+ الرد على الموضوع
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 6 إلى 10 من 11
  1. #6
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام

    الفصل الخامس:

    التَّوبة وَسعَةُ المغفرة الإلهيَّة

    سورة الأنعام(6)

    قال الله تعالى: {وإذا جاءَكَ الَّذين يُؤمنون بآياتنا فقلْ سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسهِ الرَّحمةَ أنَّهُ من عَمِلَ منكم سُوءاً بجهالةٍ ثمَّ تابَ من بعدِهِ وأصلحَ فأنَّه غفورٌ رحيمٌ(54)}

    ومضات:

    ـ إذا جاءكم الَّذين يؤمنون بالله الواحد الأحد، وبتعاليمه وآياته في خلقه وإبداعه، فقولوا لهم سلام عليكم، السرور والطمأنينة والسعادة لكم في أحضان الإسلام، والرحمة منحة لكم من الرحيم الرحمن، فما أنتم إلا بشر تنحدرون من آدم عليه السَّلام، وكلُّ بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوَّابون المصلحون.

    في رحاب الآيات:

    خطاب كريم من ربٍّ كريم لرسول كريم، لكنَّه يشمل كلَّ مسلم في كلِّ حين، ومضمونه: يا أيُّها النبي إذا جاءك الَّذين يؤمنون بآياتي المبثوثة في كلِّ ركن من أركان هذا الكون، في السموات والأرض والنجوم والكواكب، والشجر والدواب، وفي أنفسهم، فبارك إيمانهم، وشدَّ على أيديهم مقوِّياً عزائمهم مباركاً جهودهم، وبشِّرهُم إن صدقوا وأخلصوا؛ برحمة الله ورضوانه، وبأن لهم منه السَّلامة من كلِّ عقاب، والبراءة من كلِّ عذاب. قال عكرمة: نزلت هذه الآية في الَّذين نهى الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه و سلم عن طردهم، فكان إذا رآهم النبي صلى الله عليه و سلم بدأهم بالسَّلام وقال: «الحمد لله الَّذي جعل في أمَّتي من أمرني أن أبدأهم بالسَّلام» (أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ).

    وقد استعملت الآية كلمة (سلام) لما فيها من دلالة على الأمن والرِّضا والطمأنينة، الَّتي يتوخَّاها كلُّ إنسان يعيش على ظهر هذا الكوكب، ولأن السَّلام اسم من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته. ومع السَّلام أتت الرحمة الَّتي كتبها الله على ذاته القدسية، كرماً منه ومِنَّةً وتفضُّلاً، فقد ورد في الصحيحين عن الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «لـمَّا قضى الله على الخلق كَتَبَ في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي».

    وقد قضى الله تعالى عندما خلق الإنسان أن جعله مخلوقاً مشرَّفاً بالتكليف، ولم يكلِّفه الكمال، لأن التكليف به تكليف بما لا يطيق، {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا..} (2 البقرة آية 286) وإنما كلَّفه أن يستعين بربِّه ليتغلَّب على وسوسة الشيطان، وأن يتطهَّر من الدنس كلَّما تورَّط في الإثم، وأن يرتقي في مدارج الاستقامة، ويبتعد عن مسالك الخطيئة؛ الَّتي لا عصمة له من ارتكابها، ولكنَّه مأمور بالرجوع عنها، ليخرج من دائرة الشرِّ والأشرار، ويدخل في زمرة الأخيار الَّذين قال في حقِّهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : «كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون» (رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أنس رضي الله عنه ). فهذا القول هو تفسير لطبيعة سلوك البشر؛ فكما أخطأ أبوهم آدم فكلُّ واحد منهم معرَّض للخطأ. فإمَّا أن يسرع بالتَّوبة ويتوب، فيتوب الله عليه كما تاب على آدم، وإمَّا أن يصرَّ على ذنبه ويستكبر عن التَّوبة، فيُحرم رحمة الله ورضوانه كما حُرم منها إبليس الَّذي أصرَّ على ذنبه واستكبر.

    فالتَّوبة هي صلة مباشرة بالله، ويقظة روحية واستشعار بالانحراف، والعمل على العودة إلى الصراط المستقيم والثبات عليه. أمَّا الإصرار على الإثم والتمادي فيه، فهو مظهر للفراغ الروحي المتولِّد عن موت الإحساس والضمير عند من يرتكبونه، لذلك فهم قلَّما يشعرون بالألم الباعث على الندم. ولهذا كان الإصرار على الذنب من صفات الكافرين، قال تعالى: {إنَّهم كانوا قَبْلَ ذلك مُتْرَفين * وكانوا يُصِرُّونَ على الحِنثِ العظيم} (56 الواقعة آية 45ـ46).

    وقد فتح الله تعالى باب التَّوبة على مصراعيه أمام عباده، فقد روى مسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتَّى تطلع الشمس من مغربها».

    سورة النساء(4)

    قال الله تعالى: {إنَّما التَّوبة على الله للَّذين يعملونَ السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ يتوبونَ من قريبٍ فأولئكَ يتوبُ الله عليهِمْ وكان الله عليماً حكيماً(17) وليستِ التَّوبة للَّذين يعملونَ السَّيِّئاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحدَهُمُ الموتُ قال إنِّي تُبْتُ الآن ولا الَّذين يموتون وهمْ كُفَّارٌ أولئكَ أعتدْنا لهمْ عذاباً أليماً(18)}

    سورة النساء(4)

    وقال أيضاً: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نفسَهُ ثمَّ يستغفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً(110)}

    سورة النحل(16)

    وقال أيضاً: {ثمَّ إنَّ ربَّكَ للَّذين عَمِلُوا السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ تابوا من بعدِ ذلك وأصلَحُوا إنَّ ربَّك من بعدِها لغفورٌ رحيم(119)}

    سورة طه(20)

    وقال أيضاً: {وإنِّي لغفَّارٌ لمن تابَ وآمنَ وعَمِلَ صالحاً ثمَّ اهتدى(82)}

    ومضات:

    ـ الذنب يسبب البعد عن الحضرة الإلهية، والتَّوبة تقرِّب إلى الرحمن الرحيم لما فيها من ندم وإنابة إليه سبحانه، فما أحلى المسارعة في الاستغفار، وتصحيح المسار، وتقديم الاعتذار للواحد القهار.

    ـ المغفرة الإلهية تعني عفوه تعالى عن الذنب الَّذي يرتكبه المؤمن أو عن التقصير الَّذي يبدر منه.

    ـ لا يمنح الله تعالى المغفرة هكذا جزافاً لمن يخطئ، بل يقيِّد ذلك بشروط أهمُّها:

    ا ـ أن يتخذ المذنب قراراً حازماً بالإقلاع عن الذنب وعدم العودة إليه.

    ب ـ أن ينهـج طريـق العمل الصحيـح المثمر، ويكثر ـ جهده ـ من العبادات وعمل الخير، ويصلح ما نجم عن خطئه فالحسنات يذهبن السيئات.

    ج ـ أن يتحلَّى بالإيمان الكامل بأن ما رسمه تعالى له هو لخيره ولصالحه، وأن يجعل النور الإلهي قائده ودليله في مسيرة حياته.

    في رحاب الآيات:

    إن جهلك للقانون لا يعفيك من المسؤولية، ولا ينجيك من عواقب مخالفته. هذا هو مقتضى مجموع النُظُم والقوانين البشرية الَّتي تحكم المجتمع الدنيوي في كل بلدان العالم. أمَّا القانون الإلهي فيحدِّد أنه متى كانت نيَّتك في العمل صادقة خالصة لوجه الله تعالى، فأنت غير مؤاخذ عما يبدر منك من الأخطاء، الَّتي تجهل أنها أخطاء، وهذا بعض ما عناه الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (متفق عليه) إلا أنه في اللحظة الَّتي تدرك فيها خطأك، فأنت مطالبٌ بالتَّوبة النصوح، الَّتي تعني الرجوع عن الخطأ وعدم العودة إليه.

    فالإنسان قد يخطئ فيسيء إلى نفسه، أو إلى غيره دون علم وبحسن نية، أو تحت تأثير الضعف البشري الَّذي يعتريه كلما عُرضت أمامه صنوف الشهوات وأنواع الفتن. فإن سارع إلى استدراك ما فرَّط فيه فندم ثمَّ أَتْبع عمله السيء عملاً حسناً، وأصلح ما نجم عنه من إفساد تاب الله عليه، ووجد أبواب رحمته مفتَّحة أمامه، وأمام جميع الخاطئين المتطهرين، إذا أنابوا إليه بتوبة صادقة، مقرونة بصلاح القلب وإصلاح الحال، مشفوعة بالتزام شرع الله القويم، بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، سواءً منها المادية كالمال، أو المعنوية كالإساءة إلى الناس وذلك بردِّ اعتبارهم وصيانة كراماتهم. فلعلَّهم بذلك يندرجون في طائفة التائبين الَّذين استثناهم الله من عذابه وأكرمهم بمغفرته، قال تعالى: {إلاَّ من تابَ وآمنَ وعَمِلَ عملاً صالحاً فأولئكَ يُبَدِّلُ الله سيِّئاتِهِم حسناتٍ وكان الله غفوراً رحيماً} (25 الفرقان آية 70). لكن وللأسف الشـديد فقد درج العوامُّ من الناس ـ عنـدما ينصحهم أهـل الفضل بالكـفِّ عن المعاصي والموبقات ـ على أن يقولوا: دعونا نَعِشِ الحياة كما يحلو لنا فالله غفور رحيم. إن هذه العبارة ناقصة وهي تعبِّر عن جزء من الحقيقة ، فالله واسع المغفرة، بدليل قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي الظنَّ الحسن» (رواه البخاري) ولكن الله أيضاً شديد العقاب، بدليل قوله تعالى: {ومن يبدِّل نِعمة الله منْ بعدِ ما جاءَتهُ فإن الله شديدُ العقاب} (2 البقرة آية 211). ثمَّ إن مغفرته تعالى متاحة لمن يطلبها بصدق العزيمة، ويُصلح ما نجم عن خطئه من الفساد؛ فهل يصحُّ أن نكسر نافذة الجيران ثمَّ نقول لهم: عفواً على كسرها دون أن نتقدَّم لإصلاحها، طامعين بسماحهم وسعة صدرهم؟. فالذنب يُحدث أثراً في نفس مرتكبه، وفي نفوس الآخرين، ولهذا كان لابدَّ من عمل جادٍّ لإزالة آثار الخطأ سواء من صفحات قلوبنا أم من صفحات قلوب الآخرين. وهذا العمل الجادُّ هو ما نسميه بالتَّوبة، وهي تغيير مسار حياتنا من الخطأ إلى الصواب، ويكون ذلك عن طريق الندم بالقلب، والاعتذار باللسان بأن نستغفر الله، والإقلاع بالجوارح وهو الكفُّ عن الذنب وإصلاح ما نجم عنه من ضرر وإساءة للآخرين، ثمَّ الاتجاه فكراً وقلباً نحو حضرة الله، والعمل على إصلاح أخطاء المجتمع وعيوبه بكلِّ وسائل الحكمة والرفق واللين، وتقديم الخدمات المختلفة له، من نشرٍ للعلم، وإصلاح بين المتخاصمين وغيره، وأن يكون عملنا خالصاً لوجه الله، وابتغاء محبَّته ورضوانه.

    والتَّوبة الحقيقية المثمرة ليست كلمة تقال، وإنما هي توبة النفس الَّتي يهزُّها الندم من الأعماق، فتتوب وتنيب وهي في فسحة من العمر وبحبوحة من الأمل. لا توبةَ الَّذي اقترف من الآثام ما اقترف مع العلم والإصرار، حتَّى إذا أشرف على الموت وآذنت شمسه بالمغيب، وأدرك أنه هالك، أعلن توبته بصوت خنقته حشرجات الاحتضار، وجسد يغالب أنياب الموت، كتوبة فرعون لمَّا أدركه الغرق فقال: {..آمنتُ أَنَّهُ لا إله إلاَّ الَّذي آمنَتْ به بنو إسرائيلَ وأنا من المسلِمين} (10 يونس آية 90) ذلك أن توبته هذه هي توبة المفلس الَّذي أحاطت به خطيئته، ولم يبقَ لديه القدرة على ارتكاب المزيد من الذنوب، ولا فسحة من العمر للانقياد للهوى. وهي توبة ولدت ميتة لا رجاء منها ولا قبول لها، إذ لا يمكن لها أن تنشئ في القلب ندماً بعد أن توقفت نبضاته، أو في الحياة تبدُّلاً بعد أن انتهى أجلها، وبالتالي فإنها لن تُحْدِثَ النتيجة المرجوَّة من التَّوبة وهي الارتقاء في الخُلُق والعودة إلى الرشاد، وهكذا يشترك العاصي المُصِرُّ؛ مع الكافر في مصير واحد، هو عذاب جهنم وبئس المصير؛ ومع ذلك: «فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الَّذي رواه الترمذي والحاكم وأحمد بسند صحيح.

    وقدكتب تعالى على نفسه قبول توبة عباده على الرُّغم من استغنائه عنهم، فلا تنفعه توبتهم ولا تضرُّه معصيتهم، ولكنها رحمة منه وزيادة في نفعهم، فبالتَّوبة عن الأخطاء رجوع عن الفساد، وإصلاح لحياة الأفراد والمجتمع. ولو لم يشرع تعالى لهم التَّوبة لما كان لديهم الحافز على الرجوع عن أخطائهم، ولهلكوا بسبب استرسالهم في المعاصي واتِّباع الهوى، ولتصدَّعت البنية الأخلاقية للمجتمع، وانزلق أفراده وراء وسوسة الشيطان، واستسلموا لليأس والقنوط. وبهذا يكون الإسلام قد فتح أمام الإنسان العاصي بابين: باب الإصلاح بالتَّوبة والإنابة، وباب الرجاء والأمل بفضل الله تعالى وكرمه وحسن تقبُّله للمنيبين والتوَّابين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره (أي وجده) وقد أضلَّه في أرضٍ فلاة» (متفق عليه) ذلك أن توبة العاصي تعني عودة الضالِّ إلى جادة الصواب، وهذا ما يريده تعالى لنا، فقد خلقنا لنكون سعداء آمنين في الدنيا، ثمَّ لننعم بجنَّاته وبفضله في الحياة الآخرة، لا ليشقينا في الدنيا ثمَّ يعذِّبنا في الآخرة، تنزَّه الله تعالى عن ذلك. ولهذا كلِّه ينبغي على المسلم أن ينتسب لمدارس الإيمان والتربية الروحية، ويصحب أساتذتها ليشرفوا على تربية قلبه، إلى أن يصبح قلباً سليماً منوَّراً؛ يرى الحقَّ بنور الله فيتَّبِعُه، ويرى الباطل بذلك النور فيجتنبه، وبهذا ينجو من موارد الشكِّ والشبهة الَّتي قد توقعه في الخطأ من حيث لا يدري، ويصبح طريقه آمناً فيمضي فيه مسرع الخطا قاصداً رضوان الله. وإذا ما تعرَّض لزلَّة قدم في مسيرته، فأصاب شيئاً من الذنوب، وتلظَّى بنار الندم على اقترافها، أقبل نحو شجرة التَّوبة، وجعل يستظلُّ بظلالها الوارفة، ثمَّ يتابع مسيرته.

