بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك سبحانك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد فإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون ، وإليها يشخص العاملون ، وعليها يتفانى المحبون ، وبروح نسيمها يتروح العابدون ، فهي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرة العيون ، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات ، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، وهي روح الإيمان والأعمال والأحوال والمقامات .
وإذا كان الإنسان يحب من منحه ـ في دنياه مرةً أو مرتين ـ معروفاً فانياً منقطعاً ، أو استنقذه من مهلكة ، أو مضرة لا تدوم ، فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد ولا تزول ، ووقاه من العذاب الأليم ، ما لا يفنى ولا يحول ، وإذا كان المرء يحب غيره على ما فيه من صورة جميلة ، وسيرة حميدة فكيف بهذا النبي الكريم ، والرسول العظيم الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم المانح لنا جوامع المكارم ، والفضل العميم ، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة ، فاستحق أن يكون حظه من محبتنا له أوفى وأزكى من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين بل لو كان في منبت كل شعرة منا محبةٌ تامةٌ له ، صلوات الله وسلامه عليه ، لكان ذلك بعض ما يستحقه علينا .
قال الله تعالى ((( قل إن كان ءابآؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَ إليكم منَ اللهِ ورسولهِ وجهادٍ في سبيلهِ فتربصوا حتى يأتيَ اللهُ بأَمره واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين ))) . (التوبة: 24).
فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالةً وحجةً على إلزام محبته ، ووجوب فرضها ، وعظم خطرها ، واستحقاقهِ لها عليه الصلاةُ والسلام إذ قرَّعَ الله تعالى من كان مالُهُ وأهلُهُ وولدُهُ أحبَ إليهِ من الله ورسوله ،وأوعدهم بقوله تعالى{ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } ثم فسقهم بتمام الآية ، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله .
1. وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } .
2. وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان : أن يكون الله ورسوله أَحبَ إليهِ مما سواهما ، وأن يحب المرءَ لا يحبُّه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكرهُ أن يقذف في النار }.
3. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لأنت أحبُّ إلي من كل شئ إلا نفسي التي بين جنبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لن يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَ إليه من نفسه ، فقال عمر : والذي أنزل عليك الكتاب لأنتَ أحبَ إلي من نفسي التي بين جنبيَّ ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر } .
ها قد رأينا حض الحبيب المصطفى على أن كمال الأيمان لا يكون إلا بمحبته صلى الله عليه وسلم ولننظر إلى حقيقة المحبة وكيف فهمها الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين : وقد روى ابن إسحاق : أن امرأةً من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها ، يوم أحدٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا خيراً ، هو بحمد الله كما تحبين فقالت : أرونيهِ حتى أنظر إليه ، فلما رأته ، قالت : كلُ مصيبةٍ بعدك جللٌ " أي صغيره "" .
وقال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أموالنا وأولادنا ، وآباءنا وأمهاتنا ، ومن الماء البارد على الظماء.
ولما أخرج أهل مكةَ زيد بن الدَّثِنَّةِ من الحرم ، ليقتلوهُ قال له أبو سفيان : أنشدكَ بالله يا زيد أتحبُّ أنَّ محمداً الآن عندنا نضربُ عنقهُ وأنكَ في أهلك ؟ فقال زيد واللهِ ما أحبُ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة ، وإني جالسٌ في أهلي ، فقال أبو سفيان : ما رأيتُ أحداً من الناس ، يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً .
وعن عامر الشعبيِّ قال: إن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال واللهِ يا رسول الله لأنتَ أحبُ إلي من نفسي ومالي وولدي وأهلي ، ولولا أني آتيك فأَراكَ لرأيت أن أموت ، وبكى الأنصاريُ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبكاك ؟ قال بكيت أن ذكرتُ أنك ستموت ونموت ، فترفعُ مع النبيين ونكون نحن إن دخلنا الجنة دونكَ فلم يُحر النبي صلى الله عليه وسلم إليه بمعنى أي لم يرجع إليه بقول فأنزل الله قوله تعالى ((( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ))). ذكر مقاتل أن هذا الأنصاري هو عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان ، وذَكرَ أيضا ً أن عبد الله بن زيد كان يعمل في جنةٍ لهُ فأتاهُ ابنه فأخبرهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي ، فقال : اللهم أذهب بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمدٍ أحداً فكف الله بصرهُ .
