+ الرد على الموضوع
صفحة 23 من 33 الأولىالأولى ... 13 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 111 إلى 115 من 162
  1. #111
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة الجِنّ



    إيمان الجن بالقرآن ، ومنزل القرآن

    أحوال الجن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

    المساجد لله ، والنافع والضار هو الله

    قيام الساعة من خصوصيات الله عالم الغيب

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة الجن مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحور السورة يدور حول الجنِّ، وما يتعلق بهم من أمور خاصة، بدءاً من استماعهم للقرآن، إلى دخولهم في الإِيمان، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم، كاستراقهم للسمع، ورميهم بالشهب المحرقة، واطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة.

    * ابتدأت السورة الكريمة بالإِخبار عن استماع فريق من الجن للقرآن، وتأثرهم بما فيه من روعة البيان، حتى آمنوا به فور استماعه ودعوا قومهم إلى الإِيمان {قل أُوحي إِليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ..} الآيات.

    * ثم انتقلت للحديث عن تمجيدهم وتنزيههم لله جل وعلا، وإِفرادهم له بالعبادة، وتسفيههم لمن جعل لله ولداً {وأنه تعالى جدُّ ربنا ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً * وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً ..} الآيات.

    * ثم تحدثت السورة عن استراق الجن للسمع، وإِحاطة السماء بالحرس من الملائكة، وإِرسال الشهب على الجن بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعجبهم من هذا الحدث الغريب {وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجدْ له شهاباً رصداً ..} الآيات.

    * ثم تحدثت السورة عن انقسام الجن إلى فريقين : مؤمنين، وكافرين ومآل كل من الفريقين {وأنَّا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحرَّوا رشداً * وأمَّا القاسِطُون فكانوا لجهنم حطباً}.

    * ثم انتقلت للحديث عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن التفاف الجن حوله حين سمعوه يتلو القرآن {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً * قل إِنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً}.

    * ثم أمرت الرسول عليه السلام أن يعلن استسلامه وخضوعه لله، ويفرده جلَّ وعلا بإِخلاص العمل، وأن يتبرأ من الحوْل والطَّوْل {قل إِنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً * قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً * قل إني لن يجيرني من الله أحدٌ، ولن أجد من دونه ملتحداً}.

    * وختمت السورة ببيان اختصاص الله جل وعلا بمعرفة الغيب، وإِحاطته بعلم جميع ما في الكائنات {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإِنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ..} الآيات إلى آخر السورة الكريمة.

    إيمان الجن بالقرآن ، ومنزل القرآن

    {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1)يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(2)وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا(3)وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا(4)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(5)وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا(6)وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(7)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (1):

    {قل: أوحي ...}: أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عُكَاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تِهَامة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

    فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآناً عجباً، فأنزل الله على نبيّه: {قل: أوحي إلي} وإنما أوحي إليه قول الجن.



    نزول الآية (6):

    {وأنه كان رجال ..}: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حين في العظمة عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول مرة ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل، جاء ذئب، فأخذ حَمَلاً من الغنم، فوثب الراعي، فقال: عامر الوادي، جارك، فنادى مناد، لا نراه يا سِرْحان، فأتى الْحَمَل يشتد حتى دخل في الغنم، وأنزل الله على رسوله بمكة: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ} الآية.

    وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رعيت على أهلي، وكفيت مهنتهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خرجنا هرباً، فأتينا على فلاة من الأرض، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا: إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، فقلنا ذاك، فقيل لنا: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، من أقرَّ بها، أَمِن على دمه وماله، فرجعنا فدخلنا في الإسلام، قال أبو رجاء: إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن، فزادوهم رهقاً}.

