النفاق في حقيقته طاعون عقلي ملعون، وهو موجود على طول التاريخ في حالة مد وجزر، ولكن العجيب هو أمر الناس في هذا العصر. لقد كان المنافق في الماضي حريصاً على التخفي لأنه أول مَن يعرف مدى حقارة ما يفعل. أما اليوم فقد صار النفاق حرفة وتصلد وجه المنافق وانعدم حياؤه وتوجهت صفاقته لدرجة أنه أصبح لامعاً بهذه الصفة، بل وأصبح من المقربين ويحرص الطغاة على ترتيب أمورهما معاً، فهم شركاء في البضاعة.
وأصل كلمة النفاق مرتبط بالنفق، والأنفاق وهي مساحات تحت الأرض يسودها الظلام في أغلب الأحوال ولها أكثر من مخرج يوصل إلى سطح الأرض حيث النور والوضوح. ففي الظلام تُبيت النوايا ويجهز لها الأقنعة المناسبة لتأدية الأدوار المطلوبة ضمن مخططات الفساد والضرار. وفي العصر الحديث توفر للنفاق أكثر من غلاف ناعم أملس مثل السياسة والدبلوماسية والمرونة وتسليك الأمور وتمرير المصالح، وبهذه الأغلفة الملساء يتم زرع وتنمي النفاق في عقول الأبرياء. لا تجد شخصاً يولد منافقاً، بل يولد على الفطرة السليمة السوية، ولكن ما يراه من سلوكيات مَن يعتبرهم كباراً أو قدوة، وما يمر به من تجارب ظالمة يتعرض فيها لظلم أو إكراه أو حرمان أو تمييز وما شابه ذلك، كل ذلك يجعله يحسب أن في النفاق مخرجاً من الأزمات ومدخلاً للمنافع، وقل مَن يدرك ـ بيقين ـ أنه باب المهالك. فالمنافق لا يثبت على مبدأ بل يدور حيثما رأى مصلحته العاجلة.
وفي التعامل مع الناس من مختلف الأعمار يُلاحظ التناسب الطردي بين سن الإنسان وقدرته على النفاق، مما يدل على أن هذا الداء اللعين يستفحل ويتطور مع الوقت حتى يتمكن من العقل، وهذا يعني تلاشي القابلية للشفاء، وتلك كارثة الضياع الأبدي. فالمنافق أول ما يضر يضر نفسه، لأن في داخله أكثر من شخصية تتصارع وتتنازع الأدوار، فكيف يستقيم العقل أو تطمئن النفس لتسكن الجوارح!
تجد الإنسان ما دام بعيداً يتكلم ـ ربما باقتناع ـ عن المثاليات، وعندما ينزل إلى خضم الواقع بمغرياته ومحظوراته يضع (نفسياً) ويظل يتناول عن مثالياته حتى يصبح حاله نقيضاً للمثل التي كان يتحدث عنها حين كان (على البر). ويندر أن تجد صاحب العزيمة الذي يتمسك بالقيم والمبادئ التي ينادي بها، لأن ذلك يتوقف على درجة إيمانه بما كان يقول.أما مَن يغرق في التنازلات فقد كان إيمانه ناقصاً بما تلقنه. فتبدل مبادئ الشخص الواحد بتغير مواقعه دليل على عدم رسوخ إيمانه بتلك المبادئ. وجدير بالذكر أن الإيمان لا يتساوى بكل المبادئ عند الشخص الواحد، فيمكن أن يكون الشخص راسخ الإيمان بمبدأ ومهزوز الإيمان بمبدأ آخر.
وإذا كانت أسباب النفاق معروفة عند الضعفاء وأصحاب الحاجات من البسطاء، فكيف تقبل ممن يدعون حمل أمانة الفكر والكلمة والقلم! عجيب أن ترى الكاتب قد شاب وشاخ وما زال يلف ويدور وينفخ في أنصاف الحقائق مقلصاً الأنصاف المقابلة، فتظهر الأمور في شكل محرف ومشوه ويتكرر عرها بتلك الصورة حتى يحسب غير المدقق ـ وما أكثر هذا الصنف ـ أن الأمور هكذا فيقبلها وشيئاً فشيئاً يصير عقله مشوهاً، أو قل مشوش الفكر أو في حيرة من أمره.
