بسم الله الرحمن الرحيم
من حكم فرضية الصيام
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
شُرِع الصِّيام لحِكَمٍ عظيمة كثيرة، استَوجبَتْ أن يكون فريضةً من فرائض الإسلام، وركنًا من أركانه، فكم فيه من المنافعِ الجمَّة، وكم له من الآثارِ المبارَكة.
فالصِّيام عِبادة يتقرَّب بها العبد إلى ربِّه، بترك محبوباته ومشتهياته، طاعةً لربه وإيثارًا لمحبَّته؛ فيُقدِّم ما يحبُّه خالقه ومولاه على ما تحبُّه نفسه وتهواه، فيَظهَر بذلك صدقُ إيمانه، وكَمال عبوديَّته لله، وخالص محبَّته، وعظيم طمعه ورجائه فيما وعَد الله به أهل طاعته، من الرَّحمة والرِّضوان، والمغفرة والإحسان، والأجر العظيم والنعيم المقيم في الجِنان.
وفي الصِّيام ممارسة ضبط النفس والسَّيطرة عليها والتحكُّم فيها، والأَخْذ بزمامها إلى ما فيه خيرُها وسعادتها وفلاحها في العاجل والآجل، حيث يُصبِّر المرء نفسَه على فعل الطاعات وترك الشهوات.
وفي الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: ((واعلَم أنَّ في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا))[1]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((وما أُعطِي أحد عطاءً خيرًا ولا أوسع من الصبر))[2]، وفي التنزيل: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]، و﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153]، وقال - تعالى -: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
وفي الصِّيام من كسر النفس والحد من كبريائها حتى تخضَع للحق وتَتواضَع للخلق ما لا نَظِيرَ له؛ فإنَّ الشِّبَع والريَّ ومباشرةَ النساء يَحمِل كلٌّ منها جملةً من الناس غالبًا على الأَشَرِ والعلوِّ، وبطر الحق وغمط الناس في كثيرٍ من الأحوال.
وفي الجوع والظمأ وهجر الشهوات خصوصًا على وجه العبوديَّة لله ما يكسر من حِدَّتها ويكبح من جماحها، ويكون عَوْنًا للمرء عليها، ويجعلها تستعدُّ لطلب وتحصيل ما فيه غاية سعادتها، وقبول ما تزكو به في حياتها الأبدية؛ قال - تعالى -: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9، 10]، وقال - تعالى -: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 40 - 41].
والصِّيام يُذكِّر العبدَ بعظيم نِعَمِ الله عليه، وجزيل إحسانه إليه؛ فإنَّه إذا جاع وعطش وهجَر شهوَتَه ذكَر الأكباد الجائعة والأنفس المحرومة، فكان ذلك من دَواعِي حمده لربِّه على نعمته، وشكره له على جوده وكرمه، وكان ذلك من أسباب رقَّة قلبه ممَّا يجعَلُه يعطف على المساكين ويغيث الملهوفين، فيُواسِيهم ويَجُود عليهم، وذلك من أسباب حفظ النِّعَم وزيادتها، واندِفاع النِّقَم والسلامة من آفاتها.
فالصِّيام من أعظم أسباب تَطهِير النُّفوس من أدرانها، وتزكيتها بتهذيب أخلاقها، وتنقيتها من عيوبها، مع ما فيه من إصلاح القلوب وترقيقها، وزرع التقوى فيها وتقوِيَة خشيتها من خالقها وباريها؛ قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
فبيَّن - سبحانه - أنَّ الحكمة من فرض الصِّيام هي تحقيق التقوى، و"التقوى" كلمةٌ جامعة لكلِّ خِصال الخير: من فعل الطاعات، وترك المعاصي والسيِّئات، والحذَر من مَزالِق الشهوات، واتِّقاء الشُّبهات.
وللصوم أثرٌ واضح في الإعانة على ذلك؛ فإنَّه يلين القلب ويُذكِّره بالله، ويَقطَع عنه الشَّواغِل التي تَصُدُّه عن الخير أو تجرُّه إلى الشرِّ، ويحبِّب إلى الصائم الإحسان وبذل المعروف؛ ولذا يُشاهَد تَسابُقُ مُعظَم الصائمين إلى الخيرات، وتجافيهم عن المحرَّمات، وبعدهم عن الشُّبهات، وتنافُسهم في جليل القربات.
[1] جزءٌ من حديثٍ أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/307)، وقد أطال أحمد شاكر في تحقيق "المسند" (2804) في الكلام حول هذا الحديث، والحاصل: أنَّ إسناده صحيحٌ، وقد رواه الترمذي بلفظ مختلف (2516) وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد أيضًا في "المسند" (1/293، 303) قال أحمد شاكر في تحقيقه على "المسند" (2669، 2763): إسناده صحيح.
[2] جزءٌ من حديث أخرجه البخاري برقم (1469) في الزكاة، باب: (الاستعفاف عن المسألة)، ومسلم برقم (1053) في الزكاة، باب: (فضل التعفف والصبر) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه.
مواقع النشر (المفضلة)