    {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} أي قل يا محمد لقومك: إن ربي أوحى إلي أن جماعة من الجن استمعوا لتلاوتي للقرآن، فآمنوا به وصدقوه وأسلموا {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} أي فقالوا لقومهم حين رجعوا إِليهم: إنا سمعنا قرآناً عجيباً، مؤثراً في حسن نظمه، وبلاغة أسلوبه، وما حواه من بديع الحِكَم والعظات و{عَجَبًاً} مصدر وصف به للمبالغة، قال المفسرون: استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر، ولم يشعر بهم ولا باستماعهم، وإنما أخبر به الرسول بواسطة الوحي بدليل قوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ويؤيده ما قصه الله على نبيه في سورة الأحقاف من خبرهم {وإِذْ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين} والغرض من الإِخبار عن استماع الجن، توبيخ وتقريع قريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإِيمان، إذ كانت الجن خيراً منهم وأسرع إلى الإِيمان، فإنهم حين ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به ورجعوا إلى قومهم منذرين، بخلاف العرب الذين نزل بلسانهم، فإنهم كذبوا واستهزؤوا وهم يعلمون أنه كلام معجز، وأن محمداً أمي لا يقرأ ولا يكتب، وشتان ما بين موقف الإِنس والجن!! {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} أي يهدي هذا القرآن إلى الحق والرشاد والصواب فصدقنا به {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك، ولن نجعل لله شريكاً بعد اليوم من خلقه، قال الخازن: وفي الآية دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أي تعالت عظمة ربنا وجلاله {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} أي ليس له زوجة ولا ولد، لأن الزوجة تتخذ للحاجة، والولد للاستئناس، والله تعالى منزه عن النقائص {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} أي وأن الأحمق الجاهل فينا كان ينسب إلى الله ما لا يليق بجلاله وقدسيته ويقول قولاً شططاً بعيداً عن الحق وحدِّ الاعتدال، قال مجاهد: السفيه هو إبليس دعاهم إلى عبادة غير الله {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي كنا نظن أن أحداً لن يكذب على الله تعالى لا من الإِنس ولا من الجن في نسبة الصاحبة والولد إليه، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك، قال الطبري: وإنما أنكر هؤلاء النفر من الجن أن تكون قد علمت أن أحداً يجترئ على الكذب على الله لما سمعت القرآن، لأنهم قبل أن يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب الله للزاعمين لله الصاحبة والولد كانوا يحسبون أن إبليس صادق، فلما سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذباً في ذلك فسموه سفيهاً {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ} أي كان خلائق من الإِنس يستجيرون برجال من الجن {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي فزاد الإِنس الجن باستعاذتهم بهم إِثماً وطغياناً، وعتواً وضلالاً، قال أبو السعود: كان الرجل إِذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه - يريد الجن وكبيرهم - فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الإِنس والجن، فزاد الرجال الجن تكبراً وعتواً، فذلك قوله {فزادوهم رهقاً} {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} أي وأن كفار الإِنس ظنوا كما ظننتم يا معشر الجن، أن الله لن يبعث أحداً بعد الموت، فقد أنكروا البعث كما أنكرتموه أنتم.

    أحوال الجن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

    {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8)وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(9)وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا(10)وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا(11)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا(12)وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا(13)وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14)وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا(15)وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)}



    سبب النزول:

    نزول الآية (16):

    {وأن لو استقاموا}: أخرج الخرائطي عن مقاتل في قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} قال: نزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين.

    {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} يقول الجن: وأنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها، فوجدناها قد ملئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها، وبالشهب المحرقة التي تقذف من يحاول الاقتراب منها {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} أي كنا قبل بعثة محمد نطرق السماء لنستمع إلى أخبارها ونلقيها إلى الكهان {فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أي فمن يحاول الآن استراق السمع، يجد شهاباً ينتظره بالمرصاد يحرقه ويهلكه {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي لا نعلم نحن معشر الجن ما الله فاعل بسكان الأرض، ولا نعلم هل امتلاء السماء بالحرس والشهب لعذاب يريد الله أن ينزله بأهل الأرض؟ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} أي أم لخير يريده الله بهم، بأن يبعث فيهم رسولاً مرشداً يرشدهم إلى الحق؟ وهذا من أدب الجن حيث نسبوا الخير إلى الله، ولم ينسبوا الشر إليه فقالوا: أشر أريد بمن في الأرض؟ أم أراد بهم ربهم رشداً؟ قال ابن كثير: وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، وهذا هو الذي حملهم على تطلب السبب، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا الذي حفظت من أجله السماء، فدنوا منه حرصاً على سماع القرآن ثم أسلموا {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي منا قوم صالحون أبرار، عاملون بما يرضي الله، ومنا قوم ليسوا صلحاء، قال ابن جزي: وأرادوا بقولهم {دُونَ ذَلكَ} أي الذين ليس صلاحهم كاملاً، أو الذين ليس لهم صالح {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أي كنا فرقاً شتى، ومذاهب مختلفة، فمنا الصالح ومنا الطالح، وفينا التقي والشقي {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} أي علمنا وأيقنا أن الله قادر علينا، وأننا في قبضته وسلطانه أينما كنا، لن نعجزه بهرب، ولن نتفلت من عقابه إذا أراد بنا سوءاً، قال القرطبي: أي علمنا بالاستدلال والتفكر في ءايات الله، أنا في قبضته وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره .. ثم عادوا إلى شكر الله تعالى على نعمة الإِيمان واهتدائهم بسماع ءايات القرآن فقالوا {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} أي لما سمعنا القرآن العظيم آمنا به وبمن أنزله، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم في رسالته {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} أي فمن يؤمن بالله تعالى فلا يخشى نقصاناً من حسناته ولا ظلماً بزيادة سيئاته، قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته، لأن البخس النقصان، والرهق العدوان {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أي وأنا بعد سماعنا القرآن منا من أسلم، وصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنا من جار عن الحق وكفر، قال المفسرون: يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط إذا عدل، واسم الفاعل من الأول قاسط، ومن الثاني مقسط ومنه {إن الله يحب التوابين ويحب المقسطين} وأما القاسط فهو الظالم الجائر {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} أي فمن اعتنق الإِسلام واتبع الرسول عليه السلام، فأولئك الذين قصدوا الرشد، واهتدوا إلى طريق السعادة والنجاة {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} أي وأما الكافرون الجائرون عن طريق الحق والإِيمان، فسيكونون وقوداً لجهنم، توقد بهم كما توقد بكفار الإِنس .. وإلى هنا انتهى كلام الجن، مما يدل على قوة إيمانهم، وصدقهم وإخلاصهم، ثم قال تعالى مخبراً عن أهل مكة {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} أي لو آمن هؤلاء الكفار، واستقاموا على شريعة الله {لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} أي لبسطنا لهم في الرزق، ووسعنا عليهم في الدنيا، زيادة على ما يحصل لهم في الآخرة من النعيم الدائم، وبذلك يجوزون عز الدنيا والآخرة، قال ابن جزي: الماء الغدق: الكثير، وذلك استعارة في توسيع الرزق، والطريقة هي طريقة الإِسلام وطاعة الله والمعنى: لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض} {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم به أيشكرون أم يكفرون؟ {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} أي ومن يعرض عن طاعة الله وعبادته، يدخله ربه عذاباً شديداً شاقاً لا راحة فيه، قال قتادة: {صَعَدًا} عذاباً لا راحة فيه، وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.

