ربما تكون للفرح أسباب ملموسة ، لكن من أين يأتي الحزن ؟
حكى لي صبي حلاق في العشرين من عمره أنه نشأ في بيت لليتامى من دون أن يعرف من هما والديه ، ولم يعرف من هما إلي اليوم . قال لي : في فجر أحد الأيام كانت امرأة تمشي في الشارع حين سمعت صوت بكائه ، فاندفعت إلي هناك من حيث أتي نحيبه ، وعثرت عليه بالقرب من مدخل أحد المباني ، كان
داخل صندوق من الورق المقوى الذي توضع فيه الأحذية عند جذع شجرة ، وبالقرب من الصندوق قبع كلبان متشردان في صمت . مجرد قطعة لحم صغيرة ملفوفة وموضوعة بعناية داخل الصندوق . وحين رفعت السيدة قطعة اللحم الصغيرة وضمتها إلي صدرها ، نهض الكلبان وهزا ذيليهما وأخذا يعبران
الطريق بهدوء . الحزن أيضا يظهر هكذا ، دون أن تعرف والديه ، أو مصدره ، ويهبط على البشر مكتملا ، وحيدا ، يرسل صوته في الفضاء دون أن يعرف لمن يرسله .
من أين يأتي الحزن ويخيم ثقيل الوطأة قابعا أمامك مسندا خده إلي يده يحدق إليك دون أن يبرح المكان . تنظر إليه وتتساءل : ما الأسباب التي خلقته ؟ من هما والداه ؟
لا يعرف الحزن لنفسه مصدرا صريحا ، ولا يلوح قرب أسبابه الحقيقية ، إنه يظهر قرب أشياء أخرى ، تحميه كلاب الطبيعة السوداء ، وأنت تنجرف إليه بالمصادفة ، تحت ظل نغمة من لحن قديم ، أو تنزلق إليه من نبرة كلمة ، أو نظرة . في اليومين الأخيرين ظللت أدور في دوامة لحن للموسيقار عبد العظيم محمد بصوت عبد المطلب الأجش يقول : " في قلبي غرام .. مصبرني على بعدك " . يومين كاملين أردد النغمة لنفسي حتى اكتشفت أنها مثل المستنقع الرملي تغوص في أحزانها كلما تحركت بداخلها . وخطر لي للمرة الأولى أن بقاء واستمرار تأثير صوت محمد عبد المطلب الأجش راجع جيشان روحه بالرغبة الحارقة في التعبير عن مشاعر متقدة بالحب ، بالرغم من شكله وصوته الغليظ . لكن ألم يكن التناقض بين الجوهر النبيل والشكل الخشن أساس شخصيات أدبية خالدة مثل أحدب نوتردام ؟
وحين يعتصر الحزن قلبك مثل شبكة غير مرئية من خيوط قاسية وناعمة ، تفكر أن المسألة ليست في نغمة قديمة عابرة ، أو كلمة ، أو حوار .
المسألة أنك غير سعيد . عموما غير سعيد ، وأن ثمة شيئا جوهريا ينقص حياتك . لكن ما هو ؟ . وعندما تكتشف أنك لا تعرف ما الذي ينقصك لتكون سعيدا ، حينئذ تحس بالضياع الكامل ، ورغبة عميقة في الموت ، مثل صوت بلا حنجرة ، وتدرك بوضوح أنك وحدك في هذا الكون الكبير ، تحت شجرة ، في ضوء
فجر شاحب ، يحرسك كلبان صامتان لسبب ما . وينتابك القلق من هذه الحقيقة البسيطة . وفي تلك الأوقات يفتش المرء عن لحظات الحب القليلة في الذاكرة ، حينما لم يكن وحده إلي هذه الدرجة . لحظات من طفولته ومطلع شبابه .
هل يأتي الحزن من فراق الأحبة ؟ أم أنه ينشع من تماسك الفرد في مواجهة العالم ؟ أم أنه يهبط عليك من الإدراك المؤسف بأن العمر يتسرب دون أن تتمكن من إيقاف الزمن لحظة ؟ أم من العجز المؤلم عن تحقيق الأحلام الكبيرة ؟ أو لأن البشر قد خلقوا مثل الأطباق الطائرة التي تدور في الفضاء ، تتقاطع مجالات دوران كل فرد مع الآخرين ، ليحطم كل منا جزءا من الآخر، ويتحطم في كل منا جزء ، في عملية تكسير متبادل ، ناجم من سوء الفهم ، أواختلاف الطبائع ، وطرق التفكير ، وتباين مقدار الشجاعة ، وحجم الخوف ؟ أم أن هذا الشعور الذي يخيم على النفس كالضباب الخفيف فوق الحقول الساكنة يولد من كل ذلك معا ؟ أتكون قصة ضرب العراق المذلة خلف ذلك الشعور ؟ أم أنهم الأطفال الذين يغمضون أعينهم إلي الأبد كل يوم في
فلسطين دون أن تكفي أحد شجاعة الدفاع عنهم ؟ أم أنه الشعور بالهوان العام يسري في الروح بطيئا كالسم؟ أتكون قلة لانتصارات في حياتنا وأوطاننا ؟ أم أنها حكاية موت مبكر لكاتب شريف لم يأبه أحد بمرضه أو علاجه ؟ أم قصة تلك الفتاة النحيفة ، الشاعرة ، التي فقدت مصدر دخلها فجأة فصارت تغسل شعرها كل يوم في بحيرة الجنون ، وتهيم على وجهها في شوارع المدينة بحذاء ممزق ، وعقل مشوه ، وبيدها قلم صغير تزعق في العابرين " أنا شاعرة . هل تعرفون من أنا ؟ " أم أن مصدر ذلك الحزن
هي حالة اللامبالاة العامة تجاه الكوارث الإنسانية الصغيرة والكبيرة ؟ حتى كأن وشائج اللحم التي تربط أطراف الجسد وقلبه وعقله قد تفككت وانحلت بينما يواصل البدن سيره وحده ، مثل الطيور التي تفصل رأسها وتظل تمضي للأمام ؟ . أم أن المسألة أبسط من كل ذلك ، وأنها مجرد غيم يهبط على الروح مع الشتاء الرمادي ومطره ؟ ثم يرحل الغيم في الربيع ؟
حزن ملقى على قارعة الطريق ، بلا صاحب ، ملفوف كقطعة اللحم الصغيرة ، لا يعرف أحد من خلقه ، ومن تركه هكذا وحده . حزن يسري في الجسم كله ، ولا يحتاج إلا لجرح صغير ، وموضع يسيل منه : قرب شجرة عند بوابة بيت لليتامى ، أو تحت نغمة قديمة ، أو عند حوار مشبع بالأسف بين صديقين
قديمين ، أو في ساعة فراق ، أو لحظة تغمرك ذكرى عزيز راحل ، أو عند ومضة إدراك تعي فيها فجأة أن الحياة قصيرة لا تتسع للسعادة ، وأنها تمشي على قضبان المصادفات وسؤ الفهم نحو موت محقق ، ويكون عزاؤك الوحيد خلال ذلك أن ثمة آخرين قادمين سيذوقون يوما طعم السعادة ، وأن عالما مازال بعيدا لن يعرف حزنا كهذا ، يتدفق في الروح كلها ، ويصبغها بلون أزرق ، دون أن تعرف من أين أتى .
![]()
![]()
مواقع النشر (المفضلة)