إسرائيل صاحب السرء الكثير
سمي يعقوب عليه السلام بإسرائيل، واسمه جاء من السرء؛ وهو بيض الجراد، وكما هو معلوم فإن الجراد يضع بيضًا كثيرًا (400-500) بيضة كل مرة، مجتمعة في حفرة واحدة، والياء واللام في آخر اسمه علامة للتعظيم والتفخيم، ويعقوب عليه السلام كانت له ذرية كثيرة في حياته من أولاده، وأولاد أولاده، قياسًا إلى أهل مصر في زمانه الذين كانوا يكثرون التزوج من الأقارب والأخوات، وتواصل الزواج من النسب القريب يضعف الذرية، وعلى هذا فسر سبب انقراض آخر الأسر الفرعونية، التي كانت أشد الناس حرصًا على الزواج من الأقارب لكي لا يختلط دمها الفرعوني بغيرها، وكثرة الذرية نعمة من نعم الله، ويذكر بنو إسرائيل في القرآن الكريم بهذا الاسم في مواضع المن عليهم من الله عز وجل، إذا استعرضت الآيات التي ذكر فيها بنو إسرائيل0
ولقد جاء في أكثر من آية في القرآن الكريم ذكر تفضيل بني إسرائيل على العالمين؛ وهذا التفضيل لهم ليس من باب تفضيل جنس على آخر؛ فكل البشر هم بنو آدم، وآدم عليه السلام أبوهم جميعًا بلا استثناء00 ولكن التفضيل المشار إليه؛ في أنهم أول أمة أرسل إليها رسول، ولم تهلك طائفة منهم، فكتبت السلامة لجميع قبائلهم في عهد موسى عليه السلام، وهم أول أمة تعطى كتاب من الله يحتكمون إليه بعد أنبيائهم، ولم يكن ذلك لأي أمة من قبلهم، فهذا هو التفضيل الذي منَّ الله عليهم به؛ باستبقائهم أحياء على ما كان منهم من عصيان لله عز وجل ورسله، إلى أن وصل بهم العصيان إلى قتل أنبيائهم، وبأنه آتاهم كتابًا مرجعًا لهم يحكم به النبيون والأحبار والرهبان من بعد موسى عليه السلام0
والتفضيل هو إعطاء أحدهم أكثر من غيره أو من البقية؛ كتفضيل بعض الأنبياء والرسل على بعض، وليس التفضيل هو تقريب بعضهم وإبعاد الآخرين ونبذهم، وعلى هذا دار المعنى في لغة القرآن، وليس لأحد حجة بآيات تفضيل بني إسرائيل على أنهم المقدمين على البشر؛ فإنزال كتاب من الله على المسلمين بكلماته هو، والمهيمن على الكتب السابقة هو أفضل مما أُعطي بنو إسرائيل، والتمكين للمسلمين حتى كانت لهم دولة من شرق الأرض إلى غربها هو أفضل مما أعطي بنو إسرائيل، وتفضيل بني إسرائيل بعطاء الله لهم لم يدم، فبعدها كُتب عليهم التشتيت في الأرض، والذلة والمسكنة، وسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب مما جاء تفصيله في القرآن الكريم، وحتى المسلمون لا يسلمون من تسليط ذلك عليهم إن تبعوا سنن بني إسرائيل فيما غير نعمة الله عليهم إلى نقمته، وباب الرجوع إلى الله وشرعه الذي شرعه للناس، والتخلي عن الكفر وأهله، وعن الفسوق والعصيان، مفتوح للجميع، والله عز وجل ولي من يتولاه، وعدو لمن عاداه0
والآفة تقع على من يتحول عنده تبليغ الدين والمحافظة عليه إلى طلب الرياسة فيه، فيرفض ما عند الآخر، ويرفض الجديد من أمر الله وتوجيهاته للبشرية، مع أنه في أمور دنياه يسعى لكل جديد وحديث، ويتخلى عن كل قديم، مما يحدثه البشر من الأدوات، والمصنوعات، والثقافات، ثم هو ينكر على الله عز وجل أن يمد البشر بما يصلح أحوالهم وحياتهم في الدنيا والآخرة، مما ثبت صدقه وخلده في كلماته التي أنزلها في القرآن الكريم، وليس في كلام البشر0
ولفهم أكبر لسبب تسمية يعقوب عليه السلام بإسرائيل نلجأ إلى قاعدة مطردة في الجذور 000
هذه القاعدة متعلقة بالجذور التي فيها حرفان أصليان والثالث أحد حروف العلة؛ وهي إما أن تكون الحرف الأول، أو الوسط، أو الأخير، فهذه تسعة جذور لأن حروف العلة ثلاث، والحالات ثلاث 000
والحالات التسعة مع حرف السين والراء هي: أسر، وسر، يسر 0000 سأر، سور، سير 000 سرأ، سرو، سري، 00
وثلاث حالات أخرى هي مضاعفة الأول: سسر، أو مضاعفة الثاني: سرر، أو مضاعفة الحرفان: سرسر، فيكون مجموع الحالات تشكل شجرة اثنا عشرية من الجذور 0
إذا درست المستعمل منها في اللغة ستجد أنها تجتمع على معنى واحد، ولكل واحد منها له خصوصيته الفرعية0
المعنى الذي يجمعها هو الإحاطة والعزل 00 وإليك التوضيح؛
فالأسر: إحاطة أفراد من العدو وعزلهم عن بقيتهم، ثم إحاطتهم بالقيود بعد ذلك، أو الحبس0
واليُسر: زيادة الرغد في العيش، ومنه سميت اليد الثانية باليسرى: لأن الخير إذا كان قليلاً اكتفيت بحملته باليد اليمنى، وإذا كثر استعنت باليد الأخرى فأحطته بكلتيهما، وأخذته بهما، فسميت اليد الثانية لذلك باليسرى، لدلالة استعمالها على يسر المعيشة ورغدها0
والسرأ : بيض الجراد، والجراد يحيطه بيضه بالأرض بوضعه ودفنه في باطن الرمل0
والسرو: شجر يلتف بعضه على بعض بضم فروعه وتقاربها0، فيصبح في نموه وارتفاعه كأنها أعمدة0
والسري : السير في الليل محاط بظلمته0
والسر: كتم الخبر حتى لا ينتشر بين الناس0
والسير: الذهاب بعيدًا في الأرض حتى يحاط بها ويختفي0
والسور: الجدار الذي يحيط بالبيت، أو البستان، أو المكان والقرية0
والسوار: من أدوات الزينة الذي يحيط بالمعصم0
والسؤر: بقية الشراب التي تظل في قاع الإناء0
فيعقوب عليه السلام أحيط بكتمان أبنائه خبر فعلتهم بيوسف عليه السلام سنين طويلة، ثم بابيضاض عينيه، ثم حصر ذريته من بعده في مصر، وعزلهم واستعبادهم، ثم انعزالهم عن المجتمعات التي وجدوا فيها عبر التاريخ، وكانت صفة خاصة بهم 000 هذه الأمور كانت من الناحية السلبية، أما من الناحية الإيجابية فقد أحاطت بهم عناية إلهية بالتفضيل الذي أشرنا إليه، وعدم انقراضهم رغم كره أكثر شعوب الأرض لهم، وخاصة الأوروبية منها000 وتلك نعمة يمن الله تعالى بها عليهم0
وعلى هذا يكون تسمية بني يعقوب ببني إسرائيل بالمعنى العام من الإحاطة؛ الإحاطة الربانية وفيها خير لهم، ومن إحاطة أنفسهم لأنفسهم، وحصر الناس لهم من جانب آخر، والمعنى الثاني من الكثرة المجتمعة بعضها على بعض؛ فكان من يعقوب اثنتا عشرة قبيلة، ولولا ابتلاؤهم بفرعون، بقتل أبنائهم عقودًا طويلة، لكانوا من الكثرة التي ستكون عائقًا ضد الإسلام من بعد، بالطباع التي تخلقوا عليها، وأعظهما: قتل الأنبياء، وتحريف الكتب المنزلة من الله، والإفساد في الأرض000 حمى الله أنفسنا وديننا وديار المسلمين من كيدهم، وعظم فسادهم في الأرض، وفي كل المجتمعات التي اندسوا فيها000 والله هو الحافظ وهو ولي المتقين 000 وهو أعلم العالِمين0
أبو مسلم العرابلي0