وبالجملة فلا حياة للقلب إلا بمحبةِ الله تعالى ، ومحبةِ رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم ، وسكنت نفوسهم إليهِ واطمأنت قلوبهم به ، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبتهِ ففي القلب طاقةٌ لا يسدها إلا محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن لم يظفر بهذه المحبة فحياته كلها همومٌ وغمومٌ وآلام وحسرات ولن يصل أحدٌ إلى هذهِ المنزلة العلية والمرتبة السنية حتى يسلك طريق الحق ويدأب في تصحيح التوبة ، والقيام بالمأمورات الظاهرةِ والباطنة وترك المنهيات الظاهرةِ والباطنة فإذا تحققنا بهذا وعملنا به وصلنا إلى المحبة ولكن للمحبة علامات لا بد من ذكرها لنتعرف على حقيقةِ محبتنا لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أعظمها الاقتداءُ به واستعمال سنته وسلوكُ طريقته والاهتداءُ بهديه وسيرتهِ والوقوف على ما حده لنا من شريعتهِ قال تعالى ((( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ))) فجعل الله تعالى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم آية محبة العبد ربه وجعل جزاء العبد على حسن ِ متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم محبة الله تعالى إياه وبحسب هذا الاتباع تحصل المحبة والمحبوبية معاً ، ولا يتم الأمر إلا بهما فليس الشأن أن تحب الله فقط بل الشأن أن يحبك الله ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهراً وباطناً وصدقته خبراً وأطعته أمراً وأجبته دعوةً وآثرته طوعاً وفنيت في حكمه عن حكم غيره وعن محبة الخلق بمحبته وعن طاعة غيره بطاعته وإن لم تكن كذلك فلا تتعن فلست على شئ .
ومن علامة محبته صلى الله عليه وسلم : أن يرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجاً مما قضى قال الله تعالى : ((( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ))) فسلب اسم الإيمان ممن وجد في صدره حرجاً من قضائهِ ولم يسلم له .
ومن علامة محبته صلى الله عليه وسلم : نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته والتخلق بأخلاقه في الجود والكرم والإيثار والحلم والصبر والتواضع وغيرها ، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان ومن وجدها استلذ الطاعات وتحمل المشاقَّ في الدين وآثرَ ذلك على أعراَض الدنيا الفانية .
ومن علامة محبته صلى الله عليه وسلم : كثرةُ ذكره فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره وتعظيمه كذلك عند ذكره وإظهار الخشوع والخضوع والانكسار مع سماع اسمه وكان أيوب السختياني إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده بكى حتى نرحمهُ وكان عبد الله بن الزبير إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع . .
ومن علامة محبته صلى الله عليه وسلم كثرة الشوق إلى لقائهِ وحبُ القرآن الذي أتى به وهدى به واهتدى به وتخلق به وكذلك محبة سنته وقراءةُ حديثهِ وأن يلتذ محبه بذكره الشريف ويطرب عند سماع اسمه المنيف .
فمن اتصف بهذه العلامات فهو كامل المحبة لله ورسوله ومن خالف بعضها فهو ناقص المحبة لابد له من العمل على تزكية نفسه والتوجه إلى الله تعالى والى مجالس العلماء ليتعلم منهم كيف يصل إلى كمال محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
اسأل الله سبحانه وتعالى بمحبتنا للحبيب أن ينور قلوبنا بأنور شهوده ومعرفته وأن يذيقنا لذة مناجاته ومحبته ومحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم . والسلام عيكم ورحمة الله وبركاته .
الراجي رحمة ربه محمد نادر المحروم غفر الله له ولوالديه والمسلمين أجمعين .
مواقع النشر (المفضلة)