بسم الله الرحمن الرحيم
أنزل القرآن دعوة إلى الحق، وهداية إلى مصالح الدنيا والآخرة؛ ليخرج الناس من ظلمات الحيرة إلى صبح اليقين، فشرعت تلاوته للتعبد والتدبر في آياته، وأخذ الأحكام، وتحقيق مسائل من مفردات العربية وأساليبها، ويتبع ذلك تلاوته للاستشفاء من عوارض جسمية، وهي: الرقية بالقرآن كتلاوته، فيشفي الله من رقية القرآن كما يهدي بتلاوته من يشاء من عباده.
روي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنا في مسير لنا، فنزلنا على حي من أحياء العرب، فجاءتنا جارية وقالت: إن سيد الحي سليم (لديغ)، فهل فيكم راقٍ؟ فقام معها أبو سعيد ورقاه بالفاتحة فشُفِيَ، فأمر لهم بثلاثين شاة، فلم يتصرفوا فيها حتى أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألوه، فأقرَّهم على ذلك، فالنبي الكريم أذن في اتخاذ القرآن وسيلة لدفع شرور مكاره دنيوية.
وأما كتابة بعضه في ورقة، واتخاذه حرزًا يتقى به من شرور الدنيا، فلم أره في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سيرة السلف الصالح، ورأيت في تراجم بعض الشيوخ أن شخصًا جاءه وقال له: قد وجدت حرزًا بخطك ملقى في مزبلة، فعزم الشيخ على أن لا يكتب حرزًا بعد ذلك، ولا يتلى شيء من القرآن بقصد الوصول إلى دنيا يُصيبها، وحكي عن بعض العلماء من أهل القيروان أنه كان في حالة بؤس، فقيل له: اقرأ سورة الواقعة فإن قراءتها كل يوم تجلب الرزق، فقال: لولا أن أهجر سورة من القرآن، لم أتلُها في المستقبل ما دمت حيًّا، إذ كان بعض الناس يقصد بقراءتها جلب الرزق.
وقد تكون قراءة القرآن للتعبد والتدبر مؤدية إلى تيسير ما عسر، من حيث إنها طاعة خالصة لله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[1].
والاقتباس: وهو تضمين النثر أو الشعر بعض القرآن لا على أنه منه، فلا يقال قال الله تعالى؛ بل يذكر كأنه من المتكلم، وقد رآه بعض الفقهاء ماسًّا بقداسة القرآن؛ فهو محرم عنده بإطلاق.
والتحقيق أنه في الدعاء أو الموعظة والحديث الذي يراد به تعليم الحكمة جائز، واستعماله في المزاح والكلام الذي لا يكون معه القلب خاشعًا لله لا يجوز.
واقتبس النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض القرآن في مقام الدعوة إلى الحق، وقال في حديث له مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما في الصحيح: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}[2].
وقد استعمل العلماء الاقتباس في خطبهم وغيرها مما يراد به الجد؛ كقول البيضاوي في خطبة تفسيره: الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وقوله: آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، وقوله: من ألقى السمع وهو شهيد، واستعمله القاضي عياض في خطبة كتاب "الشفاء"؛ كقوله: ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، وقوله: ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا، واستعْمله محمد بن جزي في خطبة كتابه "القوانين" فقال: أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، واستعمل الشهاب الخفاجي في خطبة "شرح الشفاء" آية شطرًا من تسجيع، ولم يقل قال الله تعالى، فقال: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
ومن باب الاقتباس أن يجيء الإنسان إلى الجملة من القرآن المنسوبة إلى الله فينسبها إلى نفسه، كقول بعض الولاة لبعض المساجين: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، وقول آخر في عمَّاله: إنَّ إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم، وذلك تشبه بالإله، ومعصية كبيرة.
والتحريف اليسير جائز في الاقتباس دون القرآن، قال أحد أساتذتنا: واعتمدتُ على أنَّ التحريف جائز في الاقتباس فقلت في مرثية:
................. وَنَمَارِقٌ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ
ومِن الشعراء مَن تجرأ واقتبس بعض القرآن والأحاديث النبوية في شعر غزلي أو هزلي، فالإيمان يقضي بتجنب ذلك، فهو إعراض عن الحق إلى ضلال مبين.
