أورد الحافظ ابن حجر، المتوفى 852هـ، في كتاب "رفع الإصْر عن قضاة مصر"، في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن عبدالسَّلام بن أبي القاسم السُّلمي، المغْربيِّ أصلاً، الدِّمَشْقي مولدًا، ثمَّ المصْري دارًا ووفاة، الشَّافعي مذهبًا، المشْهور بالعزِّ بن عبدالسَّلام، المتوفَّى 660هـ، والملقَّب بسُلْطان العُلماء، أنَّه كان يقول:
"مضتْ لي ثلاثون سنةً لا أنام حَتَّى أُمِرَّ أبْواب الأحْكام على خاطري".
فهل مِن فائدةٍ مِن استحضار أبواب الأحكام؟!
مِن الناس مَن لا تعدو هِمَّتُه في دراسته للفِقْه كتابَ الطهارة، ومنهم الصلاةَ، ومنهُم الصيامَ، وأحسنُ منهم مَن يتجاوز إلى الحج والزَّكاة، وأمَّا مَن درَس البيوعَ فذاك، ومنهم مَن يقفزُ به التفنُّنُ إلى أبْواب النِّكاح والطَّلاق، ولكن كم منهم أَتَمَّ أبوابَ الأحكام ؟! ومَن أتمَّها فكم منهُم أَحْكَمَهَا؟ دَعْ عنك أبوابَ العبادات.
فكأنَّ أكثر طلاب العلم اليوم لا يعنيهم إلاَّ فروض الأعْيان؛ ولكن أين هم مِن فروض الكفايات؟ فإذا ما أمعنت البصرَ والبصيرةَ، وتَفَقَّدتَ جوانبَ الحظيرةِ، وجدتَ الكثيرَ من الفروض ليستْ بقائمة، والقائمون بها قليل لا يكْفون أمر المسلمين، فعلى مَن تعود باللائمة؟!
- أين مَن يحصي أبواب البيوع؟! فضلاً عن أبْواب الفِقْه والأحْكام، في عصرٍ نعيشه هو عصْر البيوع والمعاملات والاقتصاد، وأين البيوع المدوَّنة في كتُب الفقه الإسلامي مِن البيوع المعاصرة والاقتِصاد القائم اليوم؟! ولن يخطئ المرمى مَن يدَّعي أنَّ القوَّة الماديَّة اليوم في هذا الباب؛ فقد مضى عصر اقتِصار القوى العظمى على السلاح، وامتدَّت أيادي دول أخرى إليْه، وظفِرت به، واستولتْ عليْه، فمِنَ الصين إلى كوريا، مرورًا بإيران والاتِّحاد السوفيتي، ثمَّ الاتِّحاد الأوروبي، فدولة الكيان الغاصب وأمريكا، أليْس هؤلاء وغيرهم قد وضع يدَه على السلاح النووي؟! فاليوم هو عصر المال والاقتصاد، وميزان القوى الماديَّة اليوم بناؤه من هذا الباب، والسَّيطرة على الدول والحكومات، وتدمير الشُّعوب والبلاد عن طريق ما يسمَّى بالحصار الاقتِصادي وسياسة التجْويع، وما إلى ذلك.
وليس هذا كلَّ ما هنالك من أمور القوَّة والسيْطرة والهيْمنة؛ ولكنَّه معظمُ الشَّيء، وإن كانت هذه القوَّة الآن، فيما يبدو ظاهرًا أنَّها في انحدار؛ ولكن أين كان المسلِمون وهي في مرحلة البناء؟! ثمَّ أين كانوا وهي في مرحلة القوَّة؟! والآن وهي في مرحلة الانْهيار، فيما يبدو!
لا يعدو موقفُهم موقفَ النَّاظر إلى مجموعةٍ من الصُّور المرْسومة، التي تبيِّن مراحل الصعود والنزول لعصرٍ ما قد مضى، وأحسنهم حالاً مَن جعل يخوض في بيان مزايا الاقتِصاد الإسلامي وقوَّته وأنَّه هو الحل والعلاج، وغير ذلك، ولا دِراية لأحد بهذا العلم القائم القوي، ويتساءل: أين منْه المسلمون؟! وليس أدل على ذلك مِن أن تسأل: ما كُنْه الأزْمة العالميَّة اليوم؟ وكيف حدثتْ؟ وهو سؤال ربَّما يتلعْثم فيه المتخصِّصون، فما ظنُّك بغيرهم؟!
