الحلقة الثالثة والخمسون
أخرج البخاري ومسلم عن عبادة إبن الصامت أنه قال " بايعنا رسول الله عليه السلام على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وألا ننازع الامر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخشى في الله لومة لائم ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
موضوعه : بين كل مسلم وبين رسوله عليه السلام عهد من أربعة أركان لابد فيها من الوفاء :
عبادة يتحدث عنا عن بيعة الانصار قبيل الهجرة بينهم وبينه عليه السلام . وقبل الخوض في البيعة وأركانها لابد لنا من إلقاء نظرة عجلى على موقع الامة والجماعة وسائر متطلباتها في الاسلام وأول أمر لابد أن يعلم في البداية هو أن الاسلام بخلاف الاديان السماوية الاخرى جاء لاقامة أمة قوية مهابة وليس مجرد أفراد أو جماعات لا يتعدى تدينهم الاحوال الشخصية وذلك نابع من كون الاسلام خاتم الرسالات ورسوله خاتم الرسل وكتابه مهيمنا على ما سبقه من كتب ومن كونه رسالة للعالمين في كل زمان وفي كل مكان حتى يرث الارض ومن عليها ولذلك جاءت تشريعات الاسلام عامة مطلقة شاملة أي للناس كافة وغير قابلة للمراجعة في أصولها ومبادئها ومعاقدها وفي سائر ما لا يخضع منها للتغير وهو إطلاق يشمل الزمان والمكان وحال الانسان في كل حال وشاملة لسائر مجالات الحياة فكانت من أجل ذلك تلك التشريعات جامعة بين الثبات والتغير من جهة وبين الصلاحية العامة والمرونة من جهة أخرى وكل من يطلع على الناطق بإسم الاسلام أي الكتاب والسنة يكتشف أنه يدعو بقوة إلى التمكين وإعداد القوة ورص الجماعة ووحدة الامة والاخذ بأسباب العلم والشورى والحرية والعدل والعمران بل تجاوز ذلك إلى تنظيم العلاقة العسكرية والسياسية بين الامة وبين جيرانها في حالات الحرب والسلم وإنطلاقا من ذلك قال سائر أهل السنة والجماعة وكثير ممن سواهم بأن إقامة السلطة الاسلامية وفق قيم العدل والحرية والشورى والقوة واجب لا يتم إقامة الواجبات الدينية والدنيوية للناس إلا به بينما إعتبر ذلك من لدن فرق إسلامية أخرى فريضة كالصلاة والصيام والزكاة والحج وهو خلاف ليست له آثار عملية كبيرة ولو عبرنا عن ذلك بلغة معاصرة لقلنا بأن الاسلام كلف الامة بإقامة السلطة الاسلامية التي كانت تسمى قديما خلافة والتي عرفها الفقهاء ومنهم إبن خلدون بقولهم بأنها حمل الكافة على إقامة الدين وإصلاح الدنيا به وقال الغزالي الدين أس والسلطان حارس وغدا هذا ثابتا يقينيا من ثوابت الاسلام عرفوا وظيفة السلطان أو الخليفة ولك أن تسمه بما شئت بخدمة الامة خدمة أجير لصاحب ملك فالامة هي صاحبة القضية وهي الاصل وليس الحاكم سوى خادم مقابل أجر غير أنه يصطفى لذلك وفق قاعدة أولانا قوة وأمانة عبر بيعة شعبية عامة لذلك قال الفقهاء بأن الامامة عقد بالتراضي بين الامة وبين خادمها ولئن جاءت عهود طرحت كثيرا من معاني البيعة والحرية والشورى والرضى وعقد الاجارة والامة والجماعة والعدل فإن حفظ الحد الادنى من ذلك في الكتاب وفي السنة وفي الخلافة الراشدة وفي الثقافة السياسية الشعبية هو من حفظ الذكر الذي تكفل به هو سبحانه وذلك كفيل بإنبعاث صحوة تجدد الدين على رأس كل مائة سنة وهو ما لم يتخلف عن الامة يوما والحمد لله رب العالمين .
السؤال الحيوي الكبير : هل بينك وبينه عليه السلام عهد ماض أم أنقرض بموته وموت خلفائه:
لن نتوسع في الاجابة بحكم أن القرآن الكريم صريح بما فيه الكفاية في ذلك حتى أنه قال " ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله " و" ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " والايات والاحاديث الصريحة الثابتة وإجماعا عمليا متيقنا من لدن المسلمين على مدى خمسة عشر قرنا كاملة لا تحصى ولم يقل واحد يوما أن الامر مرتبط بحياته عليه السلام وإلا لكانت حروب الردة في فاتحة عهد خليفته عليه السلام وهي إجماع صريح عملي من لدن خير خير القرون المبشرين بالجنة لاغية بل إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله " من أطاع أميري فقد أطاعني " وكل أمير إستجمع شروط الامارة الاسلامية الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة هو أمير له عليه السلام يطاع في المعروف لا في المنكر تماما كطاعته هو عليه السلام ولو لم يكن الامر على ذلك النحو لانقرض أمر الاسلام مبكرا .