    المساجد لله ، والنافع والضار هو الله

    {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا(20)قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا(21)قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا(22)إِلا بَلاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا(24)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (18):

    {وأن المساجد لله}: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت الجن: يا رسول الله، ائذن لنا، فنشهد معك الصلوات في مسجدك، فأنزل الله: {وأن المساجد لله، فلا تدعوا مع الله أحداً}. وروي ذلك أيضاً عن الأعمش.

    نزول الآية (20):

    {قل: إنما أدعو ربي}: سبب نزولها كما ذكر الشوكاني : أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك.

    نزول الآية (22):

    {قل: إني لن يجيرني ..}: أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذكر أن جنياً من الجن من أشرافهم ذا تَبَع قال: إنما يريد محمد أن يجيره الله، وأنا أجيره، فأنزل الله: {قل: إني لن يجيرني من الله أحد} الآية.

    {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} هذا من جملة الموحى به للرسول {قل أُوحي إلي} والمعنى وأوحي إلي أن المساجد وبيوت العبادة هي مختصة بالله، فلا تعبدوا فيها غيره وأخلصوا له العبادة فيها، قال مجاهد: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فيها، فأمر الله عز وجل نبيه والمؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} أي وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد ربه {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} أي كاد الجن يركب بعضهم بعضاً من شدة الازدحام، حرصاً على سماع القرآن، قال ابن عباس: كادوا ينقضون عليه لاستماع القرآن، وإنما وصفه تعالى بالعبودية، ولم يذكره باسمه زيادة في تشريفه وتكريمه عليه السلام {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن ترجع عن دينك: إنما أعبد ربي وحده، ولا أشرك مع الله غيره بشراً ولا صنماً، قال الصاوي: سبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك وننصرك فنزلت {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} أي قل يا محمد في محاجَّة هؤلاء: إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً، ولا أجلب لكم نفعاً، وإنما الذي يملك هذا هو الله رب العالمين {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي قل لهم أيضاً: إنّه لن ينقذني من عذاب الله أحد إن عصيته، ولن أجد لي نصيراً ولا ملجأً منه، فكيف أجيبكم إلى ما طلبتم؟ قال قتادة: {مُلْتَحَدًا} ملجأً ونصيراً {إِلا بَلاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} أي لا أجد ملجأً إلا إذا بلغت رسالة ربي، ونصحتكم وأرشدتكم كما أمرني الله فحينئذ يجيرني ربي من العذاب كقوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته} قال ابن كثير: أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليَّ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ومن كذب الله ورسوله، ولم يؤمن بلقاء الله، وأعرض عن سماع الآيات وتدبر الرسالات، فإن جزاءه جهنم لا يخرج منها أبداً وإنما جمع {خَالِدِينَ} حملاً على معنى {مَنْ} لأن لفظها مفرد ومعناها جمع {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} أي حتى إذا رأى المشركون ما يوعدون من العذاب {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} أي فسيعلمون حينئذ من هم أضعف ناصراً ومعيناً، وأقل نفراً وجنداً؟ هل هم؟ أم المؤمنون الموحدون؟ ولا شك أن الله ناصر عباده المؤمنين، فهم الأقوى ناصراً والأكثر عدداً، لأن الله معهم وملائكته الأبرار.