    سورة التَّوبة(9)

    قال الله تعالى: {وآخرون اعتَرَفُوا بذُنُوبِهِم خَلَطوا عملاً صالحاً وآخرَ سيِّئاً عسى الله أن يتوبَ عليهم إنَّ الله غفورٌ رحيم(102) خُذْ من أموالِهِمْ صدقةً تُطهِّرُهُمْ وتُزكِّيهِمْ بها وَصَلِّ عليهِمْ إنَّ صلاتَكَ سكنٌ لهم والله سميعٌ عليم(103) ألم يعلموا أنَّ الله هو يَقْبَلُ التَّوبة عن عبادِهِ ويأخُذُ الصَّدَقَاتِ وأنَّ الله هو التَّوَّابُ الرَّحيمُ(104) وقُلِ اعملوا فسَيَرى الله عمَلَكُم ورسولُهُ والمؤمنون وسَتُرَدُّون إلى عالِمِ الغيبِ والشَّهادَةِ فينبِّئُكُم بما كنتم تعملون(105) وآخرونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إمَّا يُعذِّبُهُم وإمَّا يتوبُ عليهم والله عليمٌ حكيم(106)}

    ومضات:

    ـ تختلف شرائح المخطئين بين معترف بذنبه نادم على فعله، وبين معاند مُصرٍّ ومستهتر؛ والمُقرُّ بذنوبه والمكثر من عمل الخير، تُرجى له المغفرة والتَّوبة عليه من حضرة الله.

    ـ الإكثار من الصدقات من أنجع الوسائل في تطهير النفس، وزرع الشعور بالمشاركة والانتماء إلى المجتمع السليم المعافى، كما أن الإنفاق في سبيل الله هو دعامة مكينة للتوبة الحقيقية؛ وكذا كلُّ عمل مُجْدٍ ومستمر هو بمثابة بطاقة انتساب للمجتمع الإيماني.

    ـ دعاء الرسول الكريم للصحابة، وكذلك دعاء العلماء الصالحين للمؤمنين، يمنحهم شعوراً قوياً بالطمأنينة والراحة النفسية، لما لهم من قرب وحظوة عند ربٍّ سميع مجيب.

    ـ تُعرَضُ الأعمال يوم القيامة على الحضرة الإلهية وعلى الرسول صلى الله عليه و سلم ، وعلى المؤمنين الصالحين.

    ـ باب الرجاء والأمل برحمة الله تعالى يضيء شعلة التفاؤل، ويبقي المؤمن على أعتاب الحضرة الإلهية لائذاً ومستجيراً.

    في رحاب الآيات:

    يتفاوت تقييم الناس لبعض المفاهيم بحسب المنظار الَّذي ينظرون إليها من خلاله، وكذلك هو الأمر بالنسبة للمؤمن فقد يعرِّض قلبه لنسمات الإيمان فتتحرَّك كوامن الخير في نفسه، ويتجلَّى له العمل الصالح فيتلقَّفه ويتعهَّده، وهو مدرك بأنه يفعل ما فيه الخير والفائدة من العمل، وقد تأخذه الدنيا بمشاغلها ولهوها فتفوته تلك النسمات، فيتقاعس عن الخير، أو يرتكب ذنباً دون أن يدرك أنه يسيء إلى نفسه أو إلى من حوله. فقيامه بصالح العمل لا يعني أنه ملاك لا يخطئ، وارتكابه لمعصية ما؛ لا يعني بأنه انحطَّ إلى درك الفسق والشر؛ بل إن ذنبه يثقل كاهله، وتضيق به نفسه، فيستغفر الله تعالى وكلُّه أمل بأن يتوب عليه، يحدوه إلى ذلك أمله بعظيم مغفرة الله، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله تعالى لا يتعاظمه ذنب عبده أن يغفره» (أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ذلك أن رحمته تعالى أوسع من أن يدركها عقل بشر. روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنَّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد» (أخرجه مسلم).

    ومن عظيم فضله تعالى في قبوله توبة العبد المذنب، نسخُ ذنبه ومحوه من كلِّ السجلات الَّتي تحفظ أعماله، روى أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إذا تاب العبد تاب الله عليه، وأَنْسَى الحفظة ما كانوا كتبوا من مساوئ عمله، وأَنْسَى جوارحه ما عملت من الخطايا، وأَنْسَى مقامه من الأرض، وأَنْسَى مقامه من السماء، ليجيء يوم القيامة وليس شيء من الخلق يشهد عليه بذلك» (أخرجه ابن عساكر). وبناء على ذلك فإن صدور أيِّ زلَّة أو هفوة من المؤمن لا يقتضي إحباط سائر عمله، أو وضعه في قائمة الهالكين؛ فإن لكلِّ جواد كبوة، ولابدَّ من إعطاء المخطئين الفرصة لمعرفة أخطائهم وتبيُّنها، حتَّى يُقِرُّوا بها، ويشعروا بالأسف والندم على ما نجم عنها من آثار سلبية، ومن ثمَّ يباشروا عملية الإصلاح والترميم من جديد. وأوَّل ما عني به الإسلام هو إصلاح أعماق النفس الإنسانية، فما على المخطئ إلا أن يتوجَّه إلى خالقه وحده، ويعترف بين يديه بتقصيره، ويُظهِرَ الرغبة بإصلاح فعلته، دونما حاجة إلى واسطة من البشر، بل إن الله ستر عليه معصيته ويكره منه أن يفضح نفسه.

    والخطوة الأولى في طريق الإصلاح تتمثَّل بالإكثار من العبادات والنوافل، فقد روي عن الإمام علي كرَّم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضَّأ فيحسن الوضوء ويصلِّي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له» (أخرجه أحمد في مسنده) ثمَّ تلا هذه الآية: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمَّ يستغْفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 110).

    أمَّا الخطوة الثانية فهي الإنفاق في سبيل الله، بوجوه البرِّ كافَّة، وهذا ما يربط المرء المقصِّر بإخوانه، حيث تتوطَّد أواصر المحبَّة، وتُمَتَّنُ صلة التراحم والتوادد في المجتمع الإنساني. وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتولَّى أخذ الصدقات من المؤمنين لتوزيعها على المحتاجين، وكان من حسن حظِّهم حصولهم على دعائه عليه السَّلام لهم بالخير والبركة، مِمَّا يثلج صدورهم ويشعرهم بالأمان والاطمئنان الروحي والنفسي، ويعطيهم دفعاً إيمانيا يقوِّي إرادتهم للسيطرة على أنفسهم، وتصعيد ميولها، وهذا ما عنته الآية آنفة الذكر: {خُذْ من أموالِهِم صدقةً تُطهِّرهُم وتُزكِّيهِم بها وَصَلِّ عليهِمْ إنَّ صلاتَكَ سكنٌ لهم..}.

    وقد ترك الإسلام فُسْحَةً واسعة للتوبة الَّتي تنجم عن الرغبة الداخلية والإرادة المصمِّمة، وجعل لها مظهراً عملياً يتمثَّل في الإنفاق الخصب المجدي، لأن عدم إتاحة مثل هذه الفرص أمام المذنبين المستغفرين، يصيبهم بنوع من اليأس يشلُّ شعورهم وتفكيرهم، ثمَّ يقعدهم عن العمل والمشاركة الجماعية، لذا أتى الأمر الإلهي: {وقُلِ اعملوا}، فالمؤمن الَّذي يعمل ويخطئ خير من الَّذي لا يعمل ولا يخطئ. وطالما أن هذا العمل سيكون مشهوداً من قبل حضرة الله ورسوله وسائر المؤمنين، فلابدَّ أنه سيكون عملاً محاطاً بالعناية والرعاية، وبملاحظة المجتمع له وتقويمه إذا اعوجَّ أو انحرف عن جادَّة الصواب، وفي يوم الحساب ستُعْرَضُ نتائج الأعمال على الله تعالى والرسول والمؤمنين لقوله تعالى: {يومئذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخفى منكم خافية} (69 الحاقة آية 18) لذلك فهم يقدِّمون أعمالهم في الحياة الدنيا، وهم في حالة من الرجاء والأمل بأن يقبل الله تعالى عملهم، ويشملهم بعفوه الكريم ويبعدهم عن عذابه، وأن يبلِّغهم مقاصدهم. روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «ما اجتمع الرجاء والخوف في قلب امرئ مسلم عند الموت إلا أعطاه الله ما يرجو وصرف عنه ما يخاف» (أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه ).

    لذلك كلِّه فلا ينبغي أن تُرفع عصا الانتقام والعقاب، في وجه المذنب والمقصِّر، طالما أن فرصة التَّوبة متاحة أمامه لينال بها من رحمة الله تعالى، قال صلى الله عليه و سلم : «جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتَّى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا» (متفق عليه). فإذا تاب العبد من ذنبه وأناب فقد حقَّ على المجتمع المسلم أن يحبَّه لأن الله تعالى قد أحبَّه، وأن يدعو له بالثبات على التَّوبة، وأن لا يعيِّره بما سلف من ذنبه، وأن يتعهَّده بالرعاية والعناية فيذكِّره بالله ويعينه على الاستقامة.

    سورة التحريم(66)

    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً عسى ربُّكُمْ أن يُكفِّرَ عنكم سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخْزِي الله النَّبيَّ والَّذين آمنوا معهُ نورُهُم يسعى بين أيْدِيْهِمْ وبأيمانِهِمْ يقولون ربَّنا أتممْ لنا نُورَنَا واغفرْ لنا إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير(8)}

    ومضات:

    ـ يدعو الله تعالى عباده المؤمنين ليتوبوا إليه توبة صادقة يلتزمون بشروطها وآدابها، حتَّى يغفر لهم ويدخلهم فسيح جنانه.

    ـ يوم الحساب، هو يوم الخزي والعار والندامة للكفار والعاصين، ويوم الإجلال والتقدير للأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ولمن تبعهم من الصالحين التائبين المنيبين، حيث سيجعل لهم الله نوراً يحيط بهم ويُشِعُّ من حولهم، وهم في غبطة وأمل في ظلِّ هذا الفيض الغامر راجين المغفرة التامَّة؛ ومَنْ غيرُ الله قادر على أن يغفر ويرحم؟.

    في رحاب الآيات:

    المنهج الإلهي المودع في القرآن الكريم غاية في الوضوح، غايـة في الدِّقَّـة، قد وُضـع من أجل إنقاذ الإنسان من أجواء الجهل والتخلُّف والانحطاط الأخلاقي، والارتقاء به إلى مرتبة المؤمن العاقل طاهر القلب. ومع ذلك فإن بعض الناس يجعلون القرآن من وراء ظهورهم فلا يقرؤونه، وبعضهم الآخر يُعْنَى بتجويد حروفه ويهمل فهم معانيه، أو يعرف معانيه ويغفل عن العمل بمضمونها. أمَّا السالك إلى مقام المؤمن الحقيقي فهو الَّذي يوطِّد العزم على تغيير مسار حياته من طريق الضلال إلى طريق الهدى، مع الشعور بالندم على أخطائه، لعلَّ الله يرحمه ويمحو ذنوبه، ويدخله في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة تجري من تحت قصورها أنهار الجنَّة. ثمَّ إن لهذا المؤمن من رحمة الله ومغفرته نوراً يُظلُّه في دنياه وآخرته، نوراً من الحكمة والفيض الربَّاني يذيقه حلاوة الإيمان فيطرب لها، ويشعره بقربه من حضرة الله فيهيم وجداً ويقول: هل من مزيد؟. وفي الآخرة ينضوي هذا المؤمن وأمثاله تحت لواء النبي صلى الله عليه و سلم ، فيفيض عليهم الله تعالى نوراً يضيء لهم الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم، وعن أيمانهم وشمائلهم كإضاءة القمر في الليلة الظلماء، فيدعون الله قائلين: ربَّنا أكمل علينا هذا النور وأَدِمْهُ لنا، ولا تَدَعْنا نتخبَّط في الظلمات ونحن نجتاز الصراط؛ وحينها يستغيث بهم المنافقون والمنافقات قائلين: {..انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ من نُورِكُمْ...} (57 الحديد آية 13). أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يومَ لا يُخْزِي الله النَّبيَّ والَّذين آمنوا معهُ نورُهُم يسعى بين أيدِيهِمْ وبأيمانِهِمْ..} قال: (ليس أحد من الموحِّدين إلا يُعطى نوراً يوم القيامة، فأمَّا المنافق فيُطفأ نوره، والمؤمن يُشفق ممَّا يرى من إطفاء نور المنافق فهو يقول: {ربَّنا أتممْ لنا نورنا} وامحُ لنا ذنوبنا، إنك أنت القادر على المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب). وإلهامُهم هذا الدعاء في هذا الموقف الَّذي يُلجم الألسنة، ويُروِّع القلوب، هو علامة الاستجابة، فما يُلْهِمُ الله المؤمنين الدعاء إلا بعد أن يهيِّئ لهم الإجابة، فالدعاء هنا نعمة يمنُّ بها الله عليهم تضاف إلى مِنَّته بالتكريم وبالنور، فأين هذا النور من النار الَّتي وقودها الناس والحجارة؟ إنَّ هذا لهو الثواب العظيم والفوز الكبير.

