السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في صباح يوم كل خميس من كل أسبوع، تعلن (محكمة المياه) انعقادها في الهواء الطلق في مدينة (فلنسيا) الأسبانية، وتلك المحكمة تعتبر من أقدم المحاكم في أوروبا، وعمرها يتجاوز الألف عام، وأول من ابتكرها وأنشأها هم العرب عندما كانوا في الأندلس.
وهي محكمة يقوم فيها أفراد من المزارعين، ويوزعون عدالتهم بين بعضهم البعض من دون تحيز، أو سجالات أو تدخل من الحكام.
وحيث أن نهر (توريا) الذي ينبع من الجبال ويروي السهول الفسيحة لا بد له من (تقنين)، ففي سنة قد يأتي غزيراً وجارفاً، وفي سنة أخرى قد يأتي هزيلا وشحيحا، فقد تفتقت قريحة العرب آنذاك ـ عندما كانت لهم قريحة ـ تفتقت قريحتهم على احتواء ذلك النهر وكبح جماحه على مر العصور، بأن شقوا له قنوات لتوزيعها بالعدل والقسطاس على المزارعين، وما يفيض أو يزيد عن حاجة المزارعين لا يذهب هدراً إلى البحر. وإنما تمتلئ منه برك وأحواض كبيرة ليستفاد منها عندما يكون موسم الأمطار ضعيفاً. ولكي لا يكون هناك ظلم وتجاوز وتنازع بين المزارعين، استحدثت تلك المحكمة التي قبل بها الجميع بالتراضي، وقد حددوا صباح يوم الخميس بالذات، لأنه آخر يوم في أسبوع العمل الذي يأتي بعده يوم الجمعة ليتفرغ فيه الجميع للعبادة والتزاور والتعازم والتزاوج والترويح عن النفوس. وما زال هذا التقليد سارياً حتى اليوم، وما إن تدق الساعة السابعة صباحاً من يوم كل خميس، إلاّ ويعلن اكبر المزارعين سناً افتتاح الجلسة، حاملاً شعار الجلسة القديم الذي هو عبارة عن رمح في مقدمته بلطة وفي طرفه الآخر خطاف من نحاس، وينادي أسماء القنوات الثماني التي توزع مياه نهر (توريا)، وان يلتزم آلاف المزارعين بالقواعد.
وتبدأ العقوبات، فقد يكون هناك من حطم بوابة إحدى القنوات بمطرقة وزاد في ارواء أرضه لمدة ساعتين بطريقة غير مشروعة، أو من قطع الأشجار على طول القناة التي هي ملك للجميع، أو سمح لماشيته أن تسير فوق الجسور الترابية وتخربها، أو من رمى بعض المخلفات في القنوات ولوثها.. كل هؤلاء تتخذ بحقهم عقوبات فورية لا مراجعة ولا استئناف لها.
وقد قدر لي قبل سنوات عندما ذهبت إلى مدينة فلنسيا لحضور أحد المعارض، قدر لي أن أشاهد وأقف على تلك القنوات الثماني، وما يتفرع منها من شبكات قنوات صغيرة معقدة، وقد ذهلت من التحكم في البناء والرصف بالحجارة لتلك القنوات والأحواض وكيف تصرفوا وراعوا (جغرافية وطبوغرافية) الأرض والإنسان من حيث الانسيابية ومن حيث الوصول إلى أبعد مزرعة يملكها اصغر مزارع.
وقد فهمت ممن كان يرافقني أن (90%) من تلك القنوات، ما زالت كما هي منذ ألف سنة، بل إن دقة رصفها بالحجارة تفوق ما استحدثوه بعد ذلك من (الاسمنت).
ليس هدفي من هذه المقالة هو الإشادة بمن أقام ذلك العمل الهندسي العبقري، لكن هدفي أولا وأخيرا هو الإشارة (للعدالة)، ولتحكيم العقل، ولكدح الإنسان وارواء أرضه بالعرق قبل الماء.
ولكن بعض عرب اليوم يروون أرضهم بالدماء المجانية ليموتوا بعد ذلك عطشاً.
هل أقول: مع الأسف؟َ، ولكن حتى لو قلت ذلك، فماذا يفيد الأسف ؟.
__________
منقـــــــول
مواقع النشر (المفضلة)