    قيام الساعة من خصوصيات الله عالم الغيب

    {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا(25)عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(28)}

    سبب النزول:

    قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يُوعَدون فسيَعْلَمون من أضعفُ ناصراً وأقلعدداً} قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به ؟ فأنزل الله تعالى: {قل إن أدري أقريب ما توعدون} إلى آخر الآيات.

    {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ}؟ أي قل لهم يا محمد: ما أدري هل هذا العذاب الذي وعدتم به قريب زمنه {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} أي أم هو بعيد له مدة طويلة وأجل محدود؟ قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم كلما خوف المكذبين نار جهنم، وحذرهم أهوال الساعة، أظهروا الاستخفاف بقوله، وسألوه متى هذا العذاب؟ ومتى تقوم هذه الساعة؟ فأمره تعالى أن يقول لهم: لا أدري وقت ذلك، هل هو قريب أم بعيد؟ {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} أي هو جل وعلا عالم بما غاب عن الأبصار، وخفي عن الأنظار، فلا يطلع على غيبه أحداً من خلقه {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أي إلا من اختاره الله وارتضاه لرسالته ونبوته، فيظهره الله على ما يشاء من الغيب، قال المفسرون: لا يطلع الله على غيبه أحداً إلا بعض الرسل، فإنه يطلعهم على بعض الغيب، ليكون معجزة لهم، إن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإِخبار عن بعض المغيبات، كما قال عن عيسى {وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} أي فإنه تعالى يرسل من أمام الرسول ومن خلفه، ملائكة وحرساً يحفظونه من الجن، ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إليه من علم الغيب، قال الطبري: أي فإنه تعالى يرسل من أمامه ومن خلفه حرساً وحفظةً يحفظونه من الجن {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} أي ليعلم الله - علم ظهور فإنه تعالى عالم بما كان وما يكون - أن رسله الكرام قد بلغوا عنه وحيه كما أوحاه إليهم محفوظاً من الزيادة والنقصان، قال ابن كثير: المعنى أن الله يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي أحاط علمه بما عند الرسل، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} أي علم تعالى علم ضبط واستقصاء جميع الأشياء، المنبثَّة في الأرضين والسماوات من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وزبد البحار، فلا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف لا يحيط علماً بما عند رسله من رسالاته ووحيه، التي أمرهم بتبليغها إلى خلقه؟ وكيف يمكن لرسله أن يفرطوا في تلك الرسالات، أو يزيدوا أو ينقصوا أو يحرفوا فيها او يغيروا، وهو تعالى محيط بها، محص لجميع الأشياء جليلها وحقيرها؟ {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.

     
  2. #112
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة المُزَّمِّل

    نداء لطيفٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يجهد نفسه

    توعد الله لصناديد قريش

    تذكير وإرشاد بأنواع الهداية

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة المزمل مكية، وهي تتناول جانباً من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، في تبتله، وطاعته، وقيامه الليل، وتلاوته لكتاب الله عز وجل، ومحورُ السورة يدور حول الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا سميت "سورة المزمِّل".

    * ابتدأت السورة الكريمة بنداء الرسول صلى الله عليه وسلم نداءً شفيفاً لطيفاً، ينمُّ عن لطف الله عز وجل ورحمته بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يجهد نفسه في عبادة الله ابتغاء مرضاته {يا أيها المزَّمّلُ * قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد على ورتل القرآن ترتيلاً}.

    * ثم تناولت السورة موضوع ثقل الوحي الذي كلف الله به رسوله، ليقوم بتبليغه للناس بجد ونشاط، ويستعين على ذلك بالاستعداد الروحي بإِحياء الليل في العبادة {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً * إنَّ ناشئة الليل هي أشدُّ وطأً وأقوم قيلاً* إن لك في النهار سبحاً طويلاً}.

    * وأمرت السورة الرسول عليه السلام بالصبر على أذى المشركين، وهجرهم هجراً جميلاً إلى أن ينتقم الله منهم {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً * وذرني والمكذبين أُولي النَّعمة ومهلهم قليلاً}.