وفي القرآن آيات فيها حكمة وبلاغة، يصفها الناس في كلامهم موضع الأمثال، وتسمَّى أمثال القرآن: كقوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[3]، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[4]، وقوله أيضًا: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[5]، وقوله: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[6]، وقوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}[7]، وقوله تعالى: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}[8]، وقد نص المفسرون وغيرهم على أنها تستعمل في مقام الوعظ وتعليم الحكمة، ولا تستعمل في المزح والكلام الخالي من الحكمة، كقول بعضهم: (لكم دينكم ولي دين) في مقام المتاركة، وقصة المرأة التي يزعم أنها تتكلم بالقرآن، قد ذكرت في كُتُب لا يعوَّل عليها في هذا الشأن، وعلى فرض وقوعها فاستعمال امرأة لبعض القرآن في أمور عادية تخصُّها، لا يقره عالم من العلماء.
ومن الناس من يأخذ الفأل من القرآن؛ فإن وجد آية تأمر بفعل شيء، فعل، كأن يسافر أو يتزوج، وإن وجد آية تنهى عن فعل شيء، ترك الفعل، ويفهم أنه نهى عنه.
حكى بعض المؤرخين أن بعض العلماء أراد السفر في البحر، ففتح المصحف وقابله قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}[9] فترك السفر، وغرق المركب في البحر براكبيه، وهذا مصادفة، ولم يرد القرآن لأخذ الفأل منه؛ بل نزل شفاء لما في الصدور.
وحكوا عن الوليد بن يزيد أنه فتح المصحف، فقابله قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[10]، وقال كلامً خارجًا عن الدين، وهذا موضوع من أصله على يزيد، لا ينبغي ذكره على أنه واقع.
ومنهم من يستخير بالقرآن على وجه آخر، وهو أن يفتح المصحف، ويضع المفتاح بنصف المصحف، ويربطه ربطًا محكمًا، ويضع جانبًا من عروته على إصبعه، وجانبًا على إصبع جانبه، فإن دار عن يمينه استدل به على الإذن في الفعل، وإن دار على اليسار استدل به على المنع من الفعل.
والقرآن إنما نزل هداية، وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستخارة، بصلاة ركعتين وقراءة سورتين: الكافرون وقل هو الله أحد، ويقول عقب الركعتين: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان وأرضني به".
وفي الصحيح أن جابر بن عبدالله قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة في القرآن"، وإذا استخار المؤمن الله تعالى في فعل أمر، انشرح صدره لفعل الأمر إن كان فيه خير، فإن لم يكن فيه خير انصرف قلبه عن فعله.
ومن الناس من لا يستغني بالاستخارة الشرعيَّة، فيضيف إليها استخارة منامية، يقول فيها: إن كان الأمر خيرًا لي في ديني ومعاشي فأرني خضرة، أو بياضًا، أو ماء جاريًا، وإن كان شرًّا لديني ومعاشي فأرني سوادًا أو دخانًا، وينبغي الاستغناءَ بالاستِخارة الشرعية عن غيرها من جميع الاستخارات، التي هي مبتدعة غير مطردة.
وأذكر بِهذه المناسبة استخارةَ السبحة؛ فإنَّها بدعةٌ لا يعوَّل عليها في شيء خير أو شر، ولا يرتَكِبُها إلا مَن لعبتْ به نفسه، ولا يَجنَحُ لَها إلا مَن يَجهَلُ الاستِخارة الشرعية الوحيدة، فيجب على أبنائنا أن يَدَعوها، ويطهروا سيرتَهم من عملها.
[1] الطلاق – الآية 2 و3.
[2] الكهف – الآية 54 .
[3] الإسراء- الآية 81 .
[4] البقرة – الآية 194 .
[5] فاطر- الآية 43 .
[6] فاطر- الآية 14 .
[7] الحشر – الآية 14 .
[8] الإسراء – الآية 84 .
[9] الدخان – الآية 24 .
[10] إبراهيم – الآية 15 .
الشيخ محمد الخضر حسين
مواقع النشر (المفضلة)