- وأين مَن يحصي أبواب الفرائض؟! وهي مِن أوَّل علم يُرْفَع، ومَحاكم اليوم تعجُّ بالمسلمين يتنازعون ميراثَ ذويهم، وهؤلاء أحسنُهم حالاً، وإلاَّ فما أكثرَ ما يأكل الناسُ أموالَ بعضِهم ظلمًا وعدوانًا! عمدًا أو جهلاً منهم بأحكام المواريث، وبحكمة الله - تعالى - في تقسيمها، وعاقبة مَن يجور فيها، وقد افتتح سبحانه آيات المواريث بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وفي آخرها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13، 14].
- وأين مَن يحصي أبوابَ النكاح؟! وقد انتشر بين المسلمين مِنَ الأنكِحة الفاسدة والباطلة، وتسمَّى زورًا وكذِبًا بالزَّواج العرفي، أو زواج المتعة، وما هو ببعيد في ظلِّ الغزْو الشيعي لمجتمعات المسلمين، وكلُّه بابٌ من الزنا عظيم.
ومِن أخطر أبواب النِّكاح:
فقهُ الأوْلاد، أو أحكام الموْلود، وأعظمُه ما يغيب عن مجتمع الناس اليوم، خاصَّتِهم وعامَّتِهم؛ وهو فقْه تربية الأوْلاد، في زمان صار الأب والأم ليْسا المعهودين المعروفين؛ بل أصبح هُناك آباء وأمَّهات كثيرون يُشاركون في ترْبِية الأوْلاد، منهم: الصُّحف والمجلاَّت على شتَّى أنواعها وألوانِها، والكمبيوتر والإنترنت، والمحمول والتلفاز، والسينما على اختِلاف أشكالِها ووسائلها، ناهيك عن شوارع المسلِمين، والجيران والأهل والأصحاب، ثمَّ القاصمة وهي المدارس، والَّتي قد حوَتْ جُلَّ الموبقات، وأضْحت أبعدَ ما يكون عن مسمَّاها: التربية والتعليم؛ فلا تربية ولا تعليم، وأيُّ تعليم أو تربية تنفع، والَّذين يخرجون منها أبعد ما يكونون عن الأدب والأخلاق؛ بل والعلم النافع المُنْتِج دينيًّا أو دنيويًّا؟!
- وأين الناس مِن أحكام الأسرة؟! وأين هم مِن أحكام العِشْرة بين الزوجين، وبينهما وبين الأولاد؟! وأين حقوق الزَّوجة، والزَّوج، والوالدين، والآباء والأمهات؟! وانظر إلى عقوق هؤلاء لأولئك، وأولئك لهؤلاء، وإلى صلة الأرحام، تعرفْ ما وصلنا إليه مِن البِعاد والجَفاء.
- وأين مَن يعرف أبوابَ القضاء، والشَّهادات، والإمامة، والجهاد؟! وكل ذلك من فُروض الكفايات؛ بل ما عانَى المسلِمون ما عانَوه إلاَّ بسبب جهْلِهم بأحكام مثل هذه الأبواب، فصاروا أحزابًا وشيعًا، يكفِّر بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا، ويستبيح بعضهم دمَ ومالَ بعض، وأحسنُهم حالاً مَنِ اكْتفى بمقاطعة مَن يخالفه في الفكر والمنهج، والجميع ينتسب إلى ملَّة الإسلام، والكل يدَّعي أنَّه الطَّائفة النَّاجية المنصورة، والكلُّ يقول: نحن أهل السنَّة والجماعة.
ولعلَّ الصُّورة لا تكون بمثل هذه القتامة؛ ولكنِّي أحكي واقعَ أمَّة بأسْرِها في بقاع الأرض، لا في بقعة منها، وإلا فلِمَ لَمْ تجتمع أمَّة المليار ونصف المليار على كلِمة أحدهم؟! ولِمَ هم في استِضْعاف وذلٍّ ومهانة؟! ولِمَ هم في شتات واختلاف؟! ولم ولم ولم ...؟
لا أعلم لذلك جوابًا إلاَّ أنَّهم تركوا طريق السَّلف - الَّذين يتبجَّح أكثرُهم بالانتِماء إليْه على اختِلاف شِيَعِهم وأحزابِهم - في العِلْم والتعلُّم، في الإيمان والعمل، في الفَهم والمعرفة، في الآداب والأخلاق، في المعاملات بِجميع صورها وأشكالِها، مع الله، ومع النفس، ومع الغير وإن كان من غير جنس الإنسان.
