الحلقة الثامنة والخمسون
أخرج البخاري عن أبي هريرة أنه عليه السلام سئل عن الساعة فقال " إذا ضيعت الامانة فأنتظر الساعة " فقال السائل " وكيف إضاعتها ." فقال عليه السلام " إذا وسد الامر لغير أهله ".
ــــــــــــــــــــ
من شواهده " يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها " و" يسألونك عن الساعة قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلاهو ثقلت في السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغته " و" يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله ". و" إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " الخ ...
موضوعه : الانسان رسول ذو أمانة حياته في أدائها وموته بتضييعها وتلك هي الساعة:
أورد القرآن الكريم في مواضع لا تزيد عن ثلاثة أسئلة الناس عن الساعة أي القيامة فكان كل مرة يوجه السائل وسائر من بعده إلى الجانب الايجابي الذي عليه أن يتحلى به لمواجهة حسابه يوم تقوم الساعة وعدها من المغيبات التي لا يعلمها حتى أقرب الناس إليه من مثل محمد عليه السلام " إن الله عنده علم الساعة ..." فيما سمي بالمغيبات الخمس وبذات الطريقة سار عليه السلام مع السائلين عن الساعة فقال لاحدهم " وما ذا أعددت لها " وقال لاخر " ساعتك يوم مماتك " وقال للاخر ما نحن بصدده الان .
الانسان ذلك المجهول أو لم الحرص من الناس على معرفة المستقبل ؟:
إذا كان الدكتور ألكسيس كاريل وصف الانسان بأنه مجهول بحكم تخصصه الطبي في كتابه البديع القيم ليقف الانسان الغربي المتمرد المتأله المزهو المتبطر ببعض ما كشف الله له من مكنون غيبه وما من عليه بملكة عقله .. فإنه آن لعلماء النفس من المسلمين وضع مؤلف شبيه يقف على مجاهيل الانسان النفسية ويشرح جهازه النفسي تشريحا يساعد على فهم لحسن تربيته وتنشئته طفلا وحسن التعامل معه مراهقا وحسن سياسته راشد مكلفا مسؤولا كما يساعد المؤمنين على كسب خير في إيمانهم ويساعد غيرهم على الايمان به سبحانه ومن تلك المجاهيل التي كشف عنها القرآن في الطبيعة النفسية البشرية حب الانسان لمعرفة المستقبل القريب والبعيد على حد سواء سواء ما تعلق به هو أو ما بعد عنه وهو حب ينبع من غريزة حب البقاء وعبر عنه القرآن بصيغة أخرى غير بعيدة من هنا وهي " وكان الانسان أكثر شئ جدلا " وليس الجدل دوما مذموما ولكن المذموم منه ماكان مفسدا للاخوة أو متعلقا بما لا يعنيه أو مالا يقوىعلى علمه والحكمة أظنها ظاهرة جلية لكل إنسان من إخفاء ميعاد الساعة وليست هي سوى البرهنة على قدرته وعظمته وألوهيته ووحدانيته سبحانه من جهة وصرف الناس إلى الايجابية العملية بدل الانتظارية التي أهلكت يهودا وكادت تؤدي بغيرهم ممن عطل العمل وبعض الشرائع بدعوى غياب الامام أو المهدي لولا إصلاحا حديثا نسأل الله له الثبات والسداد وذلك فضلا عن أن معرفة الانسان لميعاد موته أو الساعة لاغ لمقصد الابتلاء غير أن ذلك لا يمنع الانسان من حسن التخطيط في سائر مجالات حياته كأنه يعيش أبدا شريطة أن يقابله إستعداد للرحيل بالتوبة والعبادة والانفاق وفعل الخير ونصرة المظلوم كأن الانسان يموت الان كما ذكرت الحكمة .
وقفة قصيرة مع الحكمة النبوية في تغيير التفاعل بتغير موجباته :
ليس عندي أدنى شك في أن أكثر ما ينقص الناس اليوم مؤمنهم وكافرهم هو الحكمة فبها يغدو الكافر مسلما أو مسالما على الاقل غير ظالم وبها يغدو المؤمن إماما وليس إمعة وأشهد أني لم أر بعد دراسة لما تتخطى الشطآن أحكم منه عليه السلام وفي تغير إجاباته في هذا المقام عن الساعة وفي كثير من المواطن الاخرى دليل على أنه يعامل كل سائل بما يستحقه بما يعني أنه لا يعلم الاجوبة الصحيحة فحسب بل يعلم حال السائلين من جميع الجوانب نفسيا وفكريا وما إلى ذلك وليس من ضرورة ذلك أن يكون علم الواقع هنا بتعبيرنا المعاصر وحيا منزلا بل لما إتسم به عليه السلام من إهتمام وحنكة وحكمة وذكاء وفطنة وحضور بديهة كيف لا وقد إختير معلما للبشرية بأسرها وتلك هي الحكمة التي يحتاجها خلفاؤه من السائرين على دربه علاجا للمشكلات وهداية للناس أما التمترس وراء أريكة الافتاء توزيعا لصكوك الغفران بأجوبة معدة سلفا لا صلة لها بدنيا الناس ولا بواقع الحياة فذلك لا يليق بسوى الدغمائية الكنسية .
ماالعلاقة بين الامانة وبين الساعة :
الامانة بحسب القرآن أقرب إلى الامانة الكبرى أي أمانة الاستخلاف والقيام بالقسط وذلك واضح من خلال السياقات ولا ينفي ذلك شمولها تأدية للامانة الصغيرة الخاصة بزيد أو بعمرو رغم أن هذه تناولتها السنة كثيرا فالكتاب والسنة يتبادلان أدوار الهداية والتوجيه فعادة ما يقوم القرآن بدور الكليات الكبرى والسنة تعتني بتفاصيل الحياة فالامانة في القرآن جاءت مشروحة بقوله " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " كما جاءت مجتمعة مع العهد " والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون " وجاءت صريحة في تعينها بالامانة الكبرى أمانة الحياة " إنا عرضنا الامانة على السموات والارض ... وحملها الانسان " وجاء هذا الحديث ليثبت تلك الصراحة فذكر بأن توسيد الامر لغير أهله مؤذن بقيام الساعة والامر يعني دوما في القرآن والسنة ما لم يحدد أمر الخلافة ومسؤولية الانسان عن حياته وحياة بني جنسه في الدنيا وهو هنا أمر الحكم والمسؤولية في كل رتبة ومستوى من الاسرة إلى الامامة السياسية مرورا بالمسجد وسائر مكونات المجتمع في سائر مناشطه فكل مسؤولية هي أمانة صغيرة كانت أم كبيرة .
هل هي ساعة معينة محددة أم الساعة العظمى :
قال بعض العلماء معنى ذلك أن ساعة إندثار كل مجموعة كبرت أم صغرت ولو كانت أسرة أو صلاة جماعة فضلا عن دولة وشعب ومجتمع وأمة مرتهن بتضييع الامانة فيها أي بتولى الامر فيها كبيره وصغيره مقرونا أم مفروقا من لدن غير أهله قوة وأمانة بتعبير بنت شعيب عليه السلام وقال آخرون معنى ذلك أن من العلامات الكبرى لقرب الساعة هو تضييع الامانة في الناس أي تولي غير الامناء ولا الاقوياء أمرهم والمعنييان لا يتناقضان بل يتكاملان وما ينبغي ذلك أن يشغلنا كثيرا إنما الذي لا بد له من شغلنا فهو الجانب الايجابي من الحديث أي كيف نتدارك إندثار تجمعاتنا من الاسرة إلى الامة إلىما بعد ذلك إن أمكن وذلك بمحاصرة مسلسل إضاعة الامانة بتولية سائر أمرنا الاقوياء الامناء وليس هم سوى من نختار نحن أهل الامانة لان الساعة يوم تقوم لا تقوم على من ظلم منهم وتعفينا نحن المستضعفين من الحساب بل يقال لنا كما قيل لمن قبلنا الذين تذرعوا بالاستضعاف " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " ثم توعدتهم بالنار والعياذ بالله لاهمالهم أمر الامانة العظمى وتذرعهم بأن القوى الدولية المحيطة أقوى من أن تناصب العداء رغم ظلمها الذي لا يطاق وليست اليوم الهجرة سوى آخر أسلوب المقاومة لرد الامانة وتوسيد الامر فينا للاقوياء الامناء والمهاجر كما عرفه محمد عليه السلام ليس هو سوى " من هجر ما نهى الله عنه " والله نهى عن توسيد الامر لغير أهله وهجران ذلك بالعمل الجماعي الدائب المخلص وليس ذلك يؤتي أكله سوى بعد عقود بل قرون فليس هو حقلا يبذر فيه صباحا ليجنى مساء بل هي عزيمة أمة لما بصر الفاروق بتراحم أجيالها أجل من أجل ذلك تقسيم أرض السواد في إجتهاد غير مسبوق في الكون بأسره سوى من معلمه معلم الناس الخير عليه السلام .
ملاحظة صغيرة في الاثناء :
ليس من حسن الفقه عن الله وعن رسوله عليه السلام الاشتغال من لدن طلبة العلم بأمارات الساعة وخاصة الصغرى منها لاسباب منها أولوية غيرها عليها بما لايحصى من الدرجات ومنها غلبة الروايات الواهية فيها على الصحيح وهي غيب مغيب لا يصلح معه سوى صحيح الصحيح ومنها بضاعتنا المزجاة في اللغة وفي عمليات الترجيح والرد والتعليق والتصحيح وليس هذا مطلوبا منا ومنها أن المنهج الاسلامي في ذلك واضح صحيح صريح : العبرة بالايمان بها والاستعداد لها ودون ذلك شغب مشاغبين أو لهو برئ من صبية ومنها أنه في زماننا هذا ربما دون غيره لا تزيدنا تلك الامارات سوى يأسا من أنفسنا ومن الناس ومن عزائم التغيير والاصلاح وهو خلاف ما تريده تلك الامارات بالمطلق وذلك حتى نتهيأ لذلك على جميع الجبهات وعندها لكل حادث حديث .
فالخلاصة هي إذن أن إجتناب ساعة تجمعاتنا القريبة والبعيدة والصغيرة والكبيرة من أسرة ومسجد ورابطة ومجتمع وحكومة وأمة بما يفرق شملها ويلغي دورها إنما يكون بالحرص منا جميعا على أن نتولاها نحن عبر إستخدام الاقوياء كفاءة مهنية الامناء إخلاصا لله فيها ودون ذلك لاوريب موت زؤام وعذابات شديدة ومحن تفت من عواتق الجبال أما الانسان فيتحملها بتضامن الاجيال والروابط . الخلاصة هي أننا أحياء في سائر مواقعنا بالشورى والاخوة والتضامن والتناصح والعدل أو أموات بدون ذلك فهلا إخترنا الحياة حتى لومات منا الكثير أو ترانا نختار الموت حتى لو عشنا ولكنها عيشة ضنكا وحشرا أعمى .
مواقع النشر (المفضلة)