الحلقة الثالثة والثمانون
أخرج الترمذي عن أبي حذيفة أنه عليه السلام قال "لاتكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا ألا تظلموا ".
ـــــــــــــــــــــــــ
من شواهده " وكذلكم جعلناكم أمة وسطا " و" لاتتبعوا خطوات الشيطان " وغيرذلك كثير...
موضوعه : الامعية الحضارية هي داء الامم توقى لها الاسلام بتميز الشخصية عبر الوسطية.
أبوحذيفة إبن اليمان كرمه المصطفى عليه السلام بأن خلع عليه من أردية الحب بسطا وافية فهو أمين سره عليه السلام وهو مرقى لم ينله حتى الصديق والفاروق وذو النورين وأبو سبطيه وريحانته عليهم الرضوان جميعا وهو من إستودعه عليه السلام قائمة إسمية في المنافقين دفنت معه ولك أن تتصور أن رجلا منا اليوم إستحفظه نبي وديعة خطيرة وهل أخطر من تلك الوديعة فأي حمل وأي أمانة وأي قلب ذلك الذي لم ينبجس برشح وأمير المؤمنين عمر كالملدوغ لا يبرح حذيفة حتى يعاوده سائلا عما إذا كانت القائمة تضم بين أضلعها إسمه فأي جأش ربط الله عليه حذيفة وأي وجل يفتك بمهجة عمر وأي جيل قرآني فريد وحذيفة ذاته هو من كان يسأل محمدا عليه السلام عن الشر مخافة أي يدركه في حين كان الناس يسألون عن الخير واليوم حذيفة هو من ينقل لنا ممن إستحفظه على خبر السماء خبرا من السماء يرسم لنا ولكل أمة في الحقيقة بما فيها أمم الكفر من سائر الملل والنحل منهج الوسطية والتميز واقيا ضد داء الامعية .
كما لا ينبغي غض الطرف هنا عن كونه عليه السلام يخاطب بصيغة المخاطب الجمع " لاتكونوا" بما يعني أن هذا الدواء من صيدليته عليه السلام موجه للامة جمعاء وليس معنى ذلك أنه لا يصلح للافراد ولكن لا يغني أمة أصابها داء الامعية الحضارية أن يكون فيها أفراد من هنا وهناك متناثرون بلغ كل واحد منهم أرقى مصاف التميز والوسطية كما ينبؤك قوله " تقولون" هنا عن أن الامعية الحضارية سببها ثقافة قولية أستكنت في الضمائر فترجمتها الجوارح وأكثر خطاب القرآن بفعل قال أمرا ونهيا لان القول عند العرب كناية عن الاعتقاد والثقافة وليس كما هو الحال عندنا اليوم حيث نقصر القول على حديث اللسان وبمثله جرى التعبير النبوي في مثل قوله " قل آمنت بالله ثم إستقم " فإنها تعني إعتقد ذلك ثم قله بلسانك . كما لابد لك من قراءة في الصياغة العامة للحديث وهي تقوم على النفي ثم الاثبات وهو بلاغة في قضايا الاعتقاد وعظمى معاقد الامور أبدع تقريرا للحقائق والدليل أن مفتاح الاسلام وعصارة خلاصته وهي شهادة التوحيد صيغت بمثل ذلك فلا مكان للايمان حتى يتنزل الكفر بالطاغوت كما هو مقرر مباشرة بعد أعظم آية أي آية الكرسي ولا مكان للتوحيد حتى يتنزل نفي الالوهية عما سواه سبحانه ولو رجعت إلى القرآن والسنة لالفيت أن سائر ما كانت صياغته على هذا النحو أي نفيا مشفوعا بإثبات هو من الامور الكبيرة التي