الحلقة السادسة والاربعون
أخرج إبن ماجة والحاكم عن إبن عمر عليهما الرضوان أنه عليه السلام قال " يا معشر المهاجرين خمس إذا أبتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن : لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والاوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ومالم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم " .
ـــــــــــــــــ
موضوعه : الاعراض عن الاسلام جملة أو تفصيلا مهلكة عامة جامعة في الدنيا قبل الاخرة :
لم يدرك المهاجرون ذلك لانه عليه السلام تعوذ بربه من شرها وهو مستجاب الدعوة والمهاجرون هم أهل خير القرون ولكن الحديث نبوءة صادقة تتحقق اليوم بين أيدينا وهل تنكر العين ضوء الشمس سوى من رمد أما إذا كان فينا اليوم من لا يشعر بحقيقة هذه النبوءة ونحن جميعا نتلظى بسعارها صباح مساء فإن المصيبة أعظم لان أجهل الخلق طرا من كان لا يعلم ولايعلم أنه لا يعلم والاطباء يعلمون حياة بعض الاعضاء في الجسم البشري عند المشلولين أو المدعين لذلك مثلا بعد وخز تلك الاعضاء بالابر فإن إستجابت شعيراتها العصبية بالالم فإن العضو حي وإن إستوى الوخز مع عدمه فإن العضو ميت وقياسا على ذلك يأتي حديثنا .
من أول معاني الحديث : جماعية العذاب وشمول الاهلاك بسبب فردية الجريمة وسلبية الجماعة:
الدليل الاول على ذلك هنا هو الخطاب بصيغة الجمع والدليل الثاني هنا كذلك هو الطبيعة الجماعية العامة لاسباب الهلاك المذكورة وذلك فضلا عن أدلة القرآن الحاكمة القاطعة الصريحة في أن كل مخالفة لقطعي من الدين يجاهر بها صاحبها فلا يجد صدا ولا إثناء من لدن الجماعة بأسرها أو جزء منها على الاقل مآلها العذاب من الله سبحانه وصور العذاب في هذه الامة مختلفة كثيرا عن الصور السابقة التي حكى عنها القرآن في حق الاقوام المكذبة والمعرضة وإن شئت قلت هو عذاب أغلبه نفسي ومعظمه روحي ومنه قوله عليه السلام في الحديث ا لصحيح للترمذي " أول علم يرفع علم الخشوع " ورفع الخشوع عذاب غليظ لان الخشوع المقصود في الحياة لا في الصلاة التي هي ليست سوء جزء يسير من الحياة وفقدان الخشوع في الحياة معناه ذهاب الحياء وذهاب الحياء معناه تحول الناس إلى قطعان همجية من السباع المفترسة الجائعة النهمة يعدو بعضها على بعض فيأكل الغني الفقير والقوي الضعيف والحاكم المحكوم وعندها تتوقف سنة الله سبحانه في التسديد والتوفيق وإنزال البركة ويصبح القانون السائد لكسب الدنيا والاستمتاع بها هو التنافس فيها بتغليب القوة على الاخوة وفي حالنا فإن هذا متوفر عند أعداء الامة أكثر مما هو عندنا بقرون سحيقة والنتيجة " إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ". ومن مظاهر ذلك العذاب النفسي الذي يصيب هذه الامة صورة خاصة بها لو فسقت فلم تجد رادعا هو داء الاكتئاب .
من أول معاني الحديث : العذاب دنيوي معجل بغرض الانذار ودق نواقيس الخطر عند الامة :
نزول العذاب ولو بصوره النفسية الروحية على الامة قاطبة دون أصحاب الجرائم فيها فحسب بسبب ما ظهر في الارض على أيديهم من فساد في البر والبحر ليس له من معنى عند الامة سوى معنى النذير وهو أمر خاص بالامة من جهة بلغ الاسفاف فيها ما بلغ وهي رسالة موجهة إلى طوائف ثلاث في الامة : طائفة الفساد والافساد لان الجسم فيهم عادة ما زال يحمل حياة بحكم وجود ولو نزر يسير جدا من الايمان ولو كانوا كفارا لتبدل القانون الالهي إلى درجة المد والاستدراج وطائفة الصلاح والاصلاح لان وسائل عملهم تسللت إليها أدواء خاصمت الاخلاص أو أمراض أصابت عقلها الذي لم يتجدد وطائفة الربوة المنقطعين إلى خويصات أنفسهم يجمعون بين لذائذ موائد طائفة الفساد و الافساد ليلا وبين منابر طائفة الصلاح والاصلاح نهارا .