    * ثم توعد الله المشركين بالعذاب والنكال يوم القيامة، حيث يكون فيه من الهول والفزع ما يشيب له رءوس الولدان {إنَّ لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصةٍ وعذاباً أليماً * يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كئيباً مهيلاً ..} الآيات.
    * وختمت السورة الكريمة بتخفيف الله عن رسوله وعن المؤمنين من قيام الليل رحمة به وبهم، ليتفرغ الرسول وأصحابه لبعض شئون الحياة {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفةٌ من الذين معك ..} إلى قوله {وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.



    نداء لطيفٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يجهد نفسه

    {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1)قُمِ اللَّيْلَ إِلاً قَلِيلاً(2)نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً(4)إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5)إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً(6)إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً(7)وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً(8)رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاً إِلَهَ إِلاً هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9)وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً(10)}



    سبب النزول:

    نزول الآية (1، 2):

    {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً}: أخرج الحاكم عن عائشة قالت: لما أنزلت {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} قاموا سنة حتى وِرْمَت أقدامهم، فأنزلت: {فاقرؤوا ما تيسر منه}.

    وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، فنظرت خلفي، فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجُثثت (فزعت) منه رعباً، فرجعت فقلت: دثِّروني دثِّروني". وفي رواية: "فجئت أهلي، فقلت: زمِّلوني زمِّلوني"، فأنزل الله: {يا أيها المدثر} وقال جمهور العلماء: وعلى إثرها نزلت {يا أيها المزمل}.