ولقد ترسخ النفاق في النفوس وتطور لدرجة أنه شكل فيها فواصل جامدة فأصبح الإنسان بأكثر من شخصية وفي داخله تناقضات تقتسم النفس لحساب مراكز القوى الفكرية والمصالح الدنيوية. وترى الشخص في بيته وماله يتصرف بدقة وحرص وحساب ونظام ونظافة ... الخ، وفي المال العام والأماكن العامة يتصرف عكس ذلك تماماً دون أن ينكر الانقلاب الذي يحدث في تصرفاته بين ساعة وأخرى!
تعريف النفاق:
- أيهما يروق لك، لا تجعل للحيرة مكاناً في تفكيرك ... فكلاهما واحداً وهناك المزيد والمزيد لمثل هذه التعريفات. المنافق هو الشخص غير الأمين، الذي ليس لديه ولاء، غير الجدير بالثقة وجميع الصفات التي لها مدلول سلبي ... كما أنه اتهام يوجه للشخص ولكن بدون إثباتات.
لكن ماذا عن "النفاق المبرر" أو المستحسن؟
أجل، يوجد هذا النوع بالإضافة إلي النوع المتعارف عليه السلبي. فالنفاق المبرر هو الذي يقوم علي الأسباب المنطقية التي تمنع حدوث المشاكل، لأن التظاهر في بعض الأحيان يكون أفضل الطرق لعلاج كوارث وليست مشاكل فقط.
لكن قبل أن تفسر النوع المحمود من النفاق حسب هواك وتبدأ في خداع الآخرين تذكر دائماً أنه آخر الطرق الأخلاقية التي يمكن أن تسلكها لكي تحل مشكلة أو أزمة، ويتضمن ذلك أيضاً الابتعاد عن الكذب من أجل أن تكون وضيعاً أو توجيه النقد لشخص لصفات لا توجد فيه. فالأمانة سياسة مضمونة مائة بالمئة أفضل بكثير من إخفاء شعورك، كن كتاباً مفتوحاً وصادقاً لكي تتجنب هبوب العواصف في وجهك. أبسط الطرق لكي تبعد عن النفاق هو السكوت فإذا كان الكلام من ذهب فالسكوت من الماس حتى لا تقع بين حيرة المنافق المحبوب والصريح المكروه.
متى يكون النفاق محموداً ؟
في بعض الأحيان قد تضطرك بعض الظروف لأن تكون مجاملاً – بدلاً من أن تستخدم كلمة منافقاً – وآنذاك تكون الدوافع وراء ذلك مبررة من قبلك ومن قبل الآخرين.
لكن في الوقت نفسه هل أنت مستعد للصراحة في كل المواقف والأوقات ومستعد للنتائج بما أنك مقتنع بأنها أفضل وسيلة بشكل مطلق ... ولا يهمك ما إذا كانت ستجلب المشاكل لنفسك أو يؤثر ذلك بشكل سلبي علي صحتك نتيجة لها!!
ولا تتخلي عن صراحتك هذه مهما كلفك الأمر، لكن من الممكن أن تضيف لها بعض الملامح التي تجعل من الشيء الصعب أمور لينة يسهل التعامل معها.
وينطبق مبدأ "الصراحة المتجملة" علي :
- المواقف التي تعرضك للضغوط النفسية والعقلية، والتي تحس فيها باضطراب واستثارة طوال اليوم ولا تمكنك أيضاً من النوم. لذا فقبل الخوض في ذلك عليك بالتفكير جيداً ليس مرة واحدة بل أكثر قبل الوقوع فريسة الاضطراب النفسي.