حفل بها الوحي وكانت آثارها في الدنيا ظاهرة خيرا أو شرا. ومنها هذا الحديث وليس ذلك سوى لانه ينتمي إلى تقرير القواعد الحضارية الكبرى لدى الافراد والجماعات والشعوب والامم والتي لولا تميز بعضها عن بعض لكانت أمة واحدة كما ورد في القرآن في أكثر من موضع . كما لا ينبغي أن يفوتني ويفوتك بأن حد التميز والوسطية يعرفه الحديث هنا بالاحسان وبالظلم وأذكرك دوما بأن الحملة القرآنية المشنونة منه سبحانه ومن مبعوثه رحمة للعالمين عليه السلام لئن كانت على الظلم والكفر سواء بسواء فهي على الظلم أشد كثيرا ولك أن ترجع إلى ذلك بنفسك في كتاب ربك وسنة حبيبك عليه السلام مستفيدا من إجتهاد علمي تيمي عظيم ( نسبة إلى إبن تيمية عليه رحمة الله سبحانه ) مفاده أن الحرب على الكفر في القرآن جلها يقصد بها الظلم سيما إذا أجتمع في الانسان أو في الفئة كفر مع ظلم فإنه يرفعه إلى درجة التكبر والاستكبار ويتوعده بما لا تتحمله الاسماع أما إذا كان المقام مقام كفر دون ظلم فإن القرآن عادة ما ينبسط طويلا في عرض مختلف الحجج على خبالها فيجادلها ثم يدحضها ويطرحها ولا يخرج منها التالي المتدبر العاقل إلا وبرهان الحق في نفسه ساطعا كالشمس في رابعة النهار . من المؤكد أن هذا الامر الاخير في قراءة الحديث في مستوى الحد بين الامعية وبين الوسطية وهو حد الاحسان من جهة وليس مجرد الطاعة وحد الظلم من الجهة المقابلة وليس مجرد الكفر لا يسعه مجال للتفصيل فيه رغم أهميته القصوى في فهم الحديث وفهم معاني الامعية المقصودة وحدودها ولو لم يكن الامر كذلك لعبر بدل الاحسان بالايمان أو الاسلام أو الطاعة فضلا عن سائر العبادات ولعبر بدل الظلم بالكفر أو بالفسوق أو بالعصيان فضلا عن سائر الرذائل غير أن كل ذلك لا يصلح أن يكون حدا فاصلا للامعية الحضارية داء يفتك بالامم .
الامعية نظرية إجتماعية خلدونية :
قال إبن خلدون رحمه الله " المغلوب مولع أبدا بتقليد غالبه " وهذا يقودنا إلى الحديث عن الاساس النظري للوقاية ضد داء الامعية الحضارية التي تصيب الافراد والجماعات أمما وشعوبا على حد سواء وليس ذلك الاساس النظري سوى أن التقليد الذي حرمه الفقيه الثائر إبن حزم رحمه الله تحريما قطعيا يقود إلى المغلوبية الثقافية وليس مقصود هنا مجرد الغلبة بالقهر المادي فذلك أمر لا يسلم منه حتى الانبياء وقد قتل بعضهم وتقود المغلوبية الثقافية سليلة التقليد إلى الامعية ثم تقود الامعية إلى ضمور عمل سنن التنوع والاختلاف والتعدد فينشأ عن ذلك ظلم وفق لقاعدة " إن الانسان ليطغى أن رآه إستغنى " وهو ما نعيشه اليوم كونيا سوى أملا في أن الاسلام الذي وضعه الناتو على لسان رئيسه السابق عدوا جديدا بعد سقوط الشيوعية قلعة حصينة سيطول قرع ثيران البيت الاسود من آل صهيون وصليب قرونهم عليها ثم تنكسر بإذنه سبحانه .