وما ذكرتُ فهو بعض ما هنالك، وإلاَّ فالقضيَّة أكبر بكثير من ذلك، قد ألْقت بِظلالها على واقع المسلمين في جَميع جنباته، وما تَحتاج إلاَّ أن يتكاتَفَ الجميع على الرُّجوع إلى طريق السَّلف القويم ومنهاجهم المستقِيم في جَميع ما ذكرْنا، وإلاَّ فنحن أَوْلى بالتُّهَم من غيرِنا، وما أُتِينَا إلاَّ مِن قِبَلِ أفهامِنا؛ وهي ناقصة قاصِرة، وناطحْنا برؤُوسنا رؤوسًا قد ناطحت السحبَ في عليائها.
نعم، لا حَجْر على الفهْم، ولكن لا بدَّ أن يكون صحيحَ الأُصول، صافيَ المنابع، قد حصَّل صاحبُه أدواتِ الفهْم وآلاتِ النَّظر، الَّتي اتَّفق عليْها المسلِمون خلال أرْبعة عشر قرنًا، حتَّى أَتَيْنَا نحن في قرْنِنا الغابر، فاختلفنا حوْل هذه الأصولِ، فنظرْنا فيها بغير أدوات فهمِها، وتلك المنابعِ، فاسْتَقَيْنَا منها بغير آلات النَّظَر فيها.
وحتَّى لا يذهب الوهمُ بأحدٍ، أو يطول به الفكرُ؛ فليست هذه الأصولُ وتلك المنابعُ إلا علومَ الكتاب والسنَّة، وما هذه الأدواتُ وتلك الآلاتُ إلاَّ علومَ اللغة والأدب، وما يستتبع كُلَّ علم من الأصول والمنابع من مبادئَ وأصولٍ؛ ولكنْ خاصَّة به على التبع.
أمَّا علوم اللغة والأدب، فهي العلوم الأم؛ بمعنى: أنَّه لا يصل الإنسان إلى الفهْم الصَّحيح، والإدراك السليم لمعاني ومقاصد وأحكام نصوص الكتاب والسنَّة؛ إلاَّ من خلالها، ولا يتوقَّف ذلك على معرفة النَّحو والصَّرف؛ بل لا بدَّ من الغوص في كتب الأدَب والشِّعر، ولا بدَّ من معرفة دلالات كلام العرب، وألفاظ العرب، في محاوراتهم وكلامهم، ونظمهم وشعرهم، والغوص في بيئتهم، والنظر في تصرُّفاتِهم واستخداماتهم للكلام.
وهذا أمر قد يكون بالنِّسْبة إلى السَّلف من البداهة بمكان؛ ولكنَّه صار الآن ممَّا يحتاج إلى التَّدليل عليه، والإشارة إليه، والاستدلال له، ولا يسع ذلك هذا المقام، وإنَّما هي إشارات.
وأمَّا سائر العلوم، فكما ذكرنا: يستتبِع كُلَّ علم من الأصول والمنابع من مبادئَ وأصولٍ؛ ولكنْ خاصة به على التبع.
فعلى سبيل المثال: القرآن له علمُ أصولٍ خاص به؛ وهو علم "علوم القرآن"، وثَمَّ غَيْرُهُ.
وعلمُ التفسير له علمُ أصولٍ خاص به، وهو علم "أصول وقواعد التفسير"، وثَمَّ غَيْرُهُ.
ومن السنة علومها كثيرة جدًا، وتنقسم إلى علوم رواية وعلوم دراية، وهكذا.
وممَّا يشمل الأصلين: عِلْمُ الفقه، وأُسُّهُ وأَسَاسُهُ، ومبدؤه ومنتهاه، وأُمُّ رَأْسِه: علمُ أصول الفقه، المجنيّ عليه، المهدر دمُه، وهو الَّذي جمع بين طيَّاته أصولَ أهل السنَّة والجماعة، ففيه أبواب أدلَّة الأحكام الشرعية، من الكتاب والسنَّة والإجماع، وفيه أدوات النَّظر، ومنها القياس، وفيه بيانٌ للنَّاظر المفيد، وهو المجتهد، وبيانٌ للمستفيد.
ومنه – أي: علم أصول الفقه - علم القواعد الفقهيَّة الكبرى، إلى مقاصد الشريعة الغراء.