    {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي يا أيها المتلفف بثيابه، وأصله المتزمل وهو الذي تلفف وتغطى، وخطابه صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فيه تأنيسٌ وملاطفة له عليه السلام قال السهيلي، إن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك معاتبته سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - حين غاضب فاطمة وقد نام ولصق بجنبه التراب - قم أبا تراب، إشعاراً بأنه ملاطفٌ له، وغير عاتب عليه، والفائدة الثانية: التنبيهُ لكل متزمل راقد ليله، ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى، لأنه الاسم المشتق من الفعل، يشترك فيه المخاطب، وكل من اتصف بتلك الصفة، وسبب هذا التزمل ما روي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه وهو في غار حراء - في ابتداء الوحي - رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال: زملوني، زملوني، لقد خشيت على نفسي، وأخبرها بما جرى، فنزلت {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي يا أيها الذي تلفف بقطيفته، واضطجع في زاوية بيته، وقد أشبه من يُؤثر الراحة والسكون، ويحاول التخلص مما كُلف به من مهمات الأمور {قُمِ اللَّيْلَ إِلاً قَلِيلاً} أي دع التزمل والتلفف، وانشط لصلاة الليل، والقيام فيه ساعات في عبادة ربك، لتستعد للأمر الجليل، والمهمة الشاقة، ألا وهي تبليغ دعوة ربك للناس، وتبصيرهم بالدين الجديد .. ثم وضَّح المقدار الذي ينبغي أن يصرفه في عبادة الله فقال {نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي قم للصلاة والعبادة نصف الليل، أو أقل من النصف قليلاً، أو أكثر من النصف، والمراد أن تكون هذه الساعات طويلة بحيث لا تقل عن ثلث الليل، ولا تزيد على الثلثين، قال ابن عباس: إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله {قُمْ اللَّيْلَ} ثم نسخ بقوله تعالى {فاقرءوا ما تيسَّر منه} وكان بين أول هذا الوجوب ونسخه سنة، وهذه هي السورة التي نسخ آخرها أولها، حيث رحم المؤمنين فأنزل التخفيف عليهم بقوله {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، ونصفه وثُلثه، وطائفةٌ من الذين معك ..} الآية {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أي اقرأ القرآن أثناء قيامك في الليل قراءة تثبت وتؤَدة وتمهل، ليكون عوناً لك على فهم القرآن وتدبره، قال الخازن: لما أمره تعالى بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن، حتى يتمكن المصلي من حضور القلب، والتفكر والتأمل في حقائق الآيات ومعانيها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر بقلبه عظمة الله وجلاله، وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل له الرجاء والخوف، وعند ذكر القصص والأمثال يحصل له الاعتبار، فيستنير القلب بنور معرفة الله، والإِسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل، إنما هو حضور القلب عند القراءة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطِّع القراءة حرفاً حرفاً - أي يقرأ القرآن بتمهل، ويخرج الحروف واضحة - لا يمر بآية رحمةٍ إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذابٍ إلا وقف وتعوَّذ .. ثم بعد أن أمره تعالى باطراح النوم، وقيام الليل، وتدبر القرآن وتفهمه، انتقل إلى بيان السبب في هذه الأوامر الثلاثة، ذات التكليف الصعب الشاق فقال {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} أي سننزل عليك يا محمد كلاماً عظيماً جليلاً، له هيبة وروعةٌ وجلال، إنّه كلام الملك العلاَّم، قال الإِمام الفخر الرازي: والمراد من كونه ثقيلاً هو عِظَم قدره، وجلالة خطره، وكل شيء نفس وعظم خطره فهو ثقيل، وهذا معنى قول ابن عباس {قَوْلاً ثَقِيلاً} يعني كلاماً عظيماً، وقيل المراد ما في القرآن من الأوامر والنواهي، التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، ووجه النظم عندي أنه لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال: إنما أمرتك بصلاة الليل، لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً، ولا بد أن تصيّر نفسك مستعدة لذلك القول العظيم، وذلك بصلاة الليل، فإن الإِنسان إذا اشتغل بعبادة الله في الليلة الظلماء، وأقبل على ذكره والتضرع بين يديه، استعدت نفسه لإِشراق وجلال الله فيها أقول: وهذا المعنى لطيف في الربط بين قيام الليل، وتلاوة القرآن، فإن الله تعالى كلَّف رسوله أن يدعو الناس إلى دين جديد، فيه تكاليف شاقة على النفس، وأن يكلفهم العمل بشرائعه وأحكامه، ولا شك أن مثل هذا التكليف، يحتاج إلى مجاهدة للنفس ومصابرة، لما فيه من حملهم على ترك ما ألفوه من العقائد، ونبذ ما ورثوه من أسلافهم من العادات، فأنت يا محمد معرَّضٌ لمتاعب كثيرة، وأخطار جمة في سبيل هذه الدعوة، وحمل الناس على قبولها، فكيف يمكن أن تقوم بهذه المهمة الكبيرة، وأنت على ما أنت عليه من التزمل والتلفف، والخلود إلى الراحة والسكون، والبعد عن المشاقِّ، ومجاهدة النفس بطول العبادة وكثر التهجد، ودراسة ءايات القرآن دراسة تفهم وتدبر؟ فانشط من مضجعك إذاً، واسهر معظم ليلك في مناجاة ربك، استعداداً لتحمل مشاق الدعوة، والتبشير بهذا الدين الجديد، ويا لها من لفتةٍ كريمة، تيقَّظَ لها قلبُ النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فشمَّر عن ساعة الجد والعمل، وقام بين يدي ربه حتى تشققت قدماه .. ثم بيَّن تعالى فضل إحياء الليل بالعبادة فقال {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أي إن ساعات الليل وأوقاته التي فيها التفرغ والصفاء، وما ينشئه المرء ويحدثه من طاعةٍ وعبادة، يقوم لها من مضجعه بعد هدأةٍ من الليل {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} أي هي أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار، لأن الليل جعل للنوم والراحة، فقيامه على النفس أشد وأثقل، ومن شأن هذه الممارسة الصعبة أن تقوّي النفوس، وتشد العزائم، وتصلب الأبدان، ولا ريب أن مصاولة الجاحدين أعداء الله تحتاج إلى نفوس قوية، وأبدان صلبة {وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي أثبتُ وأبينُ ، فهدوء الصوت في الليل، وسكون البشر فيه، أعون للنفس على التدبر والتفطن، والتأمل في أسرار القرآن ومقاصده {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً} أي إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً، واشتغالاً طويلاً في شؤونك، فاجعل ناشئة الليل لتهجدك وعبادتك، قال ابن جزي: السبحُ هنا عبارة عن التصرف في الأعمال والأشغال والمعنى: يكفيك النهار للتصرف في أشغالك، وتفرغ بالليل لعبادة ربك .. وبعد أن قرر الخطاب الإِلهي هذه المقدمات التي هي بمثابة تمهيدٍ وبساطٍ للدعوة،انتقل إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدعوة، وتعليمه كيفية السير فيها عملاً، بعد أن مهدها له نظراً فقال {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي استعن على دعوتك بذكر الله ليلاً ونهاراً، وانقطع إليه انقطاعاً تاماً في عبادتك وتوكلك عليه، ولا تعتمد في شأنٍ من شؤونك على غيره تعالى، قال ابن كثير: أي أكثر من ذكره وانقطع إليه جل وعلا، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك مع إخلاص العبادة له {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاً إِلَهَ إِلاً هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أي هو جل وعلا الخالق المتصرف بتدبير شؤون الخلق، وهو المالك لمشارق الأرض ومغاربها، لا إله غيره ولا ربِّ سواه، فاعتمد عليه وفوّض أمورك إليه {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي اصبر على أذى هؤلاء السفهاء المكذبين فيما يتقولونه عليك من قولهم: "ساحر، شاعر، مجنون" فإن الله ناصرك عليهم {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} أي اتركهم ولا تتعرض لهم بأذى ولا شتيمة، قال المفسرون: الهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه، ولا يشوبه أذى ولا شتم، وقد كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال كما قال سبحانه {وإذا رأيتَ الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم} ثم أُمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم وقتلهم، والحكمة في هذا أن المؤمنين كانوا قلة مستضعفين، فأمروا بالصبر وبالمجاهدة الليلية، حتى يُعدُّوا أنفسهم بهذه التربية الروحية على مناجزة الأعداء، وحتى يكثر عددهم فيقفوا في وجه الطغيان، أما قبل الوصول إلى هذه المرحلة فينبغي الصبر والاقتصار على الدعوة باللسان ..

