[align=right][align=center]مكابدات الطفولة والصبا [/align]
الخوص فوق رأس أبي
في آخر شارع صلاح الدين تعودت أن أذهب إليه . أضع يدي على الشباك الحديد المشغول بزهور لوتس من السلك . هناك صبارات على الحواف ، وحدبات تحيط بي من كل جانب.
على مرمى شارعين من مسجد سيدي أبي المعاطي . حين أشعر بالتعب فوق طاقتي من حمل عشرات الأطقم الخشبية على كتفي آتي إلى هنا للراحة .
ابتسامة أبي ترطب الهجير حولي ، وصوته الذي لم أسمعه إلا هنا يسري عني .
في مقابر المدينة بالقرب من ترعة الشرقاوية .
تعودت أن أرتب بيدي أعواد الخوص وأنفض عنها الأتربة . ثم أضعها بعناية حيث ينبغي أن تكون رأسه!
[align=center]بالطباشير [/align]
كل يوم يرسلني المعلم يسري لشراء ما يحتاجه المنزل . أصعد السلم ، وأكتب داخل القلوب الصغيرة ( سمير ، وكريمة ) . بالطباشير أكتب في صعودي وهي تمحوها حين ننزل سويا ، وتميل نحوي وتتحداني لأنها اطول مني بشبر . داخل عينيها بريق وحيرة . لم أقبلها وهي اكتفت بأن تمسك يدي صعودا وهبوطا وحتى العتبة قبل الأخيرة . تدافع عني إذا ما لامتني أمها لأن سعر الخضار أكثر مما هو معتاد. حين كبرنا لمحتها في سيارة فارهة بجوار زوجها . كانت تبتسم من خلف الزجاج رغم الغبش الخفيف ، وقد شعرت بيدها تمتد نحو حائط في ذاكرتي لتمحو كتابة الطباشير وتهش طيورا بعيدة .
[align=center]ظلام بعيد[/align]
في السابعة خرجت لأعمل في محل موبليا قريب . كان المعلم يضع صورا للاعبين كبار. وكنت اختص نفسي بشراء صور ممثلين وممثلات . واحدة وقعت في غرامها . كانت ترتدي ثوبا أحمر بكلوش واسع وتضع زهرة في شعرها . أحسست أنها تبتسم لي وحدي . في الظلام بدأ الشريط يدور ، وكانت تغني بصوتها الجميل . مقعد أخير في سينما " اللبان " وقد ادخرت ثمن التذكرة لأشاهدها عن قرب . قبلت الفتاة البطل ، وعانقته .
طرقت المقعد في هدوء مريب سيطر على الصالة . خرجت وقلبي مملوء بالمرارة. عند أول منعطف مددت يدي وانتزعت الصورة . مزقتها ورميت بها من فوق الكوبري المعدني نحو النهر . بقيت مزق الصورة طافية . وبقيت أرقبها حتى شملني الظلام.
[align=center]البحث[/align]
كنت في الخامسة . أردت أن أرى الله . سطح بيتنا واسع جدا ، وفيه دجاجات وديوك ، وحولنا أسطح الجيران حيث " دواير " الحمام .
نمت على ظهري وصوبت نظري نحو السماء . قلت في سري : أنه كبير كبير وسوف أراه حتما .
عبرت سحابة من الشمال نحو الجنوب . مرّت اسراب من العصافير وكانت تشقشق . الشمس أوجعت عيني . أغمضتها للحظات . دحرجت جسدي على الأرض وكان بلا استواء ، ثم فتحت عيني على زراق مشوب بابيضاض جميل .هتفت وروحي تنسحب لكل هذه الروعة : الله .. الله ..
[align=center] زجاج مكسور [/align]
بدأت أيام الدراسة ، وأصبح لزاما عليّ أن أدبر ثمن تذكرة السينما . فكرت في عدة أمور ، وتفتق ذهني على حيلة عندما مرّ بي بائع الروبابيكيا . كانت العاشرة من عمري تقريبا .
ذهبت إلى أطراف المدينة ، وبدأت أجمع الزجاج المكسور : ألواح مهشمة ، وزجاجات مغبرة ، وقوارير عطور قديمة ، وكلما جمعت كوما توجهت لمحل الروبابيكيا ففرز ما معي ونفحني " تعريفة " . نصف القرش لا يمثل شيئا ، وهذا دفعني لأن أبحث بكل حماس في أماكن مأهولة .
كانت رأسه تطل من بناية عالية . عرفته . إبن الزناتي تاجر البن وزميلي في الفصل . التقت نظرتي بنظرته . كانت بصته تحمل اتهام إدانة لم أحتمله . هز رأسه وكأنه يكتشف فاقتي . ونكاية فيّ ألقى ببعض الماء فوق رأسي . صوبت طوبتي باتجاه النافذة المفتوحة حتى آخرها . رأيت شواشي رأسه بينما جسده يختفي وراء الستارة . في انفعالي بدا كل شيء أسود . مددت يدي ألتقط زجاجة مهشمة . مست يدي حافة مسنونة قاطعة آلمتني . كان الجرح عميقا، والدم يتقاطر نقاطا متدافعة . هي نوبة بيع أخيرة . فيما أنا جالس في دار السينما أضغط الجرح آلمني أكثرما آلمني نظرة ابن الزناتي التي تتبعتني حتى المقعد الخشبي في آخر الصالة.