    سورة الزمر(39)

    قال الله تعالى: {قُلْ ياعباديَ الَّذين أَسْرَفوا على أنفسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيم(53) وأَنِيْبُوا إلى ربِّكُمْ وأسلمُوا له من قبلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ ثمَّ لا تُنصَرُون(54) واتَّبِعُوا أحسَنَ ما أُنزِلَ إليكُمْ من ربِّكُمْ من قبْلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ بَغْتَةً وأَنتم لا تشعرون(55) أن تقولَ نَفْسٌ ياحسرتى على ما فرَّطتُ في جَنبِ الله وإن كنتُ لَمِنَ السَّاخرين(56)}

    ومضات:

    ـ إنها دعوة ربَّانية لجميع القوافل البشرية الهائمة في دروب الذنوب والمعاصي، لكي يرجعوا تائبين إلى ربٍّ كريم غفور رحيم، فالله يغفر الذنوب جميعاً، وهو أرحم الراحمين. فليستدركوا منيبين مصلحين لما أفسدوا، ويسلموا القيادة إليه، فلا منقذ من العذاب ولا ناصر لهم إلا هو.

    ـ ينبغي على العباد أن يشدُّوا الهمم والعزائم لتطبيق التعاليم الإلهية بكل قوَّة ونشاط، قبل أن يفوتَ الأوان ويحلَّ العذاب، فتغرق المراكب بغتة وهم لا يشعرون.

    ـ من فاته قطار التَّوبة، وانقطع في صحارى الذنوب والمعاصي، ليس له إلا الهوان والحسرات، فقد تهاون واشتطَّ في اللامبالاة؛ وسخر واستهزأ ثمَّ ندم حيث لا ينفع الندم.

    في رحاب الآيات:

    إن من أخطر الأسلحة الَّتي يستخدمها الشيطان لإبعاد الخلائق عن الله هو سعيه لإيقاعهم في اليأس والقنوط من رحمة الله. فإذا اقترف عبدٌ ذنباً ولم يكن يدرك سعة رحمته تعالى، ولا يعرف السبيل للوصول إليها، فإن الشيطان لا يزال يحوم حوله ليهوِّل له ما اقترف من إثم، وليشعره بأنه عبدٌ خطَّاء لا خير فيه، ولا أمل يُرتجى منه حتَّى ينكفئ على نفسه مصاباً بالإحباط، وهو يعاني أشدَّ المعاناة ندماً على ما اقترفت يداه، وحزناً لعدم تمكُّنه من التَّوبة، أو عدم قبول توبته كما وسوس الشيطان له. وتأتي رحمة ربِّ العالمين، الرحمة المزجاة للخلائق كافَّة، رحمة الرحمن الرحيم، لتنشر ظلالها على الناس جميعاً، ليطمئنوا بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنه لا مكان لليأس في رحاب الله، وبالتالي فلا داعي للتردِّي في مهاوي القنوط والبؤس. إنها الرحمة الواسعة الَّتي تسع كلَّ تائب عن المعصية، وإنها الدعوة للأوبة إلى الله، وإلى الثِّقة بعفوه، فالله رحيم بعباده وهو يعلم ضعفهم وعجزهم، ويعلم العوامل المسلَّطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه، ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كلَّ مرصد، ويتربَّص بهم الدوائر، ويعلم أن الإنسان مخلوق ضعيف سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الَّذي يربطه بالله، والعروة الَّتي تشدُّه إليه. فالله عليم بكنه هذا المخلوق وتكوينه؛ لذا يمدُّ له يد العون، ويوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصيته حتَّى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه، ويثبِّت خطاه على الصراط المستقيم.

    فبعد أن يلج العبد باب المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طُرد وانتهى أمره، ولم يعد يُقبَل ولا يُستقبَل، في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة النَّديِّ اللطيف: {قُلْ ياعباديَ الَّذين أسرفوا على أنفسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيم}. أخرج أحمد وأبو يعلى والضياء عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «والَّذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتَّى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثمَّ استغفرتم لغُفر لكم، والَّذي نفس محمَّد بيده، لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثمَّ يستغفرون فيغفر لهم». فليس بين العبد وبين ربِّه حاجز مانع؛ فالتَّوبة تخترق السموات السبع لتصل إلى ربِّ العالمين فَيَمُنُّ بعفوه وغفرانه.

    ومع ذلك فإن بعض المتعصِّبين المحجِّرين لرحابة عفو الله وكرمه، يدَّعون بأن الاستشهاد بهذه الآيات والأحاديث يشجِّع الناس على ارتكاب المزيد من الذنوب والآثام طمعاً بهذا العفو الإلهي. والواقع أن إبقاء العبد في محيط حسن الظنِّ بالله، أفضل بكثير من إيقاعه في اليأس، لأن حسن الظنِّ بالله يورث الإقبال على التَّوبة الصادقة في أيَّة لحظة، بينما يغلق اليأس الباب في وجه العاصي، وكأنه بذلك قد أصدر الحكم على نفسه بأنَّ مصيره جهنَّم لا محالة. لذلك فقد أتى الأنبياء الكرام مبشِّرين لا مُنفِّرين، ويتعيَّن على الداعي أيضاً أينما كان أن يكون مبشِّراً مؤلِّفاً للقلوب لا منفِّراً لها، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه و سلم على رهط من أصحابه يضحكون فقال: والَّذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثمَّ انصرف وبكى القوم، فأوحى الله إليه: يامحمَّد! لمَ تقنِّط عبادي؟ فرجع النبي صلى الله عليه و سلم وقال: أبشروا، وقرِّبوا، وسدِّدوا».

    ذلك أن التَّوبة عندما تلامس شغاف قلب العبد فإنها تشدُّ عزيمته في طريق الصلاح والإصلاح، وتحثُّه على الالتزام بالطاعة بصدق وإخلاص، وتؤهِّل نفسه للتحلِّي بأحسن الأخلاق، واكتساب أفضل العلوم. روي في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله» (أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في مصنفه).

    وها هي دعوة أخرى توجِّهها الآية إلى الإنابة لله، والعودة إلى رحاب الطاعة وظلالها، دون مراسم أو حواجز، وبغير وسطاء أو شفعاء. إنه اتصال مباشر بين العبد والربِّ، بين المخلوق والخالق سبحانه، فَمَنْ أراد الأوبة من الشاردين فليَؤُبْ، ومن أراد الاستسلام لله فليستسلم، فالباب مفتوح، لا حاجب دونه ولا حسيب عليه.

    فهلمُّوا عباد الله إلى التَّوبة قبل فوات الأوان، {وأَنِيْبُوا إلى ربِّكُمْ وأسْلِموا له من قبْلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ ثمَّ لا تُنصرون} واتَّبِعوا ما أمركم به ربُّكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة، وأنتم لا تعلمون به حتَّى يغشاكم. فالرجوع إلى الله، والالتزام بمبادئ شريعته يجنِّب الإنسان الوقوع في الخطأ، ويدفع عن نفسه الحسرة والألم، فتراه يقول: ياحسرتى وياندمي على تفريطي في طاعة الله وفي حقِّه، أو على سخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه وبالرسول وأولياء الله الصالحين.

    سورة هود(11)

    قال الله تعالى: {وياقوم استغفِروا ربَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه يُرْسِلِ السَّماءَ عليْكُم مِدْراراً ويَزِدْكُمْ قوَّةً إلى قوَّتِكُمْ ولا تَتَولَّوا مُجرمين(52)}

    ومضات:

    ـ كلَّما كان الاستغفار جادّاً والتَّوبة حقيقية، كلَّما انهمرت بركات السماء على الإنسان بأنواع وفيرة وأشكال مختلفة.

    ـ الصلة بالله تعالى تولِّد قوى روحيَّة وجسديَّة تعين المرء على أداء دوره بنجاح على مسرح الحياة.

    ـ إن انقطاع صلة الإنسان بخالقه يبقيه في محيط الجهل والانحطاط.

    في رحاب الآيات:

    هناك علاقة غير منظورة بين عمل الإنسان ورحمة السماء؛ وعمل المؤمن لا يقتصر على العبادة وأداء المناسك، بل يتَّسع ليشمل كل عمل مفيد يؤدِّيه لمجتمعه، ومهما بلغت حسناته واتَّسعت، فإن رحمة الله أوسع وأجلُّ وأعظم وهو محتاج إليها، والحسُّ الروحي الإيماني هو الأساس المعوَّل عليه للشعور بهذه الحاجة. وإن ممَّا لاشكَّ فيه أن القلوب الطاهرة الزكيَّة المزكَّاة، المستغفرة المنيبة، تشدُّ إليها العطاء الإلهي والخير والبركة من السماء، وهذا ما يزيد الإنسان قوَّة وينزله مكانة عالية، لاسيَّما إذا سخَّر هذا العطاء لمصلحة الكلِّ دون أنانية أو مطامع شخصية. وبذلك تتجلَّى لنا الأواصر المتينة بين القيم الإيمانيَّة والقيم الواقعيَّة في حياة البشر، واللُحمة بين طبيعة الكون ونواميسه الكليَّة والحقِّ الَّذي جاء به هذا الدِّين، وهذا ما يحتاج إلى جلاء وتوضيح، خاصَّة في نفوس الَّذين لم تصقل أرواحهم وتشِف، حتَّى ترى هذه العلاقة أو تستشعرها.

    والآية الكريمة الَّتي نحن بصددها ترسي أسس الحياة السليمة على الأرض، فإذا أراد الإنسان أن يستزيد من الخير والنجاح والفلاح، في دنياه وآخرته، فعليه بالاستغفار المقرون بالتَّوبة النصوح، والندم على ما اقترف، ممَّا يؤهِّله لمحو خطاياه، ويقرِّبه من مولاه، ويفتح عليه أبواب خيرات الأرض والسماء. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتَّى رجع، فقيل له: ما رأيناك استقيت؟ قال: لقد طلبت المطر بمخاديج السماء الَّتي يُستنزل بها المطر، ثمَّ قرأ: {وياقومِ استغفروا ربَّكُمْ..}.

    وهناك علاقة وثيقة بين الاستغفار والقوَّة، إذ أن القلب النظيف والعمل الصالح يزيدان المؤمن قوَّة وصحَّة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق، ويمنحانه راحة الضمير، وهدوء النفس، والاطمئنان إلى عدل الله، والثقة برحمته، ويزيدانه قوَّة ليعمل وينتج ويؤدِّي تكاليف الخلافة في الأرض، كما أن القلوب المستغفرة تتَّحد مع بعضها بعضاً في حبٍّ إيماني وصفاء ربَّاني يزيل الضغائن، وينمِّي أواصر التعاون والتباذل، ليصبح المجتمع قويّاً متماسكاً تجاه الشرِّ وأعوانه. وقد تتوافر القوَّة لمن لا يحكِّمون شريعة الله، ولكنها قوَّة آنيَّة سرعان ما تتحطَّم وتعود عليهم بالوبال والخسران، لأنها لا تستند إلى أساس متين من الإيمان والخير.

    سورة يونس(10)

    قال الله تعالى: {ولو يُعَجِّلُ الله للنَّاس الشَّرَّ استِعْجَالَهُم بالخيرِ لَقُضيَ إليهِمْ أجلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذين لا يرجونَ لقاءَنا في طغيانِهِمْ يعمهون(11)}

    ومضات:

    ـ الله رؤوف بعباده، رحيم بهم، لا يستجيب دعاءهم بالشرِّ على أنفسهم، أو أولادهم، أو أموالهم في حال الغضب؛ ولو فعل لقضوا نحبهم وهلكوا.



    في رحاب الآيات:

    هناك صور تتكرَّر في آيات القرآن الكريم، تكشف خفايا النفس الإنسانية، الَّتي لم تستكمل إيمانها الخالص بالله. فبعض الناس يريدون أن يمسكوا بزمام القضاء والقدر فيجعلوه يأتمر بأمرهم، ويغدق عليهم الخير متى أرادوا، ويتنزَّل بالشرِّ على أعدائهم متى شاؤوا، وكأنهم بذلك يتألَّهون على الله ويجعلون أنفسهم أصحاب القرار من دونه! ولكنَّهم بهذا التفكير المريض يتخبَّطون في دياجير الضلال والطغيان، ممَّا يجعلهم متسرِّعين في اتِّخاذ القرارات، فهم يستعجلون في طلب الخير، كما يستعجلون في طلب دفع الشر. وقد فُطر الإنسان على العجلة كما بيَّن القرآن الكريم ذلك حين قال تعالى: {خُلِقَ الإنسانُ من عَجَل..} (21 الأنبياء آية 37) وما استعجاله الخير إلا لشدَّة حرصه على المنافع، أمَّا استعجاله الضُّر فلقلَّة صبره على المحن والخطوب، وكثرة الانفعالات الَّتي تعتمل في صدره، كالغضب أو الجهل أو العناد أو غير ذلك. فقد يدعو الإنسان على نفسه أو ماله أو ولده حين الغضب أو اليأس، ولكنَّ لله جلَّ وعلا قوانينه الَّتي تغاير انفعالات البشر، فهو الحليم، المتجاوز عن السيِّئات، وهو الربُّ الرحيم الَّذي يعرف أين تكمن مصلحة عباده، ولو أنه استجاب لدعائهم لأهلكهم، لذلك يقول صلى الله عليه و سلم : «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم» (رواه مسلم في صحيحه). والتعجيل في طلب الشرِّ من قبل الإنسان لم يقتصر على شؤونه الخاصَّة بل تعدَّاها إلى علاقته بأنبياء الله ورسله، فما إن يدعو رسولٌ قومه إلى الإيمان بالله، ويحذِّرهم من عاقبة تكذيبه، حتَّى يسخروا منه ويطلبوا تعجيل العقوبة الَّتي يتوعَّدهم بها، وقد سجَّل القرآن الكريم ذلك فقال تعالى: {ويقولونَ متى هذا الوعدُ إن كنتم صادقين} (67 الملك آية 25)، وقال أيضاً: {وإذ قالوا اللَّهمَّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ فأمْطِر علينا حجارةً من السَّماءِ أو ائْتِنا بعذابٍ أليمٍ} (8 الأنفال آية 32) فهؤلاء لا يرجون لقاء الله، ولا يخافون وعيده، لذلك فإن الله يمهلهم ويتركهم يخوضون ويلعبون، وقد يغترُّون بحلم الله، ويحسبونه عاجزاً عن ردع مخالفاتهم، ولكنَّ إمهال الله إمَّا أن يكون استدراجاً لهم، أو رأفة بهم عسى أن يتنبَّهوا فينيبوا إلى الرحمن ويتوبوا، أو يخرج من أصلابهم من يوحِّد الله.