الركن الاول من أركان البيعة الاسلامية بينك وبينه عليه السلام : الطاعة والاتباع :
وطاعته عليه السلام تعني طاعة سنته وإتباعه تعني إتباعها والطاعة والاتباع له يعني طاعة القرآن والسنة وإتباعهما وتفصيل ذلك بين الكبير والصغير والمقدم والمؤخر والتشريعي والخاص والبشري مبسوط في غير هذا الموضع ولكن يهمنا هنا تثبيت الاصل وهو أصل يتطلب تثبيتا تقرأه أنت بنفسك من خلال قوله " في العسر واليسر وفي المنشط والمكره " والطاعة تعني التدين على نحو ما أمر ونهى عليه السلام أما الاتباع فيعني بسط ذلك التدين علىنحو ما بسط عليه السلام على سائر شعب الحياة مع مراعاة فارق الزمان والمكان والحال والعرف وسائر المتغيرات وتفصيل ذلك مبسوط في مظانه فالحاصل أن الركن الاول من أركان بيعتك له عليه السلام هو الطاعة والاتباع في الدين وفي الحياة طاعة لا تتخلف في العسر وإتباعا لا يتخلف في المكره ولو كان المكره هو الموت دونه عليه السلام أي دون خضد شوكة سنته في عصرك .
الركن الثاني من أركان بيعتك له عليه السلام : الولاء له أي لسنته ولاء ود وحماية وإيثار:
كلمة الولاء تعني دوما الجانب السياسي أي الولاء للحكم إعترافا بالشرعية وخضوعا لقانونه وذلك بحكم كونه لا ينسحب على المسلمين فحسب بل على سائر المواطنين داخل الدولة ولو كانوا غير مسلمين والولاء السياسي للحكم السائد يختلف عن الطاعة والاتباع فهذا لابد منه من المؤمن غير أنه لايكفي ضمانا لوحدة الصف الداخلي وإشاعة للحرية بين الناس وسدا لذريعة الفتنة الجالبة للعدو الخارجي وإدارة للخلاف الداخلي عبر أسس الحوار الاخوي السلمي ولابد من الولاء من المؤمنين وخير مثال على ذلك كما أسفلنا أعلاه حروب الردة ولما إشترط عليه السلام على الانصار الولاء السياسي رغم إيمانهم ونصرتهم فهو يعلم أن أمر الطاعة والاتباع وهو مضمون من جانب الانصار لا يكفي لترتيب الهجرة وبناء الدولة الجديدة بما يفيد أن الولاء للمشروعية السلطانية العليا أمر سرت عليه علاقات القبائل العربية ولاشك أن عنصر الولاء في تلك المشروعية لا يترجم سوى في الروابط والجامعات وأعلاها جامعة الامة ولا يتأتى لي ذلك ولك بسوى العمل الجماعي مني ومنك على بعث رابطة جامعة لما تيسر من المسلمين ثم تعمل تلك الجامعات في واقع التجزئة على تنفيذ حد أدنى من التنسيق سعيا وراء إعادة بعث الكيان العام للامة بإذن الله ومفهوم الولاء ضروري بعد الطاعة والاتباع ولا يغني أحدهما عن الاخر .
الركن الثالث من أركان بيعتك له عليه السلام : حراسة الوحدة الداخلية للامة فريضة مقدسة:
جاء هذا الركن الثالث معقوبا بإستثناء " إلا أن تروا كفرا بواحا لكم فيه من الله برهان " فالاصل هنا بخلاف الركنين الاوليين قد تخترمه الاستثناءات وهو إستثناء يؤكد إحدى قواعد البيعة الاسلامية الصحيحة وهي قاعدة أن السلطان أو الحاكم أجير في مضاربة الامة مقابل أجر غير أنه أجير قوي أمين بويع بالرضى لا بالقهر فالاستثناء يؤكد ذلك من خلال تنبيهه عليه السلام إلى أن الكفر البواح الصراح من لدن الاجير إنشاء أو إقرارا أمر ناقض للبيعة فالمنازعة على الامر وهو أمر الحكم بالطرق غير المشروعة إسلاميا مذهب للريح مبدد للوحدة مغر للعدو والاعتراف بمشروعية الحكم عبر الولاء السياسي فريضة على كل مؤمن طاعة وإتباعا للسنة ولكنه مشروط بإقامة الدين وإقامة الدين وظهور الكفر الصراح البواح لا يلتقيان ولا يتسع لنا هنا المجال لضرب الامثلة على ذلك غير أن التشديد قوي على إقامة الميزان المعتدل المقسط من لدن الامة بين فريضتين لابد لنا منهما : حراسة الوحدة بعدم التنازع على أمر الحكم بالطرق غير المشروعة إسلاميا من جهة وحراسة الدين بإعلان الحرب على مظاهر الكفر الصراح البواح وهنا محل تقديرات مختلفة كثيرة من لدن أهل النظر والرأي فالميزان هنا يخضع للكتاب ولميزان العقل على حد سواء لانه أمر لابد فيه من المصالح والمفاسد والاجتهادات وتغير الواقع وكل من يفرض على نفسه الحول فلا ينظر لسوى الكتاب أو الواقع فلن يظفر بالصواب .
الركن الرابع من أركان بيعتك له عليه السلام : حراسة حرية الناس :
قول الحق في الاسلام يعني في خطابنا المعاصر حرية الرأي وما يقتضيه من حرية التفكير وحرية الاعتقاد وحرية العبادة وحرية العمل وحرية المساهمة في رسم مصالح الناس وهي حرية شدد عليها بقوله " أينما كنا " تماما كما شددفي الركن الاول " في العسر واليسر" .
حوصلة مركزة لنظام البيعة : أربعة أركان هي الطاعة في الدين والاتباع في الدنيا أولا والولاء السياسي للحكم إعترافا بالمشروعية ثانيا وحراسة الوحدة الداخلية بميزان يحفظ للولاء السياسي مشروعيته من جانب ويحفظ لحق الامة في التغيير من جانب آخر ثالثا وحراسة الحريات الخاصة والعامة للناس رابعا .
مواقع النشر (المفضلة)