- وتنطبق أيضاً علي من لا يتقبلون النقد ويغضبهم، فاللعب بالكلمات هو أفضل الطرق للبعد عن فهم القصد الخطأ من السخرية وما إلي ذلك. والصراحة النقية بلا أية إضافات لابد وأن تكون فقط مع من تعرفهم ويفهمونك.
- وتعطي الرخصة للصراحة المتجملة للبعد عن مروجي الإشاعات والذين يشوهون سمعة الآخرين ... وتعطي الرخصة هنا بدون أية اختبارات فيوجد العديد من الأشخاص لديهم هواية التحدث عن الآخرين بشكل غير لائق ونقل الأخبار طمعاً في نيل الود والمصلحة قبل أي شيء آخر.
كيف تعرف المنافق؟
إذا كنت ستلجأ إلي "الصراحة المتجملة" في بعض الأحيان المحاطة بالتظاهر، كيف تعرف ما إذا كان هناك شخصاً منافقاً؟
صفات المنافق:
1- من أول الأشياء شغفهم للرواية ونقل الأخبار، فبمجرد إبداء رغبتك في سماع الأخبار ستجده يفتح قلبه ويعطيك الشعور بالثقة الكاملة فيك ويقص لك علي الفور ما لديه.
2- الشخص المنافق يتجنب الالتقاء بك علي انفراد إذا كانت هناك مشكلة ما متسبب فيها، أو الجلوس بمفرده معك إلا في حالة ما إذا كان لديه شيء ضدك لتذكيرك به أي ابتزازك.
3- التردد في إخبارك بما يرمو إليه لتخوفه من رد فعلك، فإذا كان لديك انطباع بأن الشخص الذي أمامك يريد أن يخبرك بشيء مهم لكنه فجأة قام بتغيير محور الحديث لأنه لا يدري ماذا ستكون الاستجابة من جانبك سلبية أم إيجابية، فهذا منافقاً بدرجة 100%.
4- المنافق هو شخص حلو اللسان والكلام، يحاول أن يجعلك سعيداً بإطرائه الدائم عليك وتهدئتك ... لكنه في واقع الأمر أدعي أن تنظر إليه بأنه تهديد، وكونه أنه يقف بجانبك بشكل غير منطقي ولا داعي له فهذا يعني أنه يقف وراءك لكي يقوضك وخاصة في المجال العملي.
حلول للنفاق:
هما حلان لا ثالث لهما:
- الحل الأول: الصمت مع الإيماءات التأديبية وبعض الابتسامات هي المخرج السهل الممتنع لإسكات غيرك.
- الحل الثاني: مضاد السكوت والصمت ... الكلام والتعبير بما يجول بداخلك إذا كان السكوت سيعرضك إلي ضغوط نفسية وعصبية وكلاهما مطلوب!
( لا يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافِرينَ أوليَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شيءٍ إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وإلى اللهِ المَصيرُ ) سورة آل عمران
وقد أخرج الطبري في تفسير هذه الآية ، من عدة طرق ، عن ابن عباس، والحسن البصري ، والسدي ، وعكرمة مولى ابن عباس ، ومجاهد ابن جبر ، والضحاك بن مزاحم جواز التقية في ارتكاب المعصية عند الإكراه عليها كاتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين في حالة كون المتقي في سلطان الكافرين ويخافهم على نفسه ، وكذلك جواز التلفظ بما هو لله معصية بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، فهنا لا أثم عليه. تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) 6: 313 ـ 317 ، ط2 ، دار المعرفة ، بيروت | 1392 هـ .
هذا مع اعتراف سائر المسلمين بأن الآية لم تنسخ فهي على حكمها منذ نزولها وإلى يوم القيامة ، ولهذا كان الحسن البصري يقول : (إنَّ التقية جائزة إلى يوم القيامة) . حكاه الفقيه السرخسي الحنفي ، وقال معقباً : (وبه نأخذ ، والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه). المبسوط | السرخسي 24 : 45 من كتاب الإكراه.
مواقع النشر (المفضلة)