قطاعات شبابية ونسائية منا غير ملقحة ضد سرطان الامعية : إمعية وافد وإمعية موروث :
الامعية بما هي ذوبان شخصية وترهل روحي وفقدان للمناعة الداخلية عقليا ونفسيا تتخذ لها إتجاهات عديدة تماما كالمائع المنساب لو أهرق فإنه يجري لفرط ضعفه إلى الاسفل دوما والوحي يحذرنا من ذلك فمرة ينعي على الكافرين قولهم " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " ومرة ينعي علينا تقليدنا الاعمى للغالب أو من تصورنا أنه الغالب ولو كان في سفح الحضيض " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذرعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" واليوم نجد رغم بزوغ فجر صحوة إسلامية واعدة وربما لولاها لكان الخطب أجل قطاعات شبابية ونسائية واسعة سيما في المناطق التي ضرب فيها سرطان التحديث المزيف بقوة غير ملقحة ضد سرطان الامعية سواء إنبهارا بالغرب الاشتراكي قبل عقود أو بالغرب الرأسمالي اليوم حتى وصل الحد إلى إختيار أسماء غربية خالصة لابنائنا وبناتنا وليس عسيرا عليك في كثير من العواصم العربية اليوم أن تلفى سائر المآكل والمشارب والملابس التي تزدان بها شوارع أمريكا وأروبا وهو ذات الامر من وجه ما الذي دفع بغريزة رد الفعل أو قانون التحدي والاستجابة بلغة الاجتماعيين إلى التعبير عن رفض ذلك بالهروب إلى الماضي السلفي بزعم أن تراث خير القرون كفيل وحده بتعديل الكفة ووصل ذلك الغلو إلى حد عدم التمييز فكرا وسلوكا بين الكفر سيما الكتابي منه وبين الظلم من جهة وبين ظلم المؤمن وظلم الكافر من جهة أخرى وإلى مصادرة كرائم الاجتهاد ونفائس التجديد وهو الامر الذي تلقفته الايدي المتصهينة والمتصلبنة فجعلت منه في أحوال كثيرة معبرا للاجهاز على الاسلام وأمته بإسم الاصلاح الديمقراطي حينا وبإسم العولمة حينا آخر . فالحاصل أن الامعية ليست منكورة سوى في إتجاه الغالب حضاريا وثقافيا وعسكريا من لدن عبيد الفكر الغربي سلائل القردة والببغاوات بل هي منكورة كذلك في إتجاه رفض التصدي لهموم الحاضر سوى بلغة القتل الاعمى والغضب الناقم والتكفير بالجملة من لدن عبيد الفكر الخارجي والفهم السطحي . ولذلك جاء الاسلام بلقاح الوسطية تمييزا للامة عن المغضوب عليهم وعن الضالين وتمييزا لبلائها في كل عصر ومصر عن إجتهاد سلف أدى ما عليه ومضى في سبيل حاله وغرو خلف لايرضى بغير مقام الذيلية .
سلاح الوسطية الفكرية ضد سرطان الامعية : حشد قوة تذب عن الحق وترهب المتربص :
خذ إليك هذه محكمة : الحياة محكومة بسنة الوحدة بدل التجزء وليس فصل جانب عن آخر مفيد سوى للغرض الدراسي ثم سرعان ما يعود التركيب على التفكيك ليستقر في العقل وحدة موحدة . الداعي إلى ذلك هو أن الوسطية الفكرية وهي خصيصة من خصائص التصور الاسلامي تحفظ حياته وتضمن تجدده لا تنفصل عن حرس مادي يصون تخومها ويرهب المتربص وهو ما أمر به سبحانه أمرا حازما فرطنا فيه أيما تفريط فنحن نتجرع اليوم أثر ذلك غصصا حالقة " وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم وآخرين من دونهم لاتعلمونهم " والامر للامة وليس للافراد فهي تتولى ترتيب أولوياته وتنظم مشمولاته وهو إعداد يجب أن يتوجه أساسا لذب كل متربص فهو " لهم " وليس لنا ولاحدود لمجالاته ولا لكمياته كلما كان قوة مقدورا عليها وليس رباط الخيل سوى ورودا مورد الغالب يومها والمقصد من الاعداد هو قذف الخوف في نفوس العدو إلىحد الرهبة فلا يتجرأ على المداهمة وهو خوف يقذف في نفس عدو الله فهل نتجرأ اليوم على القول أن الله ليس له عدو وهو عدو الله قبل أن يكون عدوا لنا بصريح ترتيب الاية وهو إعداد يقذف الخوف والرهبة كذلك في صفوف أخرى طويلة تصبحنا وتمسينا متمترسة وراء لافتات الاصلاح الكاذب والتوجيه الفاجر لانعلم اليوم منها سوى لحن القول بل هؤلاء ربما أشد جزعا ورهبة من قوة ليس لها حدود ولا تتخاذل عن ميدان في الحياة . الحاصل من كل ذلك هو : لئن حمل الحق قوته في حجته العقلية فإنه في حاجة إلى قوة مادية تحميه لئلا يتعرض بعض حملته بعد قرون من ضعفهم وقهر العدو لهم إلى فقدان المناعة الذاتية أي حصول الامعية الحضارية فالقوة عوان للحق وما أروع أن يجتمعا في قوم .
