الحمدُ لله وَحْدَه، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نَبِيَّ بعده، وبعدُ:
فإنَّ العلماءَ المُجتَهدينَ تَخْتَلِفُ فَتْوَاهم للمُسْتَفْتِينَ، باخْتِلاف أَقْوالِهم في المسألة، وهذا الخِلاف له أسبابُه، ليس المجال بَسْطها[1]، والخِلاف الواقع في الأمَّة قسمانِ:
القسم الأول: خِلافٌ مذمومٌ، غير معذورٍ صاحبُه.
والقسم الثاني: خِلافٌ غير مذموم، معذورٌ صاحبُه.
فالقسم الأول: ما كان في أصْلِ الدِّين، أو ما كان في الفُرُوع الفِقْهيَّة؛ لكنَّه مَبْنِيٌّ على الهوى؛ لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى التَّفَرُّق.
أمَّا القسم الثاني: فهو ما كان في الفُرُوع الفِقهيَّة، والمُعْتَبَر منه مالَه حَظٌّ مِنَ النَّظَر بعد اجتهادٍ مِن أهله.
[frame="1 98"]
وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلافا له حظ من النظر
[/frame]
ونحن اليوم في زَمَنٍ أَصْبَحَ العالَمُ فيه كالقَرْية الواحدة - كما يُقال - وهناكَ الملايين منَ المسلمينَ يَسْتَمِعونَ إلى الفتاوى، عن طريقِ الإذاعات، أوِ القَنَواتِ الفَضَائيَّة، وليس عند كثيرٍ منهم فِقْهٌ في التَّعامُل معها، فهذا الأمرَ خطيرٌ؛ حيثُ إنَّ التَّساهُل في التَّعامُل مع الفتوى، وأخْذ ما يَشْتَهِي المُكَلَّف منها قد يُؤَدِّي به إلى الزَّنْدَقة؛ حيثُ إنَّه مَنْ تَتَبَّع الرُّخَص - أي: رُخَص الفُقَهاء وليستْ رُخَص الشَّرع - فيأخذ بما يهوى، وينتقل مِن قولٍ إلى آخر، وهذا حرامٌ إجماعًا، فَلَيْسَ لِلْمُقَلِّد أنْ يَتَخَيَّرَ في الخِلاف، وليسَ له أن يَتَّبِعَ الهوى في الفُتيا[2]؛ لأنَّ في ذلك إعراضًا عنِ الدَّليل، فلا يَبْقى شيءٌ يُمكن فيه التَّحَاكم إلى الله - عَزَّ وجَلَّ - والله - تعالى - يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[3].
وإنَّ الشَّريعة صالحةٌ لِكُل زمان ومكان، وهي الخيرُ كله، وإنَّ الشَّرَّ في اتِّباع الهوى، وكما أن اتِّباع الهوى مَزْلق خَطيرٌ للمُسْتَفْتِي، فكذلك لِلمُفْتِي، وكمِ الذين يدَّعون مُجَاراة الواقع في فتاويهم، ويُخْضِعُون أحكامَ الشريعةِ للواقع، ثُمَّ بعد ذلك يزعمونَ أنَّ ذلك من باب "تَغَيُّر الفتوى".
وقد ذكر ابن القَيِّم أنَّ باب "تَغَيُّر الفتوى" يكون بِاخْتلافِ عَوَائدِ الناس، وأحوالهم، وأَزْمِنتهم، التي تُبْنَى عليها الفتوى، وأمَّا حُكْم الله ورسوله فإنَّه لا يَتَغَيَّر، وعَقَد لِذَلك فَصْلاً في كتابه "إعلام المُوَقِّعين"، فقال: "فصل في تَغَيُّر الفتوى واختلافها، بِحَسب تَغَيُّر الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيَّات، والعَوَائد"[4].
بينما هؤلاءِ الزَّاعمونَ يُريدُونَ تَغْيير الحُكْم الشَّرعي؛ مُجَارَاةً للوَاقِع.
لقد كَثُرَ المُفْتونَ الذين يجب الحَجْر عليهم، وهناكَ الكثيرُ مِن غير المُتَخَصِّصين في الشَّريعة الإسلامية، يَخُوضونَ في مسائل الشَّريعة أصولاً وفُرُوعًا، وبِكُلِّ جَرَاءة، وليس لهم فِقْه في الأمر.
وهناكَ الكثيرُ مِن عامَّة الناس، يَأخُذُونُ مِن كل مَنْ تَكَلَّمَ في الشَّرع، وبالتَّالي يزداد المُتَكَلِّمونَ على الله بِغَيْر عِلْم.
وإنَّ مِنَ العَجَب العُجَاب، حينما نرى المُسْتَفْتِي يَهْرَعُ إلى الطَّبيب، إنْ أَحَسَّ بِأَلَمٍ في جسمه، ويَتَوَجَّه إلى المُهندس إن أراد بناء مَنْزل، ونجده يسأل عنْ مجهول الحال، إلى أن يغلبَ على ظنِّه أنه طبيبٌ أو مهندسٌ، فنجده هنا قدَّر أهلَ الاختصاص، وأنزلهم منازلهم، وأصبح لَدَيْه فِقْه في ذلك.
لكن لِلأَسف نجدُه في أمورِه الدِّينية - التي هي الأهم - يَذْهَبُ إلى أيِّ أحدٍ ويَسْتَفْتيه في دِينه، ولا يسأل عَنْ مجهول الحال، مع أنَّ أمورَه الدِّينيَّة هي التي يحتاج إليها دائمًا، والدِّين هو الذي ينفعه، إذا فارَقَه الأهل والمال، وهو وحيدٌ في وَحْشَة القَبْر.
فلا بُدَّ مِن سؤال أهْلِ العلم المَوْثُوقينَ، لكن ما الموقفُ الصَّحيح للمُسْتَفْتِي مِن تَعَدُّد المُفتِينَ الثِّقات؟
إنَّ الموقفَ الصَّحيح يجبُ أن يكونَ مُنضبطًا، وذلكَ في عَرْض مسألَتِه على عالِمٍ يَثِق به، فإن أَفْتاه العالِم في مسألتِه، فَلْيأخذ بها، ولا يَسْأل مُفتيًا آخر عن ذاتِ المسألة، وله أن يَسْأَلَه في مسألةٍ أخرى.
وهذا فيه فِقْه للمُستَفْتي، وحِرْصٌ على تطبيق شَرْع الله؛ حتى يخرجَ مِن عُهْدَة التَّكليف بِمَا وَافَق الشَّرع، وإنَّ الإخلال بِهَذا المنهج الصَّحيح يُوقِع المُكَلف في مَحَاذير، قد تُورِدُه المَهَالِك، وإنَّ الإخلال الحاصلَ في حياة كثيرٍ منَ المُسلمينَ يجبُ إصلاحُه.
ومن هنا أُنادِي جميع القائمينَ على برامج الإفتاء، مثل: "نور على الدَّرب" في إذاعة القرآن الكريم، وبرنامج: "الجواب الكافي" في قناة المجد، وغيرها، وأطالبهم بأن يكونَ هناك تسجيلٌ قبل بَدْء البَرْنامج لعالِم؛ يُبَيِّن فيه موقفَ المُسْتَفْتِي مِن تَعَدُّد المُفْتين، وَيَتَكَرَّر هذا التسجيل كُلَّما تَكَرَّر البرنامج، وتكون مُدّته ثلاث دقائق فقط، وليس هناك عذرٌ للقائمينَ.
هذا؛ وإنَّ الإفتاء مَنْصبٌ رفيعٌ، فهو توقيع عنِ الله - تعالى.
قال ابن القيم: "إذا كان منصبُ التَّوقيع عنِ الملوك بالمَحل الذي لا يُنكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو أعلى المَرَاتب السنيات، فكيف بِمَنصب التَّوقيع عن ربِّ الأرض والسَّماوات"[5].
وإنَّ الله - تعالى - أفتى بِنَفسه في أكثر مِن موضع؛ فقال - تعالى -: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ}[6]، وقد حَرَّم الله - سبحانه - القول عليه بِغَير علمٍ في الفُتيا والقَضَاء، وجعلَهُ مِن أعظم المُحَرَّمَات؛ بل جَعَلَه في المرتبة العُليا منها.
قال - تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[7][8].
إنَّ الميزان الذي يضبط المخبر عن حُكْمٍ شرعي - هو أن يفتيَ بِمَعْرفته بالحكم يقينًا أو ظَنًّا راجحاً بالدَّليل، ومن غير شُذُوذ، ويكون بِهُدوء بالٍ، وذلك بعد تَصَوُّر مسألة المُستفتي تَصَوُّرًا تامًّا.
فلو كان المفتونَ كلهم بِهَذه الطريقة لَعُبِد الله على بَصيرةٍ، وتَوَحَّدَ الصَّف، واجتمعتِ الكلمة، لكن للأسف، لَمَّا اخْتَلَّ هذا الميزان عند بعضِ المُفْتينَ، جاء مَن يلوي أعناق النُّصوص؛ لِتُوَافِق ما يهوى، وهو بِذَلك يُحَقِّق أهداف المُتَرَبِّصينَ بالإسلام والمسلمين.
أسألُ اللهَ - تعالى - أن يُصْلِحَ حال المسلمينَ. وَصَلَّى الله على محمد، وعلى آله وسلم.
[1] هناك كُتُبٌ مُسْتَقِلَّة في أسباب اختلاف الفُقَهاء، منها: "رفع المَلاَم عنِ الأئمَّة الأعلام"، لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، وكتاب: "أسباب اختلافِ الفقهاء" للدكتور/ عبدالله التركي.
[2] انظر "المُوَافَقَات"، بِتَعْليق الشيخ/ عبدالله دراز 4/132.
[3] سورة النساء آية 65.
[4] "إعلام الموقعين" 3 / 3.
[5] "إعلام الموقعينَ".
[6] سورة النساء آية 76.
[7] سورة الأعراف.
[8] "إعلام الموقعينَ" 1 / 38.
إبراهيم السلمي
مواقع النشر (المفضلة)