بسم الله الرحمن الرحيم
اختار الله - سبحانه وتعالى - السورة التي سمَّاها (سورة الحشر)؛ ليوضِّح فيها موقف أهل الحشر، حيث ينقسم الناس في نهاية هذا اليوم إلى فريقين، فقال - تعالى -: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20].
نعم، أصحاب الجنة هم الفائزون؛ لأنهم في روضات الجنة يُحبرون، ووجوههم ناضرة، إلى ربِّها ناظرة، وناعمة، لسعيها راضية، بعضهم مقرَّبون في جنات النعيم {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيهَا مُتَقَابِلِينَ * يطُوفُ عَلَيهِمْ وَلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأكْوَابٍ وَأبَارِيقَ وَكَأسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 15 - 18]، وبعضهم في عيشة راضية، في جنةٍ وصَفَها الله بأوصاف تخلب العقول، وقطوفها دانية، لا تحتاج إلى مجهود لقطافها، وهذه الجنات على أنواع كبيرة في درجاتها؛ لأن الآخرة - كما بيَّن الله سبحانه - أكبر درجات، وفي تفضيل هذه الدرجات أكبر تفضيلاً.
وهذه الجنَّات مهما وضَّح الله بعض ما فيها من سدرٍ مخضود، أو طلح منضود، أو الفواكه المتنوعة، فهي كما قال عنها الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر بقلب بشر))، هذا رغم كل الصفات التي تقرِّب شكل الجنة إلى الأذهان؛ من عُيُون جارية، وسُرر مرفوعة، وكل الأوصاف التي جاءت في سورة الغاشية.
فإذا تعلَّق قلبُك بهذه الجنة ونعيمها ومنعمها، عليك أن تعرف الطريق السَّوي الذي يصل بك إلى هذا المنتهى، إنه الصراط المستقيم، أما سبب ذلك النعيم الخالد، فيبيِّنه الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 16 - 19].
وكان لأصحاب الجنة في دنياهم مُثُلٌ عُلْيا؛ في معاملاتهم، وفي سلوكهم مع الناس، وصفهم بأنهم في دنياهم: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، ولا يبتعدون عن الله - سبحانه - ساعةً من ليل أو نهار، ولا يفترون عن عبادته، وتأمَّل بقية أوصاف الله - سبحانه - لهؤلاء العباد: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 64 - 66]، هذه الفئة التي سعت إلى طريق الفلاح فهمَتِ الدنيا على حقيقتها، وأدركوا أن الأموال التي في أيديهم فتنة، فأنفقوها حيث أمرهم الله، وكانوا خير الأعوان لمن احتاج إلى ما في أيديهم من مال وبحسابٍ دقيق: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، ومع اعتدالهم في كلِّ أمورهم، وصلتهم القوية مع الله - سبحانه وتعالى - فإنهم لم يفكروا في أيِّ ظلمٍ قد يصيب الإنسان، وفي نفس الوقت لا يخافون أبدًا لومة لائم عند الحقِّ، وبذلك استطاعوا أن يضعوا الحياة الدنيا في إطارها الصحيح، وهذا ما نرجوه من كلِّ مسلمٍ مؤمن {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68].
ومن الصفات التي يجب أن نتعلمها جيِّدًا ونلتزم بها، محاسبة النفس أولاً بأول، وهكذا كان يفعل عباد الرحمن، كانوا يحاسِبون أنفسهم قبل أن يحاسَبوا؛ آملين فيما عند الله من حسن الثواب، وانظر في صفاتهم حتى نقلدهم كما قال الشاعر:
وَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ ***********إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ فَلاَحُوالله - سبحانه وتعالى - يوضح لنا صفاتهم لنقتدي بهم، فتأمَّل قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 72، 73].
وقبل كلِّ ذلك نجد أنهم اعتصموا بحبل الله المتين، فكان لهم شأن عظيم، وكان من شأنهم ما كان؛ لأنهم في علاقتهم بالغيب إذعان تام لعالم الغيب والشهادة، ودون هذه العلاقة الوطيدة مع الغيب وعالم الغيب فلا قيمة لشيء، ولتصل إلى هذا المستوى الرفيع من الإنسانية أو البشرية أو الآدمية؛ يجب أن تدخل إلى الفكر من المدخل الصحيح، كما يقول - تعالى -: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3، 4].
كما يجب عليك أن تكون معتدلاً في علاقتك بالله - سبحانه - وبالغيب كله، كذلك يجب عليك أن تخلص العبادة لله، وألا تنسى أنه يعلم السرَّ وأخفى، وهذا هو طريق الفلاح، وتأمَّل في وصف الله - سبحانه وتعالى - لعباده المفلحين: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 2 - 5]، وإذا أردت أن تقوم بخلافتك على الأرض خير قيام، وكما أرادها الله - سبحانه وتعالى - حين أوجدك، تدبَّر أيضًا كيف كان السلف الصالح في هذه المسألة، لقد كانوا نعم الخلفاء: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 8، 9].
كل هذا عن أصحاب الجنة: من هم، صفاتهم، أسلوب حياتهم، وما أعدَّه الله لهم من جنات بكل درجاتها؛ سواء كانت من الدرجات العليا {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48]، أم من الدرجات الأقل {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64].
أما أصحاب السعير وصفاتهم وأحوالهم، فكما بين الله - سبحانه -: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35].
ولم يكتفوا بضلالهم وفسادهم، ولكنهم حاولوا أن يفسدوا كلَّ من في الأرض، وأرادوا نشر الفساد، وكانوا أعوانًا للشيطان على إخوانهم من بني الإنسان، وكانوا مغاليقَ للخير، ومفاتيحَ للشرِّ، ومع ذلك ظنوا أن لهم قيمةً أكبر {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29، 30]، ومع استكبارهم في الأرض ومكرهم السيِّئ، كانوا يقابلون دعوة الهداية بالاستهزاء، وإذا تُليتْ عليهم آياتُ الله لعلهم يؤمنون بها، ازدادوا بُعدًا عن الله، وقستْ قلوبهم، وأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، وطبع على قلوبهم بفساد عقولهم وسوء سلوكهم، ونتأمَّل وَصْفَ عَلاَّم الغيوب العليم الخبير لهم: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
فلم يَسْلموا من أنفسهم، ولم يَسْلم مَن حولهم مِن شرورهم، حتى إن المؤمنين الذين ابتعدوا عنهم وعن مجالسهم ومخالطتهم، وسلكوا سبل الرشاد، لم يَسْلموا من شرورهم {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 109، 110].
كما بيَّن الله - سبحانه وتعالى - أصناف هذه النوعية الكافرة الفاجرة في كتابه المُحْكم؛ حتى نعرف هذه الخصال المذمومة ونبتعد عنها - بإذن الله - بقدر الإمكان، وهذه هي رحمة الله الواسعة.
وأضلُّ صنف من الناس هي النوعية الكافرة المشركة أو الملحدة، الذين يتخذون من دون الله أندادًا ويحبونهم - كما بيَّن الله تعالى - كحب الله؛ لأنهم استحبُّوا العمى على الهدى؛ لذلك {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7].
وهناك نوع آخر وصنف آخر من الضالِّين، هي النوعية المنافقة، والمنافقون في الدَّرك الأسفل من النار، وأولئك في قلوبهم مرض ولم يحاولوا علاجه، أو استحبُّوا ذلك المرض؛ لأنه يوافق أمزجتهم، فزادهم الله مرضًا؛ لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويكذبون على أنفسهم وعلى الناس، ويقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، ولكن العليم اللطيف يعرف حقيقتهم وأنهم ليسوا بمؤمنين.
وإذا حاول أحد أن يأخذ بأيدي هؤلاء المساكين إلى طريق النجاة، وطلب منهم الابتعاد عن مسالك الهلاك والفساد، زعموا - كما يقول سبحانه - أنهم هم المصلحون، ولكنَّ ردَّ الله عليهم واضح: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].
وإذا شرحتَ لهم الأمور، وبيَّنتَ لهم القدوة الحسنة، ووجوب الاتباع، ومنع الابتداع نهائيًّا، قالوا لك ما لم يكن في الحُسبان: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13].
معنى ذلك، وحسب وجهة نظرهم الأرعن، وحسب تفكيرهم الأحمق، ومزاعمهم الباطلة الفاسدة كعقولهم، المظلمة مثل قلوبهم، يقولون عن سيدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أفضل خلق الله أجمعين، وصحبه الأطهار وهم خير القرون كما ورد عن رسول الله، يقولون: إنهم سفهاء - ولا حول ولا قوة إلا بالله - ولأن أهل النفاق هم أجبن خلق الله، فهم يتلوَّنون حسب الظروف، فإذا قابلوا المؤمنين، قالوا: آمنَّا، وإذا انصرفوا إلى ناديهم وخلوا إلى شياطينهم، ظهروا على حقيقتهم، وقالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، إلا إن العليم الخبير يعاملهم بما يناسبهم، ويقابل مكرهم وكيدهم بما يليق بهم.
وحتى لا يحيك الشيطان مكايده علينا، ويوقِعنا في الضلال على غفلة منَّا؛ يبيِّن الله لنا صفات أهل النار وأصنافهم حتى نحتاط؛ لأن الوسواس الخنَّاس يزيِّن للإنسان موارد الهلاك، فلا ينجو إلا أصحابُ المعرفة الصائبة، وتلاميذ الشياطين من الإنس أشدُّ ضررًا؛ لأن لهم وسائلَ عجيبةً للضلال، ونتأمَّل التصنيف الإلهي لأهل الضلال من الناس آملين أن نزداد علمًا، يقول - جلَّ شأنه -:
1- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204، 205].
2- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3].
3- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8].
4- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].
5- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11].
6- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10].
7- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6].
إذًا الناس فيما يعشقون مذاهب كما قال الشاعر، والله - سبحانه وتعالى - يوضح لنا الصفات الحميدة والصفات الخبيثة، ومن العجب أن أهل الصفات الخبيثة دائمًا جدليون، وأصواتهم مرتفعة مع نكارتها، ويجدون في كلِّ محفلٍ من يهتمُّ بهم ويعينهم؛ ولذلك فهم دائمًا مستهترون بخلافتهم في الأرض، مستهترون بأمانتهم، مستهترون بإخوانهم؛ ولذلك حينما سئلوا عن أعمالهم في الدنيا، قالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 43 - 46]، هكذا بكلِّ بذاءة.
وما دام هؤلاء على هذه الدرجة من الاستهتار، فمن الطبيعي أن يكون لهم يوم القيامة سوء الحساب وسوء المآل، جهنم يصلونها وبئس القرار، فيأتون إلى ربهم شاخصة أبصارهم مقرنين في الأصفاد، وملابسهم التي عليهم من قطران.
وعند الحساب ضاع كلُّ افتراء على الله، ولا ينفع الندم في شيء مهما قال الظالم عن نفسه، فكل يؤتَى كتابه يمنة أو يسرة، وكل يدري حسابه بالتمام والكمال، فالإنسان لم تكن نهايته في الموت؛ ولكنها مرحلة لها ما بعدها، ولا يغني المال عن صاحبه في شيء في مرحلة ما بعد الموت، ولا السلطان الذي يتمتع به البعض في الدنيا يساوي شيئًا أمام صاحب السلطان الأعظم.
وأمام جلال الخالق - سبحانه - يخيب كل جبار عنيد، ويصف الله أحوالهم المتردية في عرصات جهنم؛ حتى لا يأتي أحد فيقول: لم أكن أعرف أن النهاية فظيعة بهذا الشكل، فيقول - تعالى - عن أهل النار: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 16، 17].
حتى ذلك الخشوع الذي قد يبديه الكافر أمام عظمة الله يوم الحساب، لا فائدة فيه؛ لأن الآخرة وقت حساب فقط، والخشوع مطلوب في الدنيا؛ حيث هي دار العمل، وهذا ما وضحه الحقُّ - سبحانه وتعالى - حيث يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 2 - 7]، ويقول - سبحانه وتعالى - في آية أخرى موضحًا ذلك الخشوع المرفوض؛ لأنه في وقت الحساب: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 42، 43].
ولماذا هذه الذلة وعدم القدرة على السجود أمام الله - سبحانه وتعالى؟ لأنهم لم يخشعوا في الدنيا، ولم يتذلَّلوا للخالق - سبحانه - بالدعاء والرجوع إليه {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43].
وبعد استعراض أحوال البشر في نهاية المطاف، وقد علمنا من الله - سبحانه وتعالى - ما أرانا إياه عن الجنة وأصحابها، والنار وأهلها، هل أعددنا العدَّة لتجنب أهوال النار؟ وهل حاولنا أن نتعرض لنفحات الله - سبحانه؟ هل فكَّرنا في الحياة الأبدية التي تلي هذه الحياةَ الدنيوية القصيرة جدًّا؟ هل أدركنا الحقيقية قبل أن ينزل الموت بساحتنا ونلقى الله - سبحانه؟
وكما وضَّح الله - سبحانه وتعالى - فإن أصحاب الجنة قِلَّة، وأصحاب النار كثرة.
وعليك أيها الإنسان أن تصنِّف نفسك، في أيٍّ من الفئتين تريد أن يكون منقلبك؟ هل تريد أن تكون من القليل، أم غير ذلك؟
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 44 - 46].
ولقد أعذر من أنذر.
محي الدين صالح
مواقع النشر (المفضلة)