الامعية : أسباب وعلاجات :
أهم أسباب الامعية هي : الانهزام النفسي والضعف الروحي وتشوش عقلي وهي أسباب ذاتية تصيب الفرد والامة علىحد سواء ولها أسباب موضوعية خارجية وهي : ذلة وخنوع بسبب ظلم باغ أو بسبب حاجة حيوية ملجئة فاقرة وسحر خالب للعقول بسبب سطوة الغالب وبسطه لجنة الارض رفاها ورغدا على أن الاسباب الذاتية هي المحددة في مطب الامعية ولذلك إحتفى الوحي بالصبر أمرا وتحبيبا وعرضا لنماذج الصابرين في التاريخ أيما إحتفاء لان الصبر محلول حيوي مضاد يحمي الشخصية من الامعية حتى في حال شدة الهزيمة العسكرية وطول أمدها .
أهم علاجات الامعية هي : التشبع النفسي والروحي والعقلي والعاطفي من نظرية الحق سيما في معاقدها العقدية الكبرى ومداومة تذكرها سيما في مؤسسات مختصة من مثل الاسرة ومدارس التعليم والعمل على بذلها لكل طالب ومطلوب دعوة حية منداحة وبناء السلطان الحارس لتلك النظرية ورصد سائر مظاهر القوة كسبا وتعليما وتعاطيا ورص صف الجماعة وفق الحرية والمسؤولية والشورى والتوحد وبسط مجاري الحوار مع المخالف بالحسنى .
النبي الاكرم عليه السلام يرشد إلى بعض المضادات الحيوية ضد الامعية : نوع القرين :
لو تتبعت سيرته وسنته لالفيت منهجا كاملا شاملا في ذلك ولكن لضيق المجال أذكر بمثال واحد كبير وخطير تحدث عنه القرآن بإسم القرين والصاحب والشيعة وضرب فيه عليه السلام مثالا قال فيه " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ..." وهو متفق عليه عن أبي موسى ويهم خاصة فترات التربية الاولى إلى حدود المراهقة أو ما يناهزها لقابلية الانسان يومها للتقليد والتأثر والاكتفاء بالتلقن دون عقل وليس ذلك محبوسا عن الانسان المتكلم بل يتعداه إلى الانسان الصامت وهو الكتاب وسائر ما يعرض من ثقافة وفكر وإعلام حتى قال أحدهم " قل لي ماذا تقرأ أقول لك من أنت " ولنا أن نقول اليوم وقد طغى الاعلام الفضائي المرئي على سائر ما عداه " قل لي ماذا تشاهد أقول لك من أنت " وأخطر جليس اليوم هو الاعلام فهويصنعك ويصنع لك بيتك زوجا وذرية ويصنع لك بيئتك في كل أطوارها فكن الاعلامي الصالح أو المشاهد الصالح ولاتكن المنعزل الصالح ولا المشاهد غير الصالح ولا الاعلامي غير الصالح .
مواقع النشر (المفضلة)