    توعد الله لصناديد قريش

    {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً(11)إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا(12)وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(13)يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً(14)إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً(15)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً(16)فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا(17)السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً(18)}

    ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً صناديد قريش {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} أ ي دعني يا محمد وهؤلاء المكذبين بآياتي، أصحاب الغنى، والتنعم في الدنيا، والترف والبطر فأنا أكفيك شرهم، قال الصاوي: المعنى اتركني أنتقم منهم، ولا تشفع لهم، وهذا من مزيد التعظيم له صلى الله عليه وسلم، وإجلال قدره {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي وأمْهِلهمْ زمناً يسيراً حتى ينالوا العذاب الشديد، قال المفسرون: أمهلهم الله تعالى إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فلما خرج منها سلَّط عليهم السنين المجدبة وهو العذاب العام، ثم قتل صناديدهم ببدر وهو العذاب الخاص .. ثم وصف تعالى ما أعده لهم من العذاب في الآخرة فقال {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا} أي إنَّ لهم عندنا في الآخرة قيوداً عظيمة ثقيلة يقيدون بها، وناراً مستعرة هي نار الجحيم يحرقون بها، قال ابن جزي: الأنكال جمع نِكْل وهو القيد من الحديد، وروي أنها قيود سودٌ من نار {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} أي وطعاماً كريهاً غير سائغ، يغصُّ به الإِنسان وهو الزقوم والضريع، قال ابن عباس: شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا نزل {وَعَذَابًا أَلِيمًا} أي وعذاباً وجيعاً مؤلماً، زيادة على ما ذكر من النكال والأغلال .. ثم ذكر تعالى وقت هذا العذاب فقال {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} أي يوم تتزلزل الأرض وتهتز بمن عليها اهتزازاً عنيفاً شديداً هي وسائر الجبال، وذلك يوم القيامة {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً} أي وتصبح الجبال على صلابتها تلاً من الرمل سائلاً متناثراً، بعد أن كانت صلبة جامدة، قال ابن كثير: أي تصير الجبال ككثبان الرمل، بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تُنسف نسفاً فلا يبقى منها شيء إلا ذهب كقوله تعالى {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذرها قاعاً صفصفاً * لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} أي لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع .. ذكر تعالى العذاب المؤلم الذي أعده للمشركين، ومكانه وهو الجحيم، وآلاته وهي القيود وطعام الزقوم، ووقته وهو عند اضطراب الأرض وتزلزلها بمن عليها، وأراد بذلك تخويف المكذبين وتهديدهم بأنه تعالى سيعاقبهم بذلك كله، إن بقوا مستمرين في تكذيبهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم أعقبه بتذكيرهم بما حلَّ بالأمم الباغية التي قد خلت من قبلهم، وكيف عصت وتمردت فأنزل بها من أمره ما أنزل، وضرب لهم المثل بفرعون الجبار فقال {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} أي بعثنا لكم يا أهل مكة محمداً صلى الله عليه وسلم شاهداً على أعمالكم، يشهد عليكم بما صدر منكم من الكفر والعصيان {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} أي كما بعثنا إلى ذلك الطاغية فرعون الجبار، رسولاً من أولئك الرسل العظام "أولي العزم" وهو موسى بن عمران، قال الخازن: وإِنما خصَّ فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه وُلد فيهم، كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه ربَّاه {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أي فكذب فرعون بموسى ولم يؤمن به، وعصى أمره كما عصيتم يا معشر قريش محمداً صلى الله عليه وسلم وكذبتم برسالته {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً} أي فأهلكناه إهلاكاً شديداً فظيعاً، خارجاً عن حدود التصور، وذلك بإغراقه في البحر مع قومه، قال أبو السعود: وفي الآية التنبيه على أنه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأولئك لا محالة، و "الوبيلُ" الثقيل الغليظ من قولهم كلأٌ وبيل أي وخيم لا يستمرأ لثقله .. ويعد أن ذكر الله تعالى أخذه لفرعون، وأن ملكه وجبروته لم يدفعا عنه العذاب، عاد فذكَّر كفار مكة بالقيامة وأهوالها ليبيّن لهم أنهم لن يفلتوا من العذاب كما لم يفلت فرعون مما حدث له فقال {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} أي كيف لا تحذرون وتخافون يا معشر قريش عذاب يوم هائل إن كفرتم بالله ولم يؤمنوا به؟ وكيف تأمنون ذلك اليوم الرهيب الذي يشيب فيه الوليد من شدة هوله، وفظاعة أمره؟ قال الطبري: وإِنما تشيب الولدان من شدة هوله وكربه، وذلك حين يقول الله لآدم: أخرج من ذريتك بعث النار، من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون، فيشيب هنالك كل وليد .. ثم زاد في وصفه وهوْله فقال {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} أي السماء متشققة ومتصدّعة من هول ذلك اليوم الرهيب العصيب {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي كان وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم واقعاً لا محالة، لأن الله لا يخلف الميعاد.

