. ولهذا السبب جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس للذين بايعوا بيعة العقبة الأولى والعقبة الثانية بقوله: 'فإن وفيتم فلكم الجنة'.
فلم يعدهم بمنصب ولا بجاه ولا بمال، أو بأي لون من ألوان الدنيا، إنما علقهم بالآخرة، لترتفع نفوسهم وآمالهم، وهممهم من وحل طين الدنيا، إلى السماوات العلا.
ويمدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الدعاة، الذين ليس لهم سوى رضى الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فليس مهمًا لديهم مواقع عملهم سواء كانت في المقدمة أو المؤخرة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: 'طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع
.
يقول ابن الجوزي:
'المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو، فإن اتفق له السير سار، فكأنه قال: إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها'. ويقول ابن حجر: 'فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع'.
هذا الصنف من الدعاة، هو الذي تنجح الدعوة به، أما المتطلعون للرئاسة والمناصب والشهرة، فإنهم من دون شك يكونون أحجار عثرة في طريق نجاح الإسلام ودعوته
مواقع النشر (المفضلة)