    سورة النحل(16)

    قال الله تعالى: {ولو يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عليها من دابَّةٍ ولكن يُؤخِّرُهُمْ إلى أجلٍ مسمىً فإذا جاءَ أجلُهُمْ لا يستئخِرُون ساعةً ولا يستقدِمُون(61)}

    ومضات:

    ـ الله حليم حكيم، لا يعجِّل عقابه للكافرين بنعمه ورسالاته، بل يمهلهم إلى أجل مسمَّى لا يتأخر لحظة واحدة عن موعده الَّذي يقرِّره جلَّ وعلا. وما تأخير الله إنزال عقابه إلا رحمة بالمقصِّرين عسى أن يستدركوا ويتوبوا.

    في رحاب الآيات:

    يختلف قانون العقوبات السماوي عن القانون الوضعي البشري بشموليَّته لحياة الإنسان الخاصَّة والعامَّة، وحتَّى بشموله لتفكيره ونواياه، وكلِّ كلمة تنبس بها شفتاه! كما أنه يختلف في توقيته لتنفيذ العقوبة. والإسلام لا يتهاون تجاه من يخطئ بحقِّ غيره، بل لقد شرع قوانين مشدَّدة رادعة بحق المخالفين من أجل بثِّ الطمأنينة داخل المجتمع الإنساني؛ فلا سرقة ولا خمرة، ولا زنا ولا ربا، ولا اعتداء بالقتل ولا بغيره. وكذلك حمى المحصنات من القذف، والأعراض من الهتك، ومنع شهادة الزور، وحذَّر من التلاعب بأرزاق العباد، أو احتكارها، أو الغشِّ فيها، وحثَّ على رعاية الفقير وعيادة المريض، ومساعدة الغريب وابن السبيل. ولكنْ هل استجاب الناس جميعاً لتعاليم الله؟. إن ما يرتكبه الناس من كفر بأنعم الله، ومن شرٍّ وفساد في الأرض، لهو نتيجة انحرافهم عن تعاليمه عزَّ وجل، ولو عجَّل بمؤاخذتهم لأهلكهم جميعاً.

    ولكنَّ الله تعالى لا يؤاخذ المقصِّرين إلا بعد أن يعطيهم فسحة من الوقت، فإذا قصَّروا في أمورهم التعبديَّة، أو بحقِّ أنفسهم، أو بحقِّ غيرهم، منحهم مهلة عساهم يعودون إلى جادَّة الصواب، ويعوِّضون ما فاتهم ويصلحون ما أفسدوا؛ فإن أصرُّوا على الذنوب واستكبروا أوقع بهم عقابه في الزمان والمكان اللَّذَيْن يختارهما.

    والتأخير يكون على أنواع: فقد يؤخِّرهم أفراداً إلى أجلهم الفردي كلٌّ بحسب تماديه وفحشه، وقد يؤخِّرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدَّرة لهم، إلى أن يسلِّموها إلى جيل آخر، وقد يؤخِّرهم جنساً إلى أجلهم المحدَّد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى، ويفسح لهم الفرصة علَّهم يحسنون صنعاً، فإذا حلَّ ذلك الأجل فإن الله يجازي المكلَّفين بما عملوا من خير أو شر، لا يخفى عليه من أمرهم شيء، دقَّ أو جلَّ، ظهر أو استتر.

    وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنه ما من إنسان إلا ويصدر منه ما يستوجب المؤاخذة، ولكنَّ الله تعالى بفضله ورحمته يمهل ثمَّ يؤاخذ من كان مصرّاً على عناده وتقصيره، ويعفو عمَّن تاب وأناب، تأكيداً لحلمه وسعة صبره، فإن رحمته قد سبقت غضبه، وهو يمهل العبد لكنَّه لا يهمله؛ بل يأخذه بالعذاب في أجله المحدَّد، فلكل أمَّة أجل ولكل أجل كتاب.

    سورة الأنعام(6)

    قال الله تعالى: {قُلْ هوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عليكُمْ عذاباً من فَوْقِكُمْ أو من تحتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيْقَ بعضَكُمْ بأسَ بعضٍ انظرْ كيف نُصرِّفُ الآياتِ لعلَّهم يفقهون(65)}

    ومضات:

    ـ بعد أن يتأكَّد الإنسان من عظمة الخالق عزَّ وجل وقدرته، عليه أن يستوعب التعاليم الإلهيَّة الَّتي يجب أن يلتزم بها، والَّتي وضعها الله تعالى لمصلحة الإنسان وسعادته، وأيُّ تقصير في تنفيذ هذه التعاليم يؤدِّي إلى خلل في المجتمع الإنساني، فإذا كثر التمادي والتخريب كان لابدَّ من العقوبات الإلهيَّة لإصلاح هذا الخلل.

    في رحاب الآيات:

    بيَّن الله سبحانه وتعالى خطَّ المسيرة لآدم وذرِّيته، منذ أَمَرَهُ بالهبوط إلى الأرض، وهو أن يتَّبعوا منهج الله فقال: {قُلنَا اهبِطُوا منها جميعاً فإمَّا يأتِيَنَّكُمْ منِّي هُدىً فمن تَبِعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهِمْ ولا همْ يحزنون} (2 البقرة آية 38) إذن في حال الالتزام أمنٌ وسرور، وفي حال المخالفة خوفٌ وحزن.

    وأوَّل نموذج للمخالفة هو مخالفة آدم عليه السَّلام، حين أكل هو وزوجه من الشجرة فبدت لهما سوآتهما، (والسوأة هي العورة، والعورة هي ما لا يحبُّ الإنسان المؤمن كشفه على الآخرين إمَّا لأنه مخجل أو لأنه مخزي)، وأيُّ عورة في المجتمع إذا بحثتَ عن أسبابها، وجدتَ أنها حدثت بسبب مخالفة مبدأ من مبادئ الله في الأرض. والله ليس بعاجز عن تأديب المخالفين والمقصِّرين، المتهاونين بشريعته، والأمثلة في تاريخ الإنسانية كثيرة، وقد أورد القرآن الكريم جانباً منها، فمن هؤلاء من انصبَّ عليهم العذاب من فوقهم، كالرجم بالحجارة والطوفان، والصيحة، والريح، كما فُعل بعاد وثمود وأقوام شعيب ولوط ونوح عليهم السَّلام. ومنهم من فاجأهم العذاب من تحت أرجلهم، كالخسف والزلزال، والرجفة، والبركان، كما فُعل بقارون، وأصحاب مَدْيَن.

    ومنهم من يُسلِّط الله عليه عذاباً أشدَّ وأقسى هو العذاب النفسي، حيث يعيش الإنسان المخالف في دوَّامة، يفترسه الألم، وينهشه الحزن، ولا يعرف سبيلاً للخلاص. وقد يُسلِّط الله بعض المنحرفين على بعض، فكم من ظالم يتمادى في ظلمه، أو طاغية يستبدُّ بطغيانه، ويستمتع بخيرات الآخرين مستعيناً بالحديد والنار لِكَمِّ أفواه المعارضين، وكم من دول تسلَّطت على أخرى ونهبت ثرواتها وتركتها تعاني شظف العيش والحرمان. وقد يجعل الله المنحرفين فِرَقاً متناحرة، متحاربة، أهواؤهم شتَّى، ومذاهبهم مختلفة وغير ذلك.

    وتصوير الآية للعذاب بأنه يأتيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيه من الرعب والإثارة ما فيه، فهو عذاب عامٌّ، شامل، غامر، يحيق بصاحبه، ولا يدع له مجالاً للحركة أو الهرب، ولو كان العذاب يأتيهم فقط عن يمين أو عن شمال لكان وقعه أخف، إذ بوسع المخالف أن يجد ملاذاً في الأرض يحميه، أو ركناً من أركانها يؤويه، ولكنَّه عذاب يُصبُّ عليه صبّاً، أو ينبع من تحت قدميه نبعاً، فلا يدع له مجالاً لأيَّة حركة.

    فيا أيُّها الإنسان! تأمَّل بعين بصيرتك كيف تَرِدُ الآيات والدلائل بطرق مختلفة، منها عن طريق العقل، ومنها عن طريق علم الغيب، لعلَّك تفقه الحقَّ، وتدرك الحقائق بأسبابها وعللها والَّتي تفضي إلى الاعتبار والعمل بما يرضي الله.

    سورة النساء(4)

    قال الله تعالى: {ما يفعَلُ الله بِعَذابِكُمْ إن شَكرتُمْ وآمنتُمْ وكان الله شاكِراً عليماً(147)}

    ومضات:

    ـ قد يكون مفهوم العذاب بالنسبة لبعض المنحرفين يحمل معنى اللذَّة بتعذيب الآخرين إرضاءً لشهوة الانتقام، أو بسبب عقدة نفسية متأصِّلة في نفوسهم المريضة. أمَّا مفهوم التعذيب عند الله عزَّ وجل فهو غير ذلك تماماً، فحاشا لله سبحانه وتعالى أن يعذِّب الخلائق سروراً ومتعة بعذابهم، لأن عقابه للمذنبين في كثير من الأحوال رحمة بهم، ومعالجة روحية تخلِّص نفوسهم ممَّا علق بها من أدران الذنوب، وتوصلها في النهاية إلى الشفاء والراحة.

    ـ يعتقد بعض الخلق خطأً أن تعذيب النفس وإرهاقها هو أحد الأبواب المقرِّبة إلى الله عزَّ وجل، إلا أن هذا مرفوض في شرائع الله تعالى، لأنها مبنية أساساً على موازين ثابتة من الحبِّ والعقلانية.

    في رحاب الآيات:

    خلق الله الإنسان ووهبه السمع والبصر، والعقل والقلب، ليستمتع بما في الوجود، وليشكر المنعم على نعمائه. ولكن الإنسان قد يضيع في زحمة الحياة، ويغرق في النعيم المادي، وينسى النعيم الروحي الَّذي لا يتحقَّق إلا بالاتصال بربِّه، وشكره والعمل على مرضاته. وقد يؤدِّي به هذا النسيان للتردِّي في حمأة الرذيلة فيكفر بنعم الله، ويسيء إلى مخلوقاته. من هنا رتَّب الله تعالى عقوبات رادعة لأمثال هؤلاء العصاة، بهدف إحقاق الحقِّ، وإقامة ميزان العدل في الأرض لا رغبةً في الانتقام، أو أخذاً بثأر، أو تشفِّياً، أو سعياً لمغنم أو دفعاً لمغرم، تنزَّه الله وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. وإنما هو العقاب الزاجر والرادع عن المعاصي وأكل الحقوق، فلو أن الحياة كانت تجري بالإنسان من غير هذا الرادع، المتمثِّل بالعقاب الدنيوي أو الأخروي، أو كليهما معاً، لرأينا المجتمع الإنساني أشبه بالغابة، يأكل كبيرُ وحوشها صغيرَها، ويهتك قويُّها حرمة ضعيفها. فكان لابدَّ من وجود العقاب على الإساءة والجحود، مقابل الثواب على الإحسان والشكر.

    فليس سواءً مَنْ شَكَرَ نِعَمَ الله ووظَّف حواسَّه وقدراته في سبيل عبادته وخدمة مخلوقاته، ومن كفر بها وجحد وعطَّل هذه النعم وأساء استعمالها. فالشكر هو إدراك قيمة هذه النعم واستثمارها مع التعبير عن الامتنان لذلك، والكفر هو الجهل بها وتبديدها وإظهار الجحود والنكران لها، وقد ربطت الآية الكريمة الشكر مع الإيمان لأنه قرينه الملازم له، فالمؤمن يشكر الله على نعمه ويشكر العباد على إحسانهم إليه، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» (رواه أبو داود والترمذي)، والكافر يجحد نعم الله تعالى وإحسان الناس إليه.

    ولا يقتصر واجب الشكر على الضعيف دون القوي، أو الفقير دون الغني، بل الناس كلهم في ذلك سواء، لأن الله تعالى هو القويُّ العزيز، مالك الملك، الغني عن عباده يشكر لهم إيمانهم وإخلاصهم وحسن عبادتهم، فكيف بالخلائق الضُّعفاء المغمورين بنعم الله؟.

     
  2. #7
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام

    الفصل السادس:

    الدعاء والاستجابة

    سورة البقرة(2)

    قال الله تعالى: {وإذا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أُجِيبُ دعوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ فلْيستجيبوا لي ولْيُؤمِنُوا بي لَعلَّهُم يَرشُدونَ(186)}

    ومضات:

    ـ يزيل الله تعالى بهذه الآية كلَّ الحواجز النفسية والمادية والبشرية، الَّتي يتوهَّم المرء وجودها بينه وبين الله، ويحثُّه بذلك على التجرُّد من كلِّ شيء، والتوجُّه إليه بقلب نقيٍّ صافٍ، واثق من حسن إجابته عزَّ وجل.

    ـ في الآية إرشاد إلى المداومة على الدعاء والاجتهاد فيه؛ لاستمرار القرب من الله، والصلة معه.

    في رحاب الآيات:

    الدعاء الحارُّ النابع من الأعماق، يغسل القلب ويطهِّر النفس من الأدران، وهو ملجأ المحبِّ العاشق، والمحتاج الملهوف، والسعيد الظافر، والحزين السقيم، والمتألِّم المتأوِّه. فهو مخرج من كلِّ ضيق، وتعبير عن كلِّ نشوة، ولهذا فإن الله جلَّ وعلا يحبُّ اللحُوحَ في الدعاء، الَّذي يضرع إليه في سائر الأوقات والظروف.

    والإنسان في حاجة دائمة إلى مَدَدٍ علوي، وعَونٍ إلهي في كلِّ أموره، لذلك فهو بالفطرة يبسط كفَّيه بالدُّعاء كلَّما داهمه خطب، أو ألمَّت به نازلة وضاقت به السبل، طالباً المعونة والفرج من خالقه، مستزيداً من فضله. والله تعالى يُطمئن عباده بأنه قريب منهم، بل أقرب إليهم من حبل الوريد، فليتوجَّهوا إليه بقلوبهم وجوارحهم، فهو معهم يسمعهم ويستجيب لهم، وليس بينه وبينهم واسطة أو حجاب، فليدعوه وليرجوه بما شاؤوا. فالدعاء مخُّ العبادة، لما له من دور هامٍّ في تمتين الصلة مع الله عزَّ وجل، وإبقائها حيَّة نابضة، وقد حثَّ عليه الرسول الكريم في أحاديث كثيرة منها قوله: «إن الله تعالى حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صفراً خائبتين» (رواه أحمد وأبو داود عن سلمان رضي الله عنه ). وقوله صلى الله عليه وسلم : «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدِّين، ونور السموات والأرض» (رواه أبو يعلى والحاكم عن الإمام علي رضي الله عنه ).