    تذكير وإرشاد بأنواع الهداية

    {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(19)إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(20)}

    {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} أي إن هذه الآيات المخوّفة، التي فيها القوارع والزواجر، عظةٌ وعبرةٌ للناس {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي فمن شاء من الغافلين الناسين، أن يستفيد من هذه التذكرة قبل فوات الأوان، فليسلك طريقاً موصلاً إلى الرحمن، بالإِيمان والطاعة، فالأسبابُ ميسرة، والسبل معبَّدة، قال المفسرون: والغرض الحضُّ على الإِيمان وطاعة الله عز وجل، والترغيب في الأعمال الصالحة، لتبقى ذخراً في الآخرة .. ثم عادت الآيات الكريمة للحديث عمَّا بدأته في أول السورة من قيام الليل فقال تعالى {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أي إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم مع أصحابك للتهجد والعبادة أقل من ثلثي الليل، وتارة تقومون نصفه، وتارةً ثلثه كقوله تعالى {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي والله جل وعلا هو العالم بمقادير الليل والنهار، وأجزائهما وساعاتهما، لا يفوته علم ما تفعلون من قيام هذه الساعات في غلس الظلام ابتغاء رضوانه، وهو تعالى المدبّر لأمر الليل والنهار {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي علم تعالى أنكم لن تطيقوا قيام الليل كله ولا معظمه، فرحمكم ورجع عليكم بالتخفيف، قال الطبري: أي علم ربكم أن لن تطيقوا قيامه، فتاب عليكم بالتخفيف عليكم {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، وإنما عبَّر عن الصلاة بالقراءة، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، قال ابن عباس: سقط عن أصحاب رسول الله قيام الليل وصارت تطوعاً، وبقي ذلك فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم بين تعالى الحكمة في هذا التخفيف فقال {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} أي علم تعالى أنه سيوجد فيكم من يعجزه المرضُ عن قيام الليل، فخفف عنكم رحمة بكم {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي قوماً آخرين يسافرون في البلاد للتجارة، يطلبون الرزق وكسب المال الحلال {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي وقوم آخرون وهم الغزاة المجاهدون، يجاهدون في سبيل الله لإِعلاء كلمته ونشر دينه، وكل من هذه الفرق الثلاثة يشقُّ عليهم قيام الليل، فلذلك خفف الله عنهم .. ذكر تعالى في هذه الآية الأعذار التي تكون للعباد تمنعهم من قيام الليل، فمنها المرض، ومنها السفر للتجارة، ومنها الجهاد في سبيل الله، ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر من القرآن تأكيداً للتخفيف عنهم، قال الإِمام الفخر الرازي: أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشغولون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم، فلذلك خفف الله عنهم وصار وجوب التهجد منسوخاً في حقهم {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي فصلوا ما تيسَّر لكم من صلاة الليل، واقرؤوا في صلاتكم ما تيسر من القرآن {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي وأدوا الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، والزكاة الواجبة عليكم إلى مستحقيها، قال المفسرون: قلَّما يُذكر الأمر بالصلاة في القرآن، إلا ويُقرن معه الأمر بالزكاة، فإن الصلاة عماد الدين بين العبد وربه، