يخطئ علمُ النفس وعلم الاجتماع وجلُّ العلوم التي تتعامل مع الإنسان من حيث هو سلوكات اجتماعيةٌ أو تجمعاتٌ بشرية - كعلم النفس وعلم الاجتماع مثلا - عندما تتعامل معه باعتباره عاقلاً مائة بالمائة؛ يتصرف بوعي وقصدية وإرادة في كل حركاته وسكناته، وفي ذلك - دون مرية - تجميد للإنسانية وإقصاءٌ لخصائصها.
فأكثر سلوكات الإنسان عادات وتقاليد[1] تكونت في ظروف غامضة تراكب بعضها فوق بعض، كظلمات الليل؛ فأنتجت نوعًا من البشر، بسلوكات معينة، بل يمكن القول كذلك - بشكل أكثر يسرًا - إن الغالبية العظمى من البشر لا يخضعون في فعلهم وسلوكهم - وكذا مشاعرهم - لقوانين خاصة قننوها؛ أي لمنطق عقلي؛ فالبشر ليسوا عقلانيين مائة بالمائة (100%).
إن العوامل الصغيرة قد تؤدي إلى نتائجَ كبيرةٍ غير متوقعةٍ، وربما لا تؤدي الكبيرة إلى نتائج ذات بال. فقد تقلب ابتسامة متواضعة مجرى حياة رجل عظيم، وقد تسبب تكشيرة هينة مشاكل جليلة، فعوامل التغيير والتأثير محيطة بالبشر من كل حدب وصوب تتداخل تداخلا غريبًا لتنتج سلوكيات عجيبة، فلا تطمع في ضبطها والتقنين لها؛ لتعدُّدها من جهة، وتداخلها من جهة أخرى، وتباين تأثيراتها من جهة ثالثةٍ؛ إذ يصعب وضع فيْصلٍ يجعل البون واضحًا بين كبيرها وصغيرها من حيث التأثير...
كما أن للسوابق واللواحق والسياق والسباق والمآلات أثرًا في ذلك كبيرًا، فالعامل المؤثر الواحد يختلف باختلاف العناصر المذكورة، فسياق الفرح غير سياق الترح. والمقبل على الجميل غير المقبل على المشين...
صحيح أن هناك بعض البشر الذين يحكم العقل والفكر والحكمة سلوكياتِهم وتصرفاتهم وتصوراتهم؛ وهم قلة، إلا أن الغالبية الساحقة من أبناء جنسنا يخضعون لقانون مرن، إن صح وصف القانون بالمرونة؛ فتقودهم الثقافة إلى أهدافها قودًا، علمًا منهم أو جهلاً.
إن المنطق الذي يحكم الظواهر الاجتماعية عامةً منطق خاص؛ ولا أرى أنه المنطق العلمي الذي يحكم الظواهر الطبيعية والفيزيائية؛ بل هو منطق فريد من نوعه؛ ولم أرَ إلى الآن من ضبطه وحدد حدوده وأصوله[2].
ما يتوافر في السوق دراسات وصفية قاصرة عن بلوغ المقاصد المسطرة للعلم قبلاً؛ لا تفرق بين جامد[3] ومتحرك[4]؛ بل تُخضع الحي لما تخضع له الجامد وشتان ما بينهما!
إن المنطق أو القانون الذي يحكم الظاهرة الإنسانية فوق المنهج العلمي[5] المتداول في أيامنا، إنه أشمل وأعم وأدق، تتداخل فيه عوامل كثيرة في أوقات متباينة ووضعيات مختلفة وحالات وجدانية خاصة... الأمر الذي يجعل النتائج تختلف مع اتحاد الأسباب. وعما قريب -إن شاء ربي- سأوافيكم بأبعاض مواصفات وملامح المنهج.
بكل يسر وسهولة: لا تنتظر من العلوم التي تتعامل مع الإنسان؛ بمنطقها هذا؛ أن تصل إلى نتائج مشرفة مشرقة، فجل ما تبلغه وما بلغته هو نوع من الرجم بالغيب أو حدسٌ وفرضياتٌ لم تؤسس على النحو الذي يتصرف به بنو الإنسان عامة.
مواصفات المنهج الذي يتخذ من الظواهر البشرية موضوعًا:
يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
- السلوك / الفعل / الشعور البشري ليس آليًّا؛ فمن سماته الحرية والمرونة؛ وهي فريدة من نوعها.
- عوامل التأثير والتغيير كثيرة وكثيرة يصعب فرزها والتمييز بين دقها وجلها، ضعيفها وقويها.
- فقه السياق والسباق/ والسوابق واللواحق والوضعيات، فالمؤثر الصغير في وضعية معينة قد يصير كبيرًا، وفي وضعية أخرى صغيرًا، وفي أخرى ثالثة غير مؤثر مطلقًا.
- كثير من البشر لا يفهمون أنفسهم ولا يدركون أسرارهم، فلا يعتد بأقوالهم في وصف وتفسير ذواتهم[6]. وأكثر الناس معرفة بغيرهم أكثرهم معرفة بأنفسهم. فاحفظ هذه القاعدة رحمك الله.
- العلاقة بين اثنين تمر بثلاث مراحل:
1) مرحلة التمثيل أو أداء الأدوار.
2) مرحلة التوسط حيث تظهر الثقوب السوداء
3) ومرحلة الحقيقة[7]...
- النفاق الاجتماعي مُستَشرٍ في المجتمعات المتخلفة، فليس ما يقال مطابقًا للقار بالنفس. وقد يكون هذا القارُّ الواقرُ فيها غير معلوم لدى صاحبه.
- العقل عادات والعادات عقول: تترعرع العقول في حضنِ الثقافةِ؛ فالغنى ثقافة والفقر ثقافة والتفكير السليم ثقافة والمعوجُّ ثقافة... فالعقول ابنة الثقافة وهذه أمُُّ؛ صدق أو لا تصدق.
- يحكم جل البشر منطق التقليد[8]، فتتوحد مع بعضها بشكل عجيب. وتجدر الإشارة إلى أن الثقافة إرث، والتنافسَ من آليات التعلم.
- الكائن البشري كائن مُؤول بامتياز. وما أفسد الأديان والعلاقات إلا تأويل فاسد راجمٌ بالغيب.
- الأثرة وحب الذات[9] فَعَلَ في الناس الأفاعيل. فالعالم –الآن– يتكون من عدة أنوات (أنا+ أنا+ أنا)، علاقة بعضهم ببعض علاقة أنا بأنا ويترتب عن ذلك: سوء (التموقع)[10].
والأنانية نوعان:
* أنانية كبرى: حب الذات وإيثارها على غيرها.
* أنانية صغرى: بين الأقارب؛ الأقرب فالأقرب (العصبية للقريب) والقرابة هنا عامة.
- (التموضعُ) بغض الطرف عن الآخرين أو الإقصاء المقَنَّعُ، ومن جرائرِ ذلك أن توترت العلاقة بين الرئيس والمرؤوس والراعي والرعية والأب والأبناء...
- الانسياق مع الظواهر والمظاهر عن الجواهر والأصول والكليات ناتج عن عوامل منها: التربية (الشكلانية) في البيت والمدرسة والمجتمع وعبر قنوات الإعلام...
- حبُّ الانحدار ورفض الرقي: ميلان البشر إلى اليسير السهل الذي لا يكلف جهدًا، وإعراضهم عما فيه جهدٌ وجدٌ؛ إذ إنه مُكَلِّف.
- الإنسان اجتماعي بطبعه في سياقات، أقول: وانفرادي بطبعه في أخرى. وإذا تأملنا اجتماعيته لا نجدها تخلو من انعزالية (فردانية)، وكذا إذا تأملنا فردانيته لا نلفيها تخلو من اجتماعية...
- الاقتناع سلوك قلبي وليس سلوكا عقليًّا. فالاقتناع قابلية داخلية عقلية قلبية. فلا تطمع في إقناع قبل القابلية[11].
- الإيمان يسوق الناس إلى تحقيق أمانيهم سوقًا.
- لا ينجح في إخلاص النية إلا قلة قليلة. فالجانب المادي (المقابلي) –قصير المدى- مهيمن هيمنة على تصرفات الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأدبية...
- الرغبة الجنسية محرك عظيم لسلوكيات الناس؛ فمن شدة قوة هذه الرغبة تتعطل الأفكار وأجهزة التحكم كلها ويبقي المجال مفتوحا لها.
- الحاجاتُ - الفقر - تولد المداهنة والنفاق والتعلق الوجداني بالأقوياء.
[1] وليس العقل في نظري إلا عادات وتقاليد مترسبة، في هيكل متوافر قبلا.
[2] النصوص الشرعية القرآنية والسنية أبرزت كل حقائق الإنسان من حيث الجملة مع شيء من التفصيل في مواضع منها، إلا أن الناس لم يلتفتوا إليها ليستنبطوا منها ما يخدم النوع المعين والزمان المحدد...
[3] الجمود هنا باعتبار الجزء لا الكل.
[4] الحركة هنا من نوع خاص غير الحركة المعهودة في الأجسام المادية؛ لأن الحركة في الأجسام المادية منضبطة بقانون أما في غير الماديات فغير منضبطة.
[5] إن المنهج البشري؛ أي منهج؛ ناقص وتمامه الجزئي في تطويره وتجديده. فالذي يليق منهجًا بهذه المسالة ربما لا يليق بأخرى، وإذا لم يحقق المنهج أهدافه المسطرة فلا يعد علميًّا في المسألة التي أخفق فيها: إن الذي يحكم للمنهج بالعلمية هو قدرته على تفسير الظاهرة بنجاح، فيقود إلى الإصلاح والصلاح.
[6] ومن هنا فإن الدراسات الميدانية التي تستقي المعلومات من أفواه الناس مشكوك في علميتها.
[7] للاستزادة في هذا المطلوب العود إلى نظريتنا في العلاقات الاجتماعية.
[8] التقليد هنا ليس معنى قيميًّا، فقد يكون التقليد مفيدًا أو ضارًّا.
[9] حب الذات المرضي؛ إذ ليس كل حب للذات مرضيًّا؛ فمنه الصحي ومنه غيره. فالصحي محمود مرغب فيه مفيد والمرضي واضح من اسمه جلي.
[10] للتفصيل في "حسن التموقع/ سوء التموقع" المطلوب العود إلى نظريتنا في الموضوع.
[11] لفقه الإقناع/ والاقتناع المطلوب العود إلى نظريتنا في الموضوع.
حنافي جواد
مواقع النشر (المفضلة)