    وفي لحظات الدعاء الحقيقي يصل المؤمن إلى ذروة الصفاء مع الله عزَّ وجل، فتنحلُّ القيود وتنزاح الحجب بين المخلوق والخالق، ويهيم القلب المشرق بنور الله بين التذلُّل والتدلُّل، خاشعاً منيباً، طامعاً بفضل الله، راغباً في طلب المزيد، متوجِّهاً إلى ربٍّ جليلٍ كريم؛ حيث يقول سبحانه: {قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربِّي لولا دُعاؤكُم..} (25 الفرقان آية 77).

    وللدعاء آداب يجب توفُّرها عند الشروع به ومنها:

    1 ـ تحميد الله والثناء عليه ثمَّ الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه وليُصلِّ على النبي ثمَّ ليدعُ بما شاء» (رواه أبو داود والترمذي وابن حِبَّان عن فُضالة بن عبيد رضي الله عنه ). ومن أجمل كلمات الثناء؛ ثناء رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام على الله عزَّ وجل عندما استسقى لقومه فقال لهم: «إنكم شكوتم جَدْبَ دياركم واستئخار المطر عن إبَّان زمنه عنكم، وقد أمركم الله بالدعاء ووعدكم أن يستجيب لكم، ثمَّ دعا قائلاً: الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهمَّ أنت الله، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنْزِلْ علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوَّة وبلاغاً إلى حين» (رواه أبو داود والحاكم).

    2 ـ مدُّ اليدين ورفعهما إلى السماء والسؤال ببطون الأكُفِّ لا بظهورها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «سلوا الله ببطون أكفِّكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» (رواه أبو داود والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه ).

    3 ـ الدعاء بالخير، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا تدْعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» (رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها).

    4 ـ التأمين: أي أن نقول آمين يارب العالمين في ختام الدعاء؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إذا دعا أحدكم فليؤمِّن على دعاء نفسه» (رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

    ويستجاب الدعاء في مواطن كثيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أبواب السماء تُفتَّح، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصَّلاة، وعند رؤية الكعبة» (رواه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه ). ويُستحبُّ الدعاء في جوف الليل قال صلى الله عليه وسلم : «أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الأخير فإن استطعت أن تكون ممَّن يذكر الله في تلك الساعة فكن» (رواه الترمذي والنَّسَائي والحاكم عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه ).

    أمَّا الَّذين لا تُرَدُّ دعوتهم فمنهم ثلاثة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتَّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتُفتَّح لها أبواب السماء ويقول الربُّ تبارك وتعالى: وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وكذلك دعوة الأخ لأخيه في غيابه مستجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعاء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكَّل به كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملك آمين ولك مثل ذلك» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ) ، وكذلك دعوة المريض والمبتلى مستجابة ، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :«إذا دخلت على مريضِ فَمُرْهُ يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة» (أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه )، وذلك لأن المريض المبتلى يرقُّ قلبه، فيلتجئ إلى الله بصدق وانكسار .

    أمَّا شروط استجابة الدعاء فهي:

    1 ـ اليقين بالإجابة مع حضور القلب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاهٍ» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

    2 ـ عدم الدعاء بـإثم أو قطيعة رحم وعدم الاستعجال على الله في الإجابة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما من رجل يدعو بدعاء إلا استُجيب له، فإمَّا أن يُعجَّل له في الدنيا، وإمَّا أن يؤخَّر له في الآخرة، وإمَّا أن يُكفَّر عنه ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل فيقول: دعوتُ ربِّي فما استجاب لي» (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ). وقال صلى الله عليه وسلم : «يُستجاب لأحدكم ما لم يَعجل، يقول دعوت فلم يُستجب لي» (رواه الشيخان).

    3 ـ توخِّي الحلال في المأكل والمشرب والملبس، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمُدُّ يديه إلى السماء، يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام وغُذيَ بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك؟» (رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

    4 ـ الإكثار من الدعاء حين الرَّخاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن سَرَّهُ أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاء في الرخاء» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

    أمَّا استجابة الدعاء؛ فقد تكون معجَّلة في الدنيا، أو مؤخَّرة إلى الآخرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتَّى يوقفه بين يديه فيقول: عبدي! إني أمرتك أن تدعوني، ووعدتك أن أستجيبَ لك، أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغمٍّ نزل بك أن أفرِّج عنك ففرَّجتُ عنك؟ فيقول: نعم يارب، فيقول: إني عجَّلتُها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغمٍّ نزل بك أن أُفَرِّج عنك فلم تَر فرجاً؟ قال: نعم يارب، فيقول: إني ادَّخرتُ لك بها في الجنَّة كذا وكذا، فلا يَدَعُ الله دعوةً دعا بها عبده المؤمن إلا بيَّن له، إمَّا أن يكون عجَّل له في الدنيا، وإمَّا أن يكون ادَّخر له في الآخرة، قال: فيقول المؤمن في ذلك المقام: ليته لم يكن عجَّلَ له شيئاً من دعائه» (رواه الحاكم عن جابر رضي الله عنه ).

    ويخاطب الله تعالى النفوس المؤمنة، ويهزُّها من الأعماق هزّاً خفيفاً رفيقاً، فربَّما نسـيت ـ وهي في غمرة الحياة ومشـاغلها ـ واجبـاتهـا نحو خالـقها، أو قصَّرت فيهـا فيذكِّرها بقوله: إذا كنت أنا ربُّكم الغني عنكم أستجيب دعاءكم، أفلا تستجيبون أنتم لدعوتي فتؤمنون بي، وتمتثلون لأوامري وأنتم مفتقرون إليَّ، وفي استجابتكم لندائي حياتكم ونجاتكم؟ إنها دعوة رائعة تسكب في قلب المؤمن وُدّاً وأُنْساً ورضاً، ويعيش معها في ملاذٍ أمين وقرار مكين في حمى ربٍ قريب مجيب.

    سورة الأعراف(7)

    قال الله تعالى: {ادعوا ربَّكُمْ تضرُّعاً وخُفْيَةً إنَّه لا يُحبُّ المعتدين(55) ولا تُفسدوا في الأرضِ بعد إصلاحِهَا وادعُوهُ خوفاً وطمعاً إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين(56)}

    ومضات:

    ـ الدعاء هو طلب المخلوق من الخالق تحقيق بعض غاياته أو قضاء حوائجه، ولا يمكن أن يثمر دعاء من أجل إصلاح ما فسد، أو إعادة بناء ما تهدَّم، ما لم يقترن بالعمل الجادِّ لتحقيق هذه الأهداف؛ ولا يقبل الله تعالى دعاء من يترجَّى الله بلسانه من أجل الإعمار، بينما تحمل يده معول التخريب وتُعْمِل الهدم والفساد في الأرض.

    ـ الدعاء اللحوح، المتفجِّر في خفية عن الأعين والأسـماع ـ سوى عين الله وسمعه ـ والممزوجُ بدموع القلوب المحترقة بحبِّ الله، المعترفة بفضله وقوَّته؛ هو الطريق لإعمار النفوس بالإيمان، والمجتمع بالخير والسَّلام.

    في رحاب الآيات:

    الدعاء مناجاة حميمة بين المخلوق والخالق، ووسيلة اتصال مباشرة بحضرة الله. إنه مكالمة سرِّية بين العبد الفقير المحتاج والربِّ الغني المعطاء، تنقلها أسلاك خفيَّة تصل ما بين قلب العبد والذَّات الإلهية، وما أكثر ما يحتاج العبد، وما أكثر ما يستجيب الله!. وإن أبلغ الدعاء ما كان في خفية وتضرُّع، لأنه أَلْيَق بجلال الله وعظمته، إذ هو دليل على عمق الإيمان وعلى الثقة المطلقة بقرب الله وسعة رحمته. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّها الناس ارْبَعُوا (أي ارفقوا وهوِّنوا) على أنفسكم، إنكم لستم تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم» (رواه مسلم) وقال أحد الصالحين: [إن الله إنما يُتَقرَّب إليه بطاعته فما كان من دعائكم الله، فليكن في سكينة ووقار، وحسنِ سَمْتٍ وزيٍّ وهدي وحسن دعة]. والدعاء الخفي إن لم يكن واجباً فهو مندوب ويدلُّ على ذلك وجوه:

    1 ـ إن الله تعالى أثنى على نبيِّهِ زكريا فقال: {ذِكْرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريَّا * إذ نادى ربَّه نداءً خفيّاً} (19 مريم آية 2ـ3).

    2 ـ قال الرسولصلى الله عليه وسلم : «دعوة في السرِّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» (رواه الحسن البصري) وأضاف: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربِّهم، وذلك أن الله يقول: {ادعوا ربَّكُمْ تضرُّعاً وخُفْيَة}.

    3 ـ إن النفس شديدة الرغبة في الرِّياء والسمعة، فكان الأَولى في الدعاء الإخفاء ليبقى مصوناً عن الرِّياء.

    وعلى المؤمن أن يتوخَّى في الدعاء عدم الاعتداء، وذلك بطلب غير المشروع، كضرر العباد، أو طلب الغنى بلا كسب؛ كأن يكتفي الإنسان بالكلمات دون العمل وتعاطي الأسباب، فما كان الله ليرزق عبداً يجلس في أعالي الجبال يطلب القوت والمأوى، فالله يحب المتوكِّلين ولا يحب المتواكلين. وطلب المغفرة مع الإصرار على الذَّنب، صورة من صور الاعتداء، فلابدَّ من توبة وإنابة لكي يُقبَل الدعاء، ومنها كذلك التوجُّه بالدعاء لغير الله.

    كما أن على المؤمن أن يدرك أن دفقة الحياة في الدعاء، هي الخوف والطمع والرجاء: الخوف من عقاب الله، والطمع والرجاء في مغفرته ورضوانه، حتَّى يكون الرجاء والخوف ملازمين له كجناحي الطائر، يحملانه في طريق استقامته، فإذا اكتفى بأحدهما هلك. والترغيب بالرجاء يقترن مع الدعوة إلى خشية الله، واتِّقاء عذابه في جميع آيات القرآن الكريم، قال تعالى: {نَبِّئ عبادي أَنِّي أنا الغفور الرَّحيم * وأَنَّ عَذابِي هوَ العذابُ الأليم} (15 الحجر آية 49ـ50).

    فمن صحَّة الدعاء أن تذوب على أعتاب الله بقلب يحترق حبّاً وخوفاً، ودموع سخيَّة مدرارة تغسل الذُّنوب، وتبدي الندم على ما فرَّطت من حقوق الله، وأنت بين رجاء وأمل لا تقنط من رحمة الله ولا تيأس، موكلاً الأمر كله إلى ربِّ العالمين، وموقناً بالإجابة. جاء في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فإن ظنَّ بي خيراً فله، وإن ظنَّ شراً فله» (رواه الإمام أحمد وابن حِبَّان في صحيحه والبيهقي)، ثمَّ تترك تقدير الأمور لحضرة الله، فلا تستبطئ الإجابة من الله تعالى، فهو أدرى بما يناسبك، وهو يرى ما لا ترى.

    فالدعاء هو توثيق الصلة بين المؤمن وخالقه، وتمتين للعلاقة الفريدة بين الإنسان وربِّه، وهو حالة من حالات الوجد ولون من ألوان الوصال، تصلح به تربة القلب فلا ينبت فيها إلا صالحاً، فإذا صلحت تربة القلوب صلحت أرض المجتمع، وتلاشت عناصر الفساد، وانهارت قوى الإفساد. ورحمة الله ليست محجوبة عن أحد من خلقه شريطة أن ينفِّذ تعاليم الله، وأن يحسن إلى نفسه فيجنِّبها مواطن الزلل، وأن يحسن إلى مخلوقات الله بالحبِّ والوُدِّ والعطاء.

    سورة غافر(40)

    قال الله تعالى: {وقالَ ربُّكُمُ ادعوني أستجِبْ لكمْ إنَّ الَّذين يستكبِرُون عن عبادَتِي سيَدْخُلُون جهنَّمَ داخِرِين(60)}



    ومضات:

    ـ يحلو الدعاء في لحظات التجلِّي، حين يُغْمَرُ القلب بنور الخالق عزَّ وجل، ويتفجَّر بالمحبَّة والعشق، وتتولَّد فيه الرغبة للُّجوء إلى المبدع العظيم، فيضع المؤمن أمانيه ورغباته وأحلامه بين يدي ربٍّ كريم عطوف رحيم.

    ـ ندب الله تعالى عباده إلى دعائه وتكفَّل لهم بالإجابة فضلاً منه وكرماً، ومَنْ أعرض عن دعاء ربِّه فهو مستكبر متعال، مآله إلى جهنَّم صاغراً ذليلاً فيها.

    في رحاب الآيات:

    تزداد إيجابية القرآن الكريم وضوحاً كلَّما تكررت الآيات الكريمة؛ الَّتي تشجع الإنسان وتحثُّه على التوجُّه المستمر إلى الله عزَّ وجل بالدعاء طلباً لقضاء حاجاته، مهما عظُم شأنها أو صغر. وقد حثَّ الله تعالى عباده على الدعاء، ووعدهم بالإجابة فضلاً منه وكرماً. روى النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة، ثمَّ قرأ: {وقال ربُّكُم ادعُوني أستجبْ لكم...}» (رواه مسلم والطبراني وأحمد والبخاري وقال الترمذي حسن صحيح)، وقال أنس رضي الله عنه : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لِيَسْأَلْ أحدُكُمْ ربَّه حاجته كلَّها» (أخرجه الترمذي وابن حبان)، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفع حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، ولكنَّ الدعاء ينفع مـمَّا نزل ومـمَّا لم ينزل، فعليكم بالدعاء» (أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الدعاء مخُّ العبادة» (رواه الترمذي)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ الملحِّين في الدعاء» (رواه الطبراني وأبو الشيخ القضاعي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً). وأخرج ابن المنذر عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال ربُّكم: عبدي إنك ما دعوتني ورجوتني فإني سأغفر لك على ما كان فيك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة، ولو أخطأت حتَّى تبلغ خطاياك عنان السماء ثمَّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي». وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أفضل العبادة الدعاء) ثمَّ قرأ هذه الآية.