عودة إلى مقولة الإمام العز، والتي تبيِّن مدى شموليَّة هذه الشريعة، ومدى نظر هؤلاء العلماء إلى الشَّريعة في كلِّيَّتها وشمولها، وما كان يشغل بالَهم وتفكيرَهم في حِلِّهم وتَرْحَالهم، وفي وقت يقظتِهم بل ومنامهم.
وإليْك بعضَ أبواب الأحْكام على الإجْمال:
الطَّهارة - الصَّلاة - الجنائز - الزَّكاة - الصِّيام - الحج والعُمْرة - البيوع - الإجارة - الوقْف - الوصايا - الفرائِض - العِتْق - النِّكاح - الرَّضاع - الصداق - الطَّلاق - الظِّهار - اللِّعان - الأطعِمة - الصَّيد - الأيْمان - الجنايات - الدِّيات - الحدود - الجهاد - القضَاء - الشهادات.
هذه الأبْواب من أسهل كتُب الفقه، وهو العمدة للشَّيخ الموفق ابن قدامة، المتوفَّى 620هـ، وفي ثنايا ذلك أبوابٌ أُخَر، وفوق ذلك أبوابٌ أُخَر، ويقاس عَقلُ المرء وفَهمُه وفِقهُه، على قدر استيعابه لأبْواب الشريعة، وليس هذا مجال المبتدئين، وإنَّما ذلك آخِر محطَّات المتقدمين، ومنه يلج أحدهم إلى باب العلماء، فالمجتهدين.
وهناك تقسيم آخَر يقرِّب إليك استيعابَ أبْواب الأحكام وبيانَ شموليتها، ويوضِّح معناها ومقصودَها، وهو تقسيم أورده د. عبدالكريم زيدان في كتابه الماتع "أصول الدعوة" (ص: 53، وما بعدها)، قال: "وأحكام الإسلام بالنِّسْبة لما تتعلَّق به تنقسم إلى الأقسام الآتية:
أوَّلاً: أحكام العقيدة الإسلاميَّة، وهي تتعلَّق بأمور العقيدة؛ كالإيمان بالله واليوم الآخر، وهذه هي الأمور الاعتقاديَّة.
ثانيًا: أحكام الأخْلاق، وهي المتعلِّقة بما يجب أن يتحلَّى به المسلم، وما يجب أن يتخلَّى عنه؛ كوجوب الصدق، وحرمة الكذب.
ثالثًا: أحكام تتعلَّق بتنظيم علاقة الإنسان بخالقِه؛ كالصَّلاة، والصيام، وغيرها من العبادات.
رابعًا: أحكام تتعلَّق بتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم؛ وهذه على أنواع:
أ- أحكام الأسرة من نكاح، وطلاق، وإرث، ونفقة ... إلخ، وتسمى في الاصطِلاح الحديث بأحكام الأسرة، أو قانون الأحوال الشخصية.
ب- أحكام تتعلَّق بعلاقات الأفراد ومعاملاتهم؛ كالبَيع، والإجارة، والرهن، والكفالة، وهي التي تسمَّى في الاصطِلاح الحديث بأحكام المعاملات الماليَّة أو بالقانون المدني.
ت- أحْكام تتعلَّق بالقضاء، والدَّعوى، وأصول الحُكْم، والشَّهادة، واليمين، والبَيِّنَات، وهي تدخُل فيما يسمَّى اليوم بقانون المرافعات.
ث- أحكام تتعلَّق بِمعاملات الأجانِب غيرِ المسْلِمين عند دخولِهم إلى إقليم الدَّولة الإسلاميَّة، والحقوق التي يتمتَّعون بها، والتَّكاليف التي يلتزِمون بها، وهذه الأحْكام تدخل فيما يسمَّى اليوم بالقانون الدَّولي الخاص.
ج- أحكام تتعلَّق بتنظيم علاقات الدَّولة الإسلاميَّة بالدُّول الأخرى في السِّلْم والحرب، وتدخل فيما يسمَّى اليوم بالقانون الدولي العام.
ح- أحكام تتعلَّق بنظام الحكم وقواعده، وكيفية اختيار رئيس الدَّولة، وشكْل الحكومة، وعلاقات الأفراد بها، وحقوقهم إزاءَها، وهي تدخل فيما يسمَّى اليوم بالقانون الدستوري.
خ- أحكام تتعلَّق بموارد الدَّولة الإسلاميَّة ومصارفها، وتنظيم العلاقات الماليَّة بين الأفراد والدَّولة، وبين الأغنياء والفُقَراء، وهي تدخُل في القانون المالي بمختلف فروعه.
د- أحكام تتعلَّق بتحْديد علاقة الفرْد بالدَّولة من جهة الأفْعال المنهي عنْها (الجرائم، ومقْدار عقوبة كلِّ جريمة، ...) وهذه تدْخُل فيما يسمَّى اليوم بالقانون الجنائي، ويلحق بِهذه الأحكام الإجراءاتُ التي تُتَّبَع في تحقيق الجرائم، وإنزال العقوبات بالمجْرِمين، وكيفيَّة تنفيذها، وهي تدخل فيما يسمَّى اليوم بقانون تحقيق الجنايات أو بقانون المرافعات الجزائية". اهـ.
وإذا بلغتَ هذا علمتَ مكانة العز بن عبدالسَّلام في فَهم مصالح الشَّريعة ومقاصدها، وكيف أنَّه من أولئك العلماء الذين أرْسوا قواعدَ علم المقاصد والقواعد والمصالِح، هذا إن أفرَدْناه علمًا مستقلاًّ، وإلاَّ فما هو إلاَّ الابن الشرعي لعلم القواعد الفقهيَّة الكبرى، ومبناها على جلْب المصالح ودرْء المفاسد، وكلاهما خرج من بَطْنِ علم أصول الفقه، فلا مقاصد بدونه، ولا قواعد إلاَّ من خلاله، ومَن تبيَّن له هذا، عَلِمَ مدى جناية المتأخرين على هذا العلم الأصيل.
المقصود أنَّه - رحِمه الله - هو مِن أوَّل مَن كتَب فيه وصنَّف، وكلُّ مَن جاء بعدَه فقدِ استفاد منه أيَّما استفادة، وربَّما تجِد في ثنايا كلام الأكابر - كالنَّووي (ت: 676هـ)، والقرافي (ت: 684هـ)، وابن تيمية (ت: 728هـ)، وابن القيم (ت: 751هـ)، والشاطبي (ت: 790هـ)، والزركشي (ت: 794هـ)، وابن فرحون (799هـ)، والسيوطي (ت: 911هـ)، وابن نجيم (ت: 969هـ)، وابن النجار الفتوحي (ت: 972هـ)، إلى شاه الله الدهلوي (ت: 1176هـ) وغيرهم - مِنَ الجُمَل والتَّقريرات ما أَصْلُُه وفَصْلُه - وأَحيانًا حروفه - تَجِدها في كلام العزِّ - رحِمه الله - ولعلَّ أوْسع كتُبه في المقاصد شهرةً هو كتاب: "القواعد الكبرى"، أو كتاب: "قواعد الأحكام في إصْلاح الأنام"، المشْهور بين الناس بـ: "قواعد الأحْكام في مصالح الأنام"، وإن كان - رحِمه الله - قد صنَّف غيرَه في مقاصِد الشَّريعة، وقدِ اعتنى العُلماء بكتُبِه أيَّما عناية.
وتَجدر الإشارة إلى أشْهَر تلاميذه:
- شهاب الدين أبو شامة المقدسي (ت: 665هـ).
- ابن المُنَيِّر الإسكندري (ت: 683هـ).
- شهاب الدين القرافي (ت: 684هـ).
- تاج الدين ابن الفركاح (ت: 690هـ).
- أبو العباس ابن فرج الإشبيلي (ت: 699هـ).
- تقي الدين ابن دقيق العيد (ت: 702هـ).
- شرف الدين الدمياطي (ت: 705هـ).
وغيرهم كثير.
واختصارًا وليس آخرًا:
فالإلمام بأبْواب الأحكام طريقُ الفقهاء والعلماء والمجتهدين، فمَن أدرك أبوابَها، وَوَلَج في فصولِها، وغاص في مسائلها؛ فعرَف الأشباهَ والنظائرَ، وفَهِم القواعدَ والضوابطَ، وأَحْكَمَ المقاصدَ والمصالحَ، وأَوْدَعَ الحَبْسَ المَفَاسِدَ - فهو منهم لا محالة، كلمة واحدة، لا يَختلف عليه، ولا يَتقدم بين يديه؛ إلاَّ جاهلٌ أو مكابرٌ أو حاسدٌ.
بقلم بهاء الدين الزهري بارك الله فيه وجعلها في ميزان حسناته
مواقع النشر (المفضلة)