[align=center]سيور ذهبية [/align]
تسع سنوات أو يزيد قضيتها كبائع أحذية . مهارتي تكمن في إقناع " الزبون " بالشراء ، مع وجود هامش من الربح معقول. فترة تمتد من الظهيرة إلى ما بعد العصر أدير فيها بمفردي محل كبير جدا بمخزنين، وصندرة .
في تلك المساحة الزمنية كانت الشمس تتعامد على ألواح الزجاج بالفترينة فأخرج ، أشب على أمشاط قدميّ ، لأضع ساترا من القماش "الباتستا " المشجر على الواجهة. من خلفه كنت أختلس النظر لما يحدث في محل الحلويات المواجه لنا . كانت محاسن فتاة تكبرني بأعوام عديدة ، لكنها تبيع المشبك والبسيمة والهريسة وهي تغني بصوت جميل مبحوح .
في ساعة معلومة تأتي لتقيس شباشبا لن تشتريها أبدا . كانت تحضر معها قطعة الهريسة البيضاء التي عرفت أنني أحبها دون أن أطلبها .
تضحك بدون مناسبة وهي تسألني : " هل جاءكم شبشب أحمر بسيور ذهبية ؟ " . أتأمل عينين خجولتين تسرح فيهما طيور تشقشق وأرد بنصف خجل : " طلبك يمكن أن يأتي غدا " . تتقصع وهي تسحب نفسها كشمس أمشير العجولة، و تدندن بلحن بديع لسيد درويش " ياعشاق النبي " .
مر أسبوع ولم تأت محاسن . عرفت أنها قد سكبت " الجاز " على جسدها ، وأشعلت عود ثقاب لأن أهلها صمموا أن تتزوج من عجوز ثري . أنقذوها بصعوبة وغطوها بسجادة صوف قبل أن تلتهمها النار .
طقـّـست، وعرفت مكان حجرتها في المستشفى الأميري . ذهبت إلى حيث ترقد . كان معي زهرتان قطفتهما من جسرخفي بباطن ترعة الشرقاوية بالقرب من مدرستي.
زهرتان وضعتهما على الكومدينو دون أن أنبس بكلمة . رمقتني محاسن وهي مغطاة بملاءة خفيفة . سألتني وشعرت بها تبكي : " ألم يأت زوج شبشب أحمر بسيور ذهبية؟ " .
[align=center]يوم " القبض " ! [/align]
قال مدرس الدين : الموت علينا حق .
ونظر لي بالذات وهو يقول بحدة وكأنه يعنيني . أنه لايبقى من الميت غير عمله وولد يدعو له بالرحمة . وكنت لا أحفظ أي دعاء فأحسست بالتقصير الشديد نحو أبي ، ودفنت وجهي في خشب المقعد مستعيذا بالله من شر عصاه الباطشة .
طلب منا أن نسمّع بالدور الجزء الأكبر من سورة "البقرة " . أغلبنا نال حصته من الخيزرانة التي تركت في أكفنا خيوطا محمرة ، حتى صارت يدي كقطعة كبد طازجة .
عندما ذهبت الورشة لم أستطع أن أشتال نصف الطاقم ، فركعت على ركبتيّ وزحزحت القطع الخشبية حتى لامست الجدار ، ونهضت بها في صعوبة بالغة .
صعدت وأنا أرتكن بقدمين ثابتتين ربما أستعيض بكتفي وعنقي عن استخدام كفيّ .
دخل المعلم الورشة ، وأحس بي أنهنه في رطوبة الحجرة المطلة على المنور . إشتال عني كل ما اجتهدت كي أحمله فوق كاهلي . سألني محذرا من الكذب عما يبكيني . قلت : سورة البقرة .
مددت له يدي وأريته الجمر يندس بين البشرة ، والخلايا والعروق . فمضى نحو الأجزخانة القريبة ، وأحضر مرهما مطهرا ومسح به جراح يدي . سامحني هذا اليوم ولم يحمّلني بقطع الطاقم .
في مساء الخميس وقبل أن أقبض " جمعتي " سألني ككل مرة : كم يوما عملته ؟
قلت بدون تفكير : أسبوع يا معلم .
عاجلني بمكر لم أعهده منه : ينقص يوما .أنسيت؟
تمنيت لو أنه لم يرني أبكي ، وقلت في نفسي : ستعلم أمي بتقصيري، وستعاقبني مرتين .
دس المعلم في يدي " قبضيتي " . حين ابتعدت فتحتها في ظلام مغبش بنور خفيف تحت عامود البلدية . كانت " جمعتي " كاملة . وددت أن أعود لأخبره أنه قد أخطأ في حسابه . غير أنني لمحته من بعيد يلوح لي بيده أن أمضي نحو البيت ، أما ضحكته التي كانت تصهلل فقد ملأت روحي بالمسرة !
* كتبت هذه النصوص مساء 30/ 5/ 2006[/align]
مواقع النشر (المفضلة)