    والتوجُّه للدعاء توفيق من الله، كان عمر رضي الله عنه يقول: (أنا إن مُنعتُ الدعاء أشدُّ عليَّ إن مُنعتُ الإجابة، فإذا أُلْهِمْتُ الدعاء كانت الاستجابة معه). ولكنَّ بعض الناس يعتدُّون بأنفسهم، ممَّا يصرفهم عن اللجوء إلى الله بالدعاء، فيتوهمون أنهم ليسوا في حاجة إلى أية مساعدة إلهيَّة، وأنهم بقوَّتهم وإمكاناتهم يستطيعون تحقيق ما يشاؤون، فَيَحْرِمُونَ بذلك أنفسهم من فيض الله الواسع، ويجعلون بينهم وبينه حجاباً، ولذلك فقد حقَّ عليهم مقت الله والذُّلُّ والهوان سواء في الدنيا أم في الآخرة، أو فيهما معاً، ذلك أنهم نسوا أن ما بأيديهم من قوَّة ومال وصحَّة وعقل، إنما هي في الأصل عطاءات من حضرة الله تفضَّل بها عليهم، فاستعلَوْا استكباراً، ونسُوا أن الله جلَّ وعلا يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الظالم لا يفلته.

    سورة النمل(27)

    قال الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دعاهُ ويكْشِفُ السُّوءَ ويجعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكَّرون(62)}

    ومضات:

    ـ يقع بعض الناس في الشِّرْكِ الخفي بتوجُّههم الكُلِّي إلى أصحاب النفوذ والجاه والسلطة، ليقضوا لهم حوائجهم، فيكيلون لهم المديح والثَّناء ويكثرون لهم العطاء، متناسين قدرة الله عزَّ وجل على قضاء حوائج الناس وإجابة دعائهم، وأنَّ تصريف الأمور كلِّها بيده وحده جلَّت عظمته.

    ـ إن الله سبحانه وتعالى لا يقضي حوائج الإنسان الآنيَّة فقط، بل يدعم وجوده الإنساني بالإمكانات ليصبح أهلاً لقيادة الأمور وتذليل الصعاب.

    في رحاب الآيات:

    ما أحلى أن يجد الإنسان من يقف بجانبه في الشدائد والأزمات! ومَن أجلُّ وأعظمُ من ربِّ العالمين يغيث عباده عند اضطراب أمورهم، وانقطاع حبل آمالهم؟ وما أكرمها من ساعة نفقد فيها أسباب النجاة، فيتكرَّم علينا مسبِّب الأسباب بالمساعدة والإنقاذ!. ولكن هذه النعم لن تتوافر لعبدٍ، ما لم يلجأ بقلب صادق التوجُّه إلى حضرة الله؛ ولن تتحقَّق لعبد، ما لم يُهْرَع بلهفة إلى خالقه ومولاه يطلب العون والمدد؛ عندها، وبصدق الدعاء والتضرُّع، تحفُّه العناية الإلهية لتقلب عسره يسراً، متخطِّية جميع الموازين البشرية. بينما نجد الناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، فيلتمسون القوَّة والنصرة والحماية في قوَّة من قوى الأرض الضعيفة الهزيلة. أمَّا حين تلجئهم الشدَّة، ويضطرهم الكرب، تزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربِّهم منيبين مهما كانوا من قبلُ غافلين أو مكابرين، أخرج الإمام أحمد عن رجل من أهل البادية قال: «قلت يارسول الله إلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده الَّذي إن نزل بك ضُرٌّ فدعوته كشف عنك، والَّذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رَدَّ عليك، والَّذي إن أصابك سَنة فدعوته أنزل لك».

    والقرآن يُوقظ مشاعر بني آدم بما هو واقع في حياتهم {ويجعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ}، فمن الَّذي يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الَّذي استخلف جنسهم في الأرض أوَّلاً، ثمَّ جعلهم قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل يخلف بعضهم بعضاً في مملكة الأرض؟ أليس هو الله الَّذي فطرهم وفق النواميس الَّتي وضعها لإيجادهم في هذه الأرض، وزوَّدهم بالطاقات والاستعدادات الَّتي تسمح لهم بالخلافة فيها، وتعينهم على أداء هذه المهمَّة الضخمة؟ أليس هو الله الَّذي وضع النواميس الَّتي تجعل الأرض قراراً، وتنظِّم الكون بتناسق بحيث تتهيَّأ للأرض تلك الظروف المُساعِدة للحياة، فلو اختلَّ شرط واحد من هذه الشروط الكثيرة، المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه، لأصبحت الحياة على هذه الأرض مستحيلة. وأخيراً، أليس الله هو الَّذي قدَّر الموت والحياة؟ فلو عاش الأوَّلون لضاقت الأرض بهم وبمن جاء بعدهم، ولغدا سير الحياة والحضارة بطيئاً؛ لأن تجدُّد الأجيال هو الَّذي يسمح بتجدُّد الأفكار وبتجدُّد أنماط الحياة دون تصادمٍ، بين القدامى والمحدثين، إلا في عالم الفكر والشعور، ولو بقي القدامى أحياءً، عَظُم التصادم والتناقض، وتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام. فعلينا جميعاً بعون الله تعالى أن ننفِّذ القوانين الإلهية بما يتناسب وكمال هذه القوانين لنصبح أمناء الله في أرضه.

    فَمَنِ الَّذي حقَّق وجود هذه الحقائق وأنشأها؟ إنَّه الله لا إله إلا هو، ولكنَّ بعض الناس يغفلون عن هذه الحقائق، وهي كامنة في أعماق نفوسهم، مشهودة في واقع حياتهم، ولكن: {قليلاً ما تذكَّرون} ولو تذكَّرها الإنسان وعقلها، لبقي موصولاً بالله صلة الفطرة الأولى، فلا يغفل عنه ولا يشرك بعبادته أحداً.

    سورة الإسراء(17)

    قال الله تعالى: {ويَدْعُ الإنسانُ بالشَّرِّ دُعاءَهُ بالخيرِ وكان الإنسانُ عَجُولاً(11)}

    ومضات:

    ـ الإنسان الحكيم لا يطلب من الله تعالى لنفسه أو لغيره إلا الخير، ولا يستسلم لثورات الغضب أو نوبات اليأس، فيتمنى الهلاك والسوء لنفسه أو لعياله، بل يتحلَّى بالصبر والجَلد، ولا يتخلَّى عن ثقته بالله تعالى الَّذي بيده الخير كله.

    ـ قد يطلب الإنسان من الله عزَّ وجل أمراً يعتقد فيه خيره فلا يستجاب له، فإن صبر ورضي فسرعان ما يتبيَّن له خطؤُه، وأن الخير يكمن فيما اختاره الله تعالى له، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «لو اطَّلعتم على ما في الغيب لرضيتم بالواقع» (متفق عليه).

    في رحاب الآيات:

    قال الله تعالى: {خُلِقَ الإنسانُ من عَجَلٍ..} (21 الأنبياء آية 37) فالعجلة في طبع الإنسان وتكوينه، فهو يمدُّ بصره إلى ما وراء اللحظة الحاضرة، يريد أن يتحقَّق له كلُّ ما يخطر بباله، وكلُّ ما تصبو إليه نفسه، وقد يكون في ذلك ضرره، أو حتَّى هلاكه. إلا أن من امتلأ قلبه بحبِّ الله فإنه يثبت عند الشدائد، ويصبر، وَيَكِل الأمر لله فلا يتعجَّل قضاءه. ذلك أنَّ الإيمان ثقة وصبر واطمئنان، فالمؤمن يتعاطى الأسباب بالشكل الصحيح المدروس، ويخطِّط لكلِّ عمل يقوم به، ويعطي كلَّ مرحلة من مراحل التنفيذ حقَّها من الجهد والعمل والتطبيق؛ فيعمل بوعي وهدوء وإتقان، وبإمكانات عقلية متفتِّحة، وبذلك تصبح إمكانية الوقوع في الخطأ أقل، وهذا من شأنه أن ينظِّم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. فالمجتمع المبني على النظام يَحدُّ من تجاوز بعض أفراده لرقاب بعض، واتِّخاذهم مطيَّة للوصول إلى أهدافهم، فالتأنِّي والهدوء يجعلان العقل هو القائد وهو الرائد، والعجلة تجعل الهوى والشهوة هما المسيطران وهما الدافعان، ومتى كان الهوى يقود إلى الصواب؟ ومتى كانت الشهوة تنظر بعين الحق؟.

    وقد نهى الله جلَّ وعلا الإنسان عن العجلة الَّتي جُبِلَ عليها تكوينه، لأن له من الإرادة وحريَّة الاختيار، ما يجعله قادراً على امتلاك جماح نفسه، والنأي بها عن طريق الخطر. وهذا ليس من قبيل تكليفه بما لا يُطاق، بل إنه امتحان واختبار لإرادته، ولتمييز من امتثل أوامر ربِّه ممَّن ضرب بها عرض الحائط فخسر وندم، لذلك قيل: [إياكم والعجلة فإن العرب تكنِّيها أمَّ الندامات]، وقال آدم عليه السَّلام لأولاده: (كُلُّ عملٍ تريدون أن تعملوه فقفوا له ساعة، فإني لو وقفتُ ساعة لم يكن أصابني ما أصابني).

    ومن أنواع العجلة أن يبالغ الإنسان في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أنَّ فيه خيره، مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وإيذائه، وإنما يُقْدِم على ذلك العمل لكونه عجولاً مغترّاً بظواهر الأمور، غير متفحِّص لحقائقها وأسرارها. وقد يدعو على نفسه أو ولده عند الضجر أو اليأس بما يتمنَّى بعد خمود ثورة غضبه ألا يكون قد استجيب له، فالعاقل مَنْ يتحرَّى الهدوء وضبط الأعصاب ما أمكن، لأن في ذلك نجاحه واستقرار المجتمع الَّذي ينتمي إليه؛ وأن يسلِّم قيادته لله تعالى ويوكل أمره إليه، موقناً بأنَّه تعالى أدرى بمصلحته، وبما فيه خيره في دينه ودنياه ومعاشه وعاقبة أمره.

     
  3. #8
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام

    الفصل السابع:

    إعمار بيوت الله

    سورة النور(24)

    قال الله تعالى: {في بيوتٍ أَذِنَ الله أن تُرفعَ ويُذكَرَ فيها اسمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ(36) رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصَّلاة وإيتاء الزَّكاةِ يخافونَ يوماً تَتَقَلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار(37) ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا ويزيدَهُم من فضلهِ والله يرزقُ من يشاءُ بغير حساب(38)}

    ومضات:

    ـ بيت الله تعالى هو كلُّ مكان يجتمع فيه أصحاب القلوب المؤمنة لإقامة الصَّلاة، وذكر الله وتسبيحه، وللتعليم والتعلُّم، وتدارس كلِّ ما يفيد أمر الأمَّة، وتحسين أحوال المسلمين.

    ـ رُوَّاد هذه البيوت رجال ربانيُّون، تعمل أيديهم بالتجارة وغيرها من أسباب الرزق، بينما قلوبهم عامرة بذكر الله، وتقيم أجسادهم وأرواحهم الصَّلاة الحقيقية، فتراهم ينفقون وينيبون للواحد القهار خوفاً من يومٍ تنفطر فيه القلوب وتخشع الأبصار؛ يومٌ يجعل الولدان شيبا.

    ـ يغدق الله تعالى على المؤمنين الذاكرين أفضل الجزاء، ويزيدهم من حسن كرمه رزقاً بغير حساب.

    في رحاب الآيات:

    النور الطليق الفائض والغامر في السموات والأرض، يتجلَّى ويتألَّق في بيوت العبادة الَّتي تتفرَّغ فيها القلوب للصلة بالله، وتتطلَّع إليه وتذكره وتخشاه، وتُخلص له وتؤْثِره على كلِّ ما سواه. هذه البيوت يمكن أن تكون المساجد، أو بيوت المسلمين، أو نوادي تجمُّعهم، أو أماكن عملهم؛ فالمقصود هو أن يحوِّلوا كلَّ مكان يجتمعون فيه، إلى مركز لذكر الله وتوحيده وتسبيحه وتمجيده.

    تلك البيوت: {أَذِنَ الله أن تُرفَعَ} وإِذْنُ الله هو أمر نافذ، فهي مرفوعة قائمة، وهي مطهَّرة رفيعة، يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألِّق في السموات والأرض، وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء، وتتهيأ بالبناء لتضُمَّ مجالس العلم والذِّكر والعبادة، وتتآلف معها القلوب المؤمنة الطاهرة، المسبِّحة الواجفة، المصلِّية الواهبة، قال تعالى: {إنَّما يَعْمُرُ مساجدَ الله من آمن بالله واليومِ الآخرِ وأقام الصَّلاة وآتى الزَّكاة ولم يخشَ إلاَّ الله فعسى أُولئكَ أن يكونوا من المهتدين} (9 التوبة آية 18). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» (رواه الترمذي وابن ماجه وابن خُزَيمة وابن حِبَّان في صحيحهما والحاكم).

    ولهذه البيوت حرمات وللإقامـة فيهـا آداب، فعن الســيدة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: باسم الله، والسَّلام على رسول الله، اللهمَّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: باسم الله والصَّلاة على رسول الله، اللهمَّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك» (أخرجه الترمذي في سننه وقال حديث حسن). وروى الحكم بن عُمَيْر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كونوا في الدنيا أضيافاً، واتَّخذوا المساجد بيوتاً، وعوِّدوا قلوبكم الرِّقة، وأكثروا التفكُّر والبكاء، ولا تختلف بكم الأهواء، تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتؤمِّلون ما لا تدركون» (رواه مسلم). وكان المسجد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرحاً للنشاطات البنَّاءة كافَّة ومنها:

    ـ استقبال الوفود وإنزالهم فيه، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم استقبل في مسجده وفد نصارى نجران، كما استقبل أيضاً وفد ثقيف، وضرب لهم قبَّةً فيه.

    ـ إنزال بعض الأسرى فيه، أملاً أن تلين قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ.

    ـ اللهو المباح مثل المصارعة، ولعب الأحباش بالحراب، وإنشاد الشعر.