تحرير القول في الخلاف الظاهري بين هذا الحديث وبين حديث " سألت ربي ثلاثا ..." :
يعجبني من الناس قولهم حال الاطلاع على هذا الحديث أنه مخالف لحديث آخر يقول بأنه عليه السلام سأل ربه ثلاثا فأعطاه ثنتين ومنعه واحدة : سأله ألا يسلط على الامة عدوا من غيرها يستأصل شأفتها فأعطاه وسأله ألا يهلكها بما أهلك به الامم السابقة فأعطاه وسأله ألا يجعل بأسها بينها شديدا فمنعه . والحال أن حديثنا اليوم يقول " إلا سلط عليها عدوا من غيرهم " و" جعل بأسهم بينهم " . وملاحظة ذلك ينبئ بأن آنية الحفظ في الذاكرة مرتبة منظمة بدقة وذلك يساعد على الفهم وأول شروط الفقه في الحياة فضلا عن الدين هو بناء العقل الاسلامي المعاصر. وتحرير القول في ذلك هو أن العدو المسلط هنا يأخذ بعض ما في أيدينا من نفط العراق ومعادن الجزيرة العربية وذهب السودان ولايستأصل شأفتنا بالكلية والشأفة روحية بالاساس قبل أن تكون نفطا بدده المترفون من الحكام على شهوتهم فسلط عليهم ذئاب أمريكا والصهاينة يحركون به دباباتهم وطائراتهم لحصد أفغانستان وفلسطين .
أركان النبوءة أربعة تحققت اليوم فينا بالكامل فما العمل ؟:
الركن الاول : إعتداء منا على منظومتنا القيمية ومنهجنا الخلقي وعقابه الحاضر هو ظهور وتفشي الامراض البدنية والنفسية الحديثة .
الركن الثاني : إعتداء منا على العدل الاجتماعي في أقوات الناس وعقابه الحاضر هو تطور مديونياتنا العربية والاسلامية عاما بعد عام للبنوك الدولية الظالمة الغاصبة وليس ثمة فقر أقسى علينا اليوم من كون كل عربي وكل مسلم مدين لتلك البنوك المتربصة تضخ القروض والمساعدات تمهيدا لاحتلال أرضنا بعد إحتلال قرارنا بعدد شعر رأسه من الدولارات وهو عليه السلام يقول " الطمع هو الفقر الحاضر ".
الركن الثالث : الاعتداء منا على عهد الله وعهد رسوله عليه السلام أي على القرآن والسنة أي على الاحكام المتعلقة بالحياة فيها في سائر شعابها إعتداء عدم إيمان أو عدم تنزيل وعقابه الحاضر يجده كل واحد منا اليوم إلى جانبه في بيت نومه عولمة تحول بيته الطاهر إلى مرقص صهيوني وملعب أمريكي بالجسد العاري القاتل لروح الدين فينا وهو خلق الحياء وبالفكرة التي ما نلبث نستحسنها بعد إلفها سنوات وهو عدو يجده كل واحد منا في سياسة حكومته في سائر المجالات وخاصة المجالات السيادية والقومية وفي الاقتصاد والقانون والثقافة والتربية التي بدأت ترتب ساحاتها للتخلي عن كلمات الجهاد والقتال والحد والرجم والايمان والطاعة لصالح كلمات الحرية والاخوة والكفر .
الركن الرابع : الاعتداء منا على كتاب ربنا سبحانه ومنه الاعتداء ب" ويتخيروا مما أنزل الله " أي ما عبر عنه في موضع آخر " يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض " وعقابه تسلط البأس الداخلي واليوم هي حقيقة فتسلط الحكام ومن والاهم بالسيف وبحرية الكفر دون حرية الفكر على طائفة من دعاة الاصلاح فرد بعض من هؤلاء على ذلك التسلط السياسي بقوة السيف وموالاة المرتدين والمنافقين بتسلط عليهم تمثل في عدم التمييز بين الناس في العقاب وفي سلوك سبل التفجير والرهن وأخذ البرئ بجريرة المعتدي فتعرضت صفوفنا الداخلية إلى ضربات عنيفة .
ما العمل : هل ندع حبلا على غاربه يائسين أو غير مبالين أم نمتلا يقينا في فرضية الاصلاح:
الحديث لا يبعث على اليأس لا من الامة ولا من الاسلام ولا من الاصلاح ولا من الناس بل هو على العكس تماما يبعث أهل الغيرة على مضاعفة جهود التغيير حسن فهم للدين وللواقع معا وحسن سلوك حيال الدين وحيال الواقع معا وفي المستويات الفردية والاجتماعية معا وأضرب لك مثلا بسيطا : لو مرض أحد أفراد أسرتك هل تلقي به في البحر أم تبحث له عن دواء ينجده ولو كان عافاكم الله جميعا السرطان الذي سرعان ما يدلف صاحبه إلى القبر مهما طال به المرض ؟.
فالخلاصة هي إذن أن النبوءة منه عليه السلام لا تزيد على وصف الواقع الذي قد يكون مؤلما أما الخلود إلى اليأس أو خويصة النفس تحت دعوى فساد الزمان وبإسم مثل هذه النبوءات فهي إستجابة غير إسلامية لا عقلا ولا روحا وإذا كنت لا ترقب من الناس سوى الايمان الكامل دون فساد فلم كتب الله علينا إذن الدعوة والاصلاح ولو إنقطع الشر عن الدنيا فكيف ينمو الخير وينبعث ولو لم تجاهد اليوم سائر الشر بمالك ونفسك وعلمك وجهدك وراحتك حتى تنصب وتتعب وترهق وينال منك وتؤذى فكيف تحلم بالجنة ؟
مواقع النشر (المفضلة)