[align=justify]إن عنوان سعادة المرء ودلائل توفيقه إنما يكون في إنابته لربه واستقامته على شرع الله ودينه في أيام حياته وعلى كل حالاته، وإقباله على الله- تعالى-بنية خالصة وعبودية صادقة، وأن لا تشغله الحياة الدنيا والسعي في تحصيل ما يؤمل منها عن الاستعداد للحياة الباقية والتزود للدار الآخرة، فذلك سبيل الصالحين، ونهج المتقين ممن وصفهم الله-عزَّ وجل-في محكم التنزيل بقوله: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَواةِ وَإِيتَاء الزَّكَـواةِ يَخَـافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَـارُ} [النور:37].
فإن هؤلاء الصالحين على الرغم من اشتغالهم بالبيع والشراء، وما يحتاجون من عرض الدنيا، إلا أن ذلك لم يكن حائلا بينهم وبين استحضار عظمة الله(جل جلاله) استحضارًا يحمل على تقوى الله-عزَّ وجل- وخشيته على الدوام، والقيام بعبوديته حق القيام، وهكذا شأن المؤمن حقًا، يغتنم أيام العمر وأوقات الحياة بجلائل الأعمال الصالحة، ويبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة؛ لعلمه أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا وسيلة للفوز بالحياة الباقية والظفر بالسعادة الدائمة، لا أنها غاية تُبْتَغى، ولا نهاية تُرْتَجى، بل إنما هي عرض زائل، وظل آفل، يأكل منها البر والفاجر، وأنه مهما طال فيها العمر، وفسح فيها للمرء الأجل، فسرعان ما تبلى، وعما قريب تفنى، وليس لها عند الله شأن ولا اعتبار، وإنما هي قنطرة إلى الجنة أو النار، يقول عزَّ وجل: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الاْمْوالِ وَالاْوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله-تعالى-مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء) [رواه مسلم في صحيحه].
وعن سهل بن سعد الساعدي–رضي الله عنه –قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس–رضي الله عنهما– قال: مرّ النبي-صلى الله عليه وسلم-بشاة ميتة قد ألقاها أهلها، فقال: (والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها).
وإن في هذه النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية لأبلغ بيان وأوضح تصوير لحقيقة هذه الحياة الدنيا، وما يجب أن يكون عليه حال المرء فيها من الإقبال على الله-جلَّ وعلا-، والأخذ بالنفس في دروب الصلاح والتقى، ومجانبة الشهوات والهوى، والحذر من الاغترار بالدنيا، غير أن من عظيم الأسف أن يظل الكثيرون منا في غفلة وتعامٍ عن ذلك؛ حتى غلب عليهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، وكأن لا حياة لهم إلا الحياة الدنيا.
وإذا استولى حب الدنيا على قلب المرء أنساه ذكر ربه؛ وإذا نسي المرء ذكر ربه أنساه تعالى نفسه؛ حتى يورده موارد العطب والهلاك، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في بيان شؤم ذلك وخطره على دين المرء: (ما ذئبان جائعان أُرْسِلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
وجاء في الأثر: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"، وقال بعض السلف: "من أحب الدرهم والدينار؛ فليتهيأ للذل".
ولما نظر الإمام الحسن البصري–رحمه الله–إلى بعض أهل زمانه ورأى تكالبهم على الدنيا، وغفلتهم عن الآخرة قال: "أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟! كلا، كذبوا ومالك يوم الدين".
وإن من مظاهر غلبة حب الدنيا على القلوب، واستيلائها على النفوس لدى البعض، أن لا يكون لهم همّ إلا البحث عن الجاه العريض، والشهرة الواسعة، وإن كان على حساب الدين والفضيلة، وآخرون ليس لهم همّ سوى جمع الأموال، وتضخيم الثروات؛ حتى سلكوا في تحصيل ذلك مسالكًا مشبوهة، وسبلًا محرمة.
وقد رُوِي عنه-صلى الله عليه وسلم-أنه قال في معرض التحذير من ذلك، وبيان عاقبته على صاحبه: (والذين نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يومًا، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به) [رواه الطبراني وغيره].
فلتحذروا من التمادي في الغفلة والإعراض عن الله، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، فلقد ندد الحق-جلَّ وعلا-بالغافلين، وأشاد بالمتقين الذين جانبوا هوى النفس، وعملوا للدار الآخرة، فقال سبحانه مبينًا حال كل فريق وجزاءه: {فَأَمَّا مَن طَغَى *وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى*وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41].
فاتقوا الله ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور: {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
ولا تكونوا ممن استولت عليهم الغفلة، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله والدار الآخرة، وغرتهم الأماني الباطلة، والآمال الخادعة؛ حتى غدوا وليس لهم همّ إلا في لذات الدنيا وشهواتها، فكيف حصلت حصّلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثوابًا من الله ورضوانًا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ} [الروم:7]، وتذكروا قرب الرحيل من هذه الدار إلى دار القرار، ثم إلى جنة أو نار، فأعدوا لهذا اليوم عدته، واحسبوا له حسابه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَواةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
[/align]
للشيخ:
عمر بن محمد السبيل-رحمه الله-
مواقع النشر (المفضلة)