    ولخدمة المساجد وتطهيرها وتنظيفها وتعطيرها والقيام على شؤونها فضل كبير، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلُّون عليه، ويستغفرون له مادام ذلك الضوء فيه» (رواه الحرث بن أبي أمامة وأبو الشيخ). وقد أمر الله تعالى بتطهير هذه البيوت من النجاسات الحسيَّة والمعنوية، كاللغو وغيره، وأمر بذكره فيها، وإخلاص العبادة له. وأجمع العلماء على تعظيم المساجد ووجوب الحفاظ على حرمتها ومراعاة آداب دخولها. فمن حرمة المسجد أن يسلِّم الداخل وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري فيه ولا يبيع، ولا يَسُلَّ فيه سهماً ولا سيفاً، ولا يطلب فيه ضالَّة، ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله تعالى، ولا يتكلَّم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطَّى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيِّق على أحد في الصفِّ، ولا يمرُّ بين يدي مصلٍّ، ولا يبصق، ولا يتنخَّم، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن يُنزِّهه عن النجاسات والصبيان والمجانين وإقامة الحدود، وأن يُكثر فيه ذِكر الله تعالى ولا يغفل عنه، فإذا فعل هذه الخصال فقد أدَّى حقَّ المسجد، وكان المسجد حرزاً له، وحصناً من الشيطان الرجيم.

    والله تعالى يصف عباده المؤمنين الَّذين يعمرون المساجد، بأنهم رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها، ولا بيعهم وتجارتهم عن ذِكر ربِّهم، وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع ممَّا في أيديهم، فما عندهم ينفد وما عند الله باق. وهم يؤدُّون الصَّلاة في مواقيتها على الوجه الَّذي رسمه الدِّين، ويؤتون الزَّكاة المفروضة عليهم تطهيراً لأموالهم وأنفسهم من الأرجاس. وليس في ذلك انصراف عن الدنيا، بل إنهم يجمعون بين الدِّين والدُّنيا معاً، بشكل متوازن متساوٍ ومتكافئ، فالرجل الصالح يعمل في البيع والشراء بهمَّة ومقدرة وذكاء، ويملك الدنيا بيده دون أن يتعلَّق بها قلبه المحصَّن بذِكر الله على الدوام، فإذا أوشك القلب أن ينشغل عن الله تأتي الصَّلاة القويمة لتعيده إلى طريق الذِّكر، وتغرس في حناياه مخافة يومٍ شديد البأس، تنفطر فيه القلوب وتزيغ الأبصار، هلعاً ورهبةً من محكمة ربِّ العالمين. ورعاية المسلم لأقربائه وأقرانه، وسائر أفراد مجتمعه، وخاصَّة الفقراء والمحتاجين منهم؛ يخفِّف عنه بأس هذا اليوم.

    ويبيِّن الله تعالى في هذه الآية للمؤمنين، مآل أمرهم وحسن عاقبتهم، فيقول: {ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا} أي على ما يقدِّمون من قربات محفوفة بالخوف من عذاب الله يوم القيامة، والرجاء في تقبُّل تلك القربات، كالتسبيح والذِّكر وإيتاء الزكاة، إلا أن الله لا يضيع أجر المحسنين، فيثيبهم على ما فعلوا من حسنات، وأعمال صالحة. وقد بيَّن الله حالهم تلك في قوله: {إنَّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قَمْطَريراً * فَوَقَاهُمُ الله شرَّ ذلك اليومِ ولقَّاهُمْ نَضْرَةً وسروراً * وجزاهُمْ بما صبروا جَنَّةً وحريراً} (76 الإنسان آية 10ـ12). وفي قوله تعالى: {ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا} إيحاء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفر لهم، أي يجزيهم على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة عفواً وغفراناً، قال تعالى: {من جاءَ بالحسنةِ فله عشرُ أمثالها..} (6 الأنعام آية 160) وقال أيضاً: {للَّذين أحسنوا الحُسنى وزيادة..} (10 يونس آية 26) وقال في حديث قدسي: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ) ثمَّ نبَّه الله تعالى إلى كمال قدرته وعظيم جوده، وسعة إحسانه بقوله: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} أي يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم من الفضل الَّذي لا حدَّ له، في مقابل امتثالهم له، وخوفهم من قهره وشديد عذابه.

    سورة التوبة(9)

    قال الله تعالى: {إنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله من آمَنَ بالله واليَومِ الآخِرِ وأقامَ الصَّلاة وآتى الزَّكَاةَ ولم يَخشَ إلاَّ الله فَعَسَى أولَئكَ أن يَكُونُوا من المُهتَدِينَ(18)}

    سورة البقرة(2)

    وقال أيضاً: {ومن أظلَمُ ممَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ الله أن يُذكَرَ فيها اسمُهُ وسَعى في خَرابِها أولَئِكَ ما كان لَهُم أن يَدخُلُوها إلاَّ خَائِفينَ لهم في الدُّنيا خِزيٌ ولهم في الآخِرةِ عَذابٌ عَظيمٌ(114)}

    ومضات:

    ـ مساجد الله تعالى هي البقع الطاهرة من الأرض، الَّتي يتَّخذها الناس مراكز للعبادة، يتعلَّمون فيها مبادئ دينهم وتعاليمه، ويتدارسون أمور بعضهم بعضاً.

    ـ تستقيم عمارة المساجد بارتيادها من قبل المؤمنين الموحِّدين الموقنين بالآخرة، الَّذين يقيمون الصَّلاة كما يجب أن تقام، ويؤتون ما فرضه الله تعالى في أموالهم من حقوق للفقراء.

    ـ الإنسان الَّذي تمكَّن الإيمان من قلبه، مطمئن بالله لا يساوره القلق أو الخوف من غيره.

    ـ الوظيفة المنوطة بالمساجد هي ذِكر الله تعالى في رحابها، فالَّذين يمنعون النـاس من الصَّلاة أو قراءة القرآن أو الذِّكر الخاشع، قد اقترفوا إثماً لا يفوقه ظلم أو اعتداء، لأنَّهم يعتدون بذلك على حقٍّ من حقوق الله تعالى يقوم عليه بناء المجتمع وإعماره. وكان حريٌّ بهم أن يدخلوا المساجد بقلوب وَجِلة خاشعة من هيبة الله تعالى، وبما أنهم أساؤوا وأفسدوا، فإنهم يدخلونها محاطين بسوء عملهم، ولو أنهم علموا سوء عاقبتهم لاعتصر الهلع والفزع قلوبهم، فهم سيلاقون الخِزْي والعار في الدنيا، ثمَّ ينقلبون إلى عذابٍ أليم في الآخرة.

    في رحاب الآيات:

    كانت بيوت الله ـ وما تزال ـ مراكز تجمُّع للمؤمنين، وأمكنة تلتقي فيها مشاعرهم، وتتوثَّق روابط قلوبهم، وتتصعَّد فيها ميولهم وتسمو، وهي أيضاً ملتقيات لدراسة أمور المجتمع، ووضع الحلول لمشاكله الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والماديَّة، لذلك فقد حظيت بالأهميَّة البالغة لدى من أدرك قيمة رسالتها.

    والمساجد لا تُقيَّم بفخامة بنيانها، وبديع هندستها، وروعة زخرفتها، وإنفاق الأموال الطائلة على حجارةٍ مرصوفة، وزخارف منقوشة فيها، ولا قباب متعالية، ومآذن متطاولة، وطنافس مفروشة، ومصابيح مدلاَّة، بل إن عمارة المساجد تُقَيَّم بالعلماء الصادقين الَّذين يؤمُّون الناس فيها، العاملين على نشر العلم بفروعه، وعلى هداية البشر، وتذكيرهم بخالقهم وإخلاص العبادة له، وبذلك يُخَرِّجون بناة للأمَّة ودعاة للأُخوَّة والسَّلام، والمحبَّة والوئام، بين أفراد المجتمع بكلِّ طوائفه وطبقاته، ودون تمييز عنصري أو طبقي لكي تسود المحبَّة والأُلْفة والسعادة والرحمة بين الجميع، وبهذا تكون المساجد مراكز إشعاع إيماني وحضاري وفكري.

    ويعمِّر المسجد من كان يملك القدرة على تحقيق المعاني السابقة والدعوة إليها وكان قلبه عامراً بالإيمان بوحدانيَّة الله، موقناً أن الله تعالى هو المهيمن على ما في الوجود، وأنه الربُّ المعبود، ولا معبود سواه، وأن ثَمَّةَ يوماً ترجع فيه الخلائق إلى بارئها، ويُنصب ميزان العدل، وتُوزن أعمال العباد بالقسطاس المستقيم. ذلك المعمِّر هو مؤمن خاشع عاقل، متعلِّق القلب بالله، فهو إن صلَّى، فالانسجام يقود حركة جسده وتسبيح قلبه، وإن ركع فهو يركع بجسمه، وبروحه، وإن سجد فقد أيقن أنه يسجد على أعتاب الرحمن، فلا شرود ولا استغراق في وساوس النفس، وإن خرج من المسجد ليمارس حياته العمليَّة لازمته خشية الله؛ فلا ظلم ولا تظالم، بل قلب رحيم يصبو إلى إسعاد مخلوقات الله، لا يهدأ من العمل الدؤوب من أجل بناء المجتمع الفاضل، القائم على العلم والتَّراحم والتآخي. وإن تعرَّض لامتحان صمد، وله من إيمانه السند، ومن ربِّه المدد، لذلك فهو يتبع الحقَّ وهو موقن أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن سلطان الله هو الأقوى والأبقى، فهو قويٌّ بالله لا يخشى سواه. ومن توافرت فيه هذه الأخلاق ممَّن يعمرون مساجد الله فلن يضنَّ الله عليه بالهدى والرضا، وسيُدرج اسمه في قائمة الأبرار المهتدين، قال صلى الله عليه وسلم : «إن عُمَّار بيوت الله هم أهل بيوت الله» (رواه الطبراني مرفوعاً) وقال أيضاً: «من توضَّأ في بيته فأحسن الوضوء، ثمَّ أتى المسجد فهو زائر الله وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر» (رواه الطبراني).

    وفي مُقابل أعمال البناء والعطاء، هناك نشاطات الهدم والتخريب، إذ أن فريقاً من الناس قد غشيهم الظلام، فأصابهم منه ما أصابهم، جعلوا دأبهم إطفاء شعلة الإيمان، وإخماد صوت الحقِّ، فركَّزوا حملاتهم على تشويه تعاليم الشريعة السمحة بالتطرُّف والمغالاة، وإساءة استعمال بيوت الله في غير ما أقيمت له، وسعوا في تخريبها؛ خراباً معنويّاً بدسِّ الفتن بين أبنائها، وتشويه معتقداتهم، وتشكيكهم بتعاليم شريعتهم. ليس لهم غرض إلا إشباع ميولهم العدوانيَّة بدافع الحسد لأولئك المُنْضَوِين تحت ظلِّ الله، فهم كالحشـرات الضـارَّة الَّـتي لا تنسجم مع كـلِّ نظيـف وأصيـل. ولكنَّ هؤلاء المخرِّبين يعرفون ـ ضمناً ـ أنَّهم يحاربون قوَّة لا قِبَل لهم بها، هي قوَّة الله، لذلك تراهم خائفين قلقين، وهذا طبيعي، فالعين تنكسر أمام الحقِّ، والهَامَة تنحني أمام جلاله، فهم وإن لم يتراجعوا ظاهريّاً، فإنهم ممزَّقون من داخلهم، يخافون أن ينكشف عنهم الحجاب، ويتعرَّوا أمام الخلائق، وكان يجدر بهم أن يراعوا حرمات مساجد الله، فيدخلوها منكِّسي رؤوسهم، خافضي أبصارهم خجلاً من صَغارهم أمام عظمة الله، أَمَا وإنهم لم يفعلوا فإنَّ لهم في الدنيا خزياً، ولهم في الآخرة عذاباً عظيماً.

    وهذا الحديث يقودنا إلى تقليب صفحات التاريخ لنجد أن الإسلام قد حافظ على حرمات المعابد أنَّى وُجدت، وأباح لغير المسلمين حريَّة العبادة، وأوصى جنوده في الحرب ألا يعتدوا عليها، وألا يتعرَّضوا لرجال الدِّين، بل أمرهم بأن يتركوهم وما يعبدون. وتعتبر وصية الخليفة الراشدي الأوَّل أبي بكر رضي الله عنه لجنوده المتوجِّهين إلى الشام لدعوة الرومان إلى الإسلام، وثيقة هامَّة في هذا المجال، حيث يقول: (وإنكم ستمرُّون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له، سيروا على بركة الله).

     
  4. #9
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام

    الفصل الثامن:

    الرضا بالقضاء والقدر

    سورة يونس(10)

    قال الله تعالى: {وإن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فلا كاشفَ له إلاَّ هوَ وإن يُرِدْكَ بخيرٍ فلا رادَّ لفضلهِ يُصيبُ به من يشاءُ من عبادهِ وهو الغفورُ الرَّحيم(107) قُل ياأيُّها النَّاسُ قد جاءكُمُ الحقُّ من ربِّكُمْ فمن اهتدى فإنَّما يهتدي لنفسهِ ومن ضلَّ فإنَّما يَضِلُّ عليها وما أنا عليكُم بوكيل(108)}

    ومضات:

    ـ مقاليد أمور الخلق، وتصاريف أقدارهم بيد الله سبحانه وتعالى، وهو الَّذي قدَّر ما هو كائن لهم أو عليهم، وهو الَّذي قسم بينهم أرزاقهم ولا رادَّ لإرادته.

    ـ الخير والشرُّ مفهومان متناقضان يصيب الله بهما من يشاء من عباده، ويكونان كجزاء عادل على أعمالهم في أغلب الأحيان، وقد يوجَّهان من الله إليهم ليبلُوَهم ويختبرهم، أيُّهم يحسن التصرُّف بالخير حين جريانه بين يديه، وأيُّهم يحسن الصبر على الضُّرِّ إذا أصابه، ثمَّ يجازيهم أو يثيبهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة حسبما يستحقُّون.

    ـ المؤمن هو المستفيد الأوَّل من ثمرات هدايته واتِّباعه تعاليم الحضرة الإلهيَّة، والضالُّ هو أوَّل من يعاني من آثار تعنُّته وفجوره، والله غنيٌّ عن إيماننا ولا يضرُّه ضلالنا.

    في رحاب الآيات:

    إذا خرج الإنسان عن قواعد الله وتعاليمه الحكيمة الَّتي وضعها من أجل سلامته وسعادته، فإنه سيلقى عقاب الله تعالى في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معاً. هذا هو قانونه الأزلي، قانون الثواب والعقاب، فعمل الإنسان إمَّا أن يؤدِّي به إلى الإضرار بنفسه أو إلى خير يصيبه، وتضطلع إرادة الله المطلقة في تقدير الأمور، وتبقى النتيجة والمسؤولية متعلِّقة بإرادة الإنسان واختياره الشخصي؛ فإن زكَّى نفسه فقد أفلح، وإن أهلكها بالمخالفات والمعاصي فقد خاب وهلك. لذلك جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الخير ليعلِّمَنا كيف ننقذ أنفسنا من دائرة عذاب الله، فقال: «اطلبوا الخير دهْرَكُم، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله تعالى، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوه أن يستر عوراتكم ويؤمِّن روعاتكم» (أخرجه البيهقي).

    وقد يسأل أحدهم: إذا كان الله يقدِّر الخير للطائعين والشرَّ للعاصين، فلماذا نرى الكثير من المؤمنين الطائعين وقد ابتُلُوا بمصائب مختلفة، كالمرض أو الفقر أو فَقْدِ الولد وغير ذلك، بينما نرى من العاصين من يغرق في النعيم والخيرات؟ والجواب نسوقه من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سرَّاءُ شكر وكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر وكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن» (رواه مسلم مرفوعاً) فالله تعالى إذا أحبَّ عبداً ابتلاه فإذا صبر اجتباه، وكلَّما ازداد صبراً وشكراً ارتقت درجته عند الله. ولا يزال المؤمن بين شكر على النعم وصبر على المحن حتَّى ينال درجة الأبرار والصدِّيقين، قال صلى الله عليه وسلم : «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمَّ الأمثل فالأمثل. يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء الإنسان حتَّى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (أخرجه الترمذي). وأيّاً كان قضاء الله تعالى في المؤمن فإنه يرضى به لأنه لا رادَّ لقضائه، فلو اجتمع الناس جميعاً على أن يدفعوا عنه ضُرّاً قد كتبه الله عليه فإنهم لن يردُّوه، ولو اجتمعوا على أن يمنعوا عنه خيراً قدَّره له فإنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وقد أُثِر عن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاؤه: «اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء» (أخرجه الطبراني عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه )، والرضا أعلى درجة من الصبر.

    وأمَّا الكفار والمتمرِّدون فقد يزيد لهم الله تعالى من أسباب النعيم والقوَّة، ما يجعلهم يزدادون ظلماً وطغياناً، حتَّى يستحقُّوا عظيم العقاب، قال تعالى يتوعَّدهم: {وذَرْنِي والمكذِّبينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهُمْ قليلاً * إنَّ لَدَينا أَنْكَالاً وجحيماً} (73 المُزَّمل آية 11ـ12) وقال أيضاً: {ذَرْنِي ومن خَلَقتُ وحيداً * وجعَلْتُ له مالاً ممدوداً * وبَنِينَ شُهوداً * ومَهَّدت له تمهيداً * ثمَّ يطمعُ أن أَزيدَ * كلاَّ إنَّه كان لآياتنا عنيداً * سأُرْهِقُهُ صَعُوداً} (74 المُدَّثر آية 11ـ17) وهكذا فإنك ترى أن هذه النعم الدنيوية ما هي إلا امتحان يريد الله به اختبارنا أيُّنا أحسن عملاً، ومع ذلك فإنه تعالى يختصُّ برحمته من يشاء لنفسه الهداية، فيهديه إلى سواء السبيل.

    إن نداء الله عامٌّ شامل، وقد نزل القرآن للناس كافَّةً دون تخصيص المؤمنين، لذلك فهو يدعوهم جميعاً إلى تدبُّره، سواء من سمع هذه الدعوة من الرسول صلى الله عليه وسلم ، أم مِنَ الدعاة بعده إلى أن تقوم الساعة؛ فقد أرسل الله القرآن هدىً ونوراً، ولو أن الناس اطَّلعوا على ما في ثناياه من الحكمة والموعظة لم يخالفوه، ومن سلك سبيل الحقِّ وصدَّق بما جاء من عند الله فإن الفائدة عائدة إليه، ومن اعْوَجَّ وأعرض، فإن وبال ضلاله عائد على نفسه، بما يفوته من فوائد الاهتداء، وما يصيبه من العذاب. إنها دعوة صريحة وواضحة، ولكلٍّ أن يختار لنفسه ما يشاء، وما الرسول أو الداعي إلا مبلِّغين عن الله، وليسا مكلَّفين بسوق الناس إلى الهدى كُرْهاً، بل إنَّ أمْرَ هداهم وضلالهم موكَّل إلى إرادتهم واختيارهم، وقد كتب الله لهم أو عليهم ما علمه من اختيارهم، ضمن إطار إرادته سبحانه، فلا يحدث شيء في هذا الكون إلا بإرادته.

    سورة الحديد(57)

    قال الله تعالى: {ما أصابَ من مُصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفُسِكُمْ إلاَّ في كتابٍ من قَبْلِ أن نبرَأَهَا إنَّ ذلك على الله يسيرٌ(22) لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتكم ولا تفرَحُوا بما آتاكُمْ والله لا يحبُّ كلَّ مُختالٍ فخور(23)}

    ومضات:

    ـ إن اعتقاد المؤمن أنه يتحرَّك ضمن دائرة الإرادة الإلهيَّة، يعطيه شعوراً بالاطمئنان أنَّ أمور الحياة مرتَّبة من قِبَل ربِّ العالمين، ومقدَّرة من لَدُنْ عليم حكيم، منذ خلق الأكوان وأراد لهذه الخليقة أن تكون. وهذا الشعور بالإحاطة الإلهيَّة يعطيه التوازن في عواطفه وردود أفعاله، فتكون معتدلة لا تطرُّف فيها، سواء في حالات الحزن أو الفرح، بحيث يمضي مع قدر الله في طواعية ورضا.

    ـ إن الله تعالى لا يحبُّ من يختال طرباً، متباهياً بين أقرانه بما حَصَّل عليه من نعيم وعطاء متميزين، ناسباً الفضل لنفسه فيما آتاه الله، ناسياً فضل ربِّ العالمين في تقدير الأرزاق والأعمار بين الناس أجمعين.

    في رحاب الآيات:

    مَن للإنسان يحملُ عنه همومه ومصائبه وآلامه غير إيمانه القوي بحضرة الله؟؛ فكثيرٌ من الناسِ يُصابون بانهيارات عصبيَّة، أو أزمات قلبيَّة بمجرَّد تعرُّضهم لنكبة تقضُّ مضجعهم. أمَّا العبوديَّة الحقيقية لله فهي تعين المرء على الاستسلام الكامل لإرادة الحضرة الإلهيَّة، فما نحن سوى مؤتمنين من قِبَلِه عزَّ وجل على أنفسنا ومالنا وأهلنا، ولنا حقُّ الإدارة دون حقِّ الملكية المطلقة، لأننا وما نملك مِلك للمالك الأحد الفرد الصمد. وهذا الوجود هو من الدِّقة والتنظيم بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدَّر منذ تصميمه، محسوب حسابه في كيانه، لا مكان فيه للمصادفة، فقبل خلق الأرض وخلق الأنفس، كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كلُّ حدث سيظهر للخلائق في وقته المعيَّن، وفي علم الله لا شيء ماضٍ، ولا شيء حاضرٌ، ولا شيء قادم، فتلك الفواصل الزمنيَّة إنما هي معالم لنا ـ نحن أبناء الفَناء ـ نرى بها حدود الأشياء، إذ لا ندرك الأشياء بغير حدود تميِّزها، حدود من الزمان، وحدود من المكان. وكلُّ حادث من خير أو شرٍّ يقع في الأرض هو في ذلك الكتاب الأزلي، من قبل ظهور الأرض في صورتها الَّتي ظهرت بها: {إنَّ ذلك على الله يسير}، ومن شأن معرفة هذه الحقيقة في النفس البشرية، أن تسكب فيها الطمأنينة عند استقبال الأحداث، خيرها وشرِّها، تلك الطمأنينة بالله، الَّتي يبحث عنها الملايين من البشر المنكوبين، لأن فيها تهدئة للعواطف، فلا فرح طاغٍ، ولا حزن مُدمِّر، بل عواطف متوازنة، متماسكة، تضع المرء في حجمه الحقيقي دون مباهاة ولا تفاخر، فالَّذي أعطى قادر على أن يأخذ، والَّذي وهب قادر على أن يمنع، وكلُّنا لا حول لنا ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم. قال عكرمة رضي الله عنه : (ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً) وهذا هو الاعتدال الَّذي يتمتَّع به المسلم الحقيقي.

    إن هذه العقيدة الَّتي تملأ نفس المؤمن، هي من أعظم العلاجات لآثار الحوادث المؤلمة الَّتي تصادف الإنسان في حياته، وهي في الوقت نفسه، تُعَدُّ من أشدِّ العوامل الإيجابيَّة في النظر إلى المستقبل، حيث يُقبِل الإنسان على عمله ومسؤولياته وهو واثق بأن عمله لن يذهب سدى، فإن هو نجح فقد حقَّق مراده، وقطف ثمرات سعيه، وشكر الله المنعم، فكان خيراً له، وإن حال بينه وبين هدفه عارض سلبي، من مرض أو خسارة أو ما شابه ذلك، علم أن ذلك مقدَّر كائن ولا يستطيع دفعه مهما بذل، وليس له ملاذٌ إلا الصبر فكان الصبر خيراً له، لأن من ثمار الصبر الأجر والمثوبة عند الله من جهة، والحفاظ على الأعصاب والملكات والصحَّة من جهة أخرى. وهكذا يُقْبِل المؤمن وكلُّه ثقة بالله عزَّ وجل على المستقبل، بكامل طاقاته وملكاته، ممَّا يهيِّئ له الفرصة للفوز والنجاح وتحقيق الأهداف، بعيداً عن التقاعس واليأس والقنوط.



    سورة الكهف(18)

    قال الله تعالى: {ولا تقولنَّ لشيء إنِّي فاعلٌ ذلك غداً(23) إلاَّ أن يشاءَ الله واذكرْ ربَّكَ إذا نسيتَ وقُلْ عسى أن يهدِيَنِ ربِّي لأقربَ من هذا رَشَداً(24)}

    ومضات:

    ـ إنَّ ربط المؤمن مشيئته بمشيئة الله عزَّ وجل، حالة روحية تذكِّره بالله في كلِّ حين، وتخلق لديه شعوراً بالثقة والطمأنينة والتسليم، وهذا لا يتنافى مع الدراسة والتخطيط المسبق الدقيق لأمور حياته كافَّة.

    ـ يُرجِع بعض الناس أسباب تراخيهم وكسلهم إلى الإرادة الإلهيَّة، بقولهم (لو شاء الله لفعلنا) وهذا فهم خاطئ للعقيدة، فلو فعلوا لوجدوا أن الله قد شاء، ولا يمنعهم من تنفيذ ما أرادوه، فقد ترك لهم حرية الاختيار والعمل.

    في رحاب الآيات:

    إن كلَّ عمل من أعمال الكائن الحي مرهون بإرادة الله، وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان دون تفكير في أمر المستقبل أو التدبير له، بل من المفروض في الإنسان العاقل أن يخطِّط لأموره كلِّها، ويبرمجها وفق نظام يتقيَّد به، وبذلك يستثمر كلَّ أوقاته بشكل مُجْدٍ لا هدر فيه. ولكن يجب أن لا يغيب عن باله أنه يعيش أصلاً ضمن المخطَّط الإلهي، وهذا يعني أن يحسب حساب الغيب، وحساب المشيئة الَّتي تدبِّره، وأن يعزم ويستعين بمشيئة الله، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره، فإن جرت مشيئة الله بغير ما دبَّر لم يحزن ولم ييئس لأن الأمر لله أوَّلاً وأخيراً.

    فالموت حقٌّ ويمكن أن يقع في أيَّة لحظة، والحوادث يمكن أن تعترض المرء في أيِّ مكان، والأمراض يمكن أن تنزل به على حين غِرَّة، لذا فإن تنفيذ رغباته مرهون أبداً بقوى تحيط به قد لا يستطيع التصرُّف أو التحكُّم فيها. ومن هنا كان على الإنسان الابتعاد عن الحتميَّة في قراراته، وأن يربط إرادته بإرادة الله، وأن يَعِدَ بتنفيذ الأمور المخطَّط لها أو الموعود بها بعد ربطها بمشيئة الله، فيقول: سأفعل بإذن الله؛ حتَّى وإن أقسم على فعلٍ وهو واثق بأنه لابدَّ فاعله، فليقرن يمينه بمشيئة الله، لعلَّه أن يعترضه ما يمنعه من أن يبرَّ بقسمه، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير حانث» (أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي)، وبهذا يستمرُّ الارتباط الروحي بين العبد وخالقه، وبين الأسباب ومسبِّبها. هذا هو المنهج الَّذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم، فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكِّر ويدبِّر، ولا يُحِسُّ بالغرور وهو يفلح وينجح، ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق، بل يبقى في كلِّ أحواله متَّصلاً بالله، قويّاً بالاعتماد عليه، شاكراً لتوفيقه إيَّاه، مسلِّماً بقضائه وقدره. وإن دوام إعمار القلب بذكر الله يُمَتِّن أواصر هذا الارتباط، ويعمِّق جذوره، وبه يحصل المؤمن على الطمأنينة، فلا يشعر بالهلع والجزع عندما تخرج الأمور من يده، وفي الوقت نفسه لا يتوانى عن مواصلة تعاطي الأسباب والمسبَّبات، ولا يُحِسُّ بكسلٍ أو تراخٍ، بل يشعر بالثقة والقوَّة لأنه لائذٌ بربه، راضٍ بقضائه، فإذا انكشف له تدبير الله المخالف لتدبيره، فإنه سيقبل قضاءه بالرضا والتسليم.

     
  5. #10
    صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute الصورة الرمزية صناع الحياة
    تاريخ التسجيل
    09 / 06 / 2005
    الدولة
    مصر
    العمر
    52
    المشاركات
    21,349
    معدل تقييم المستوى
    26561

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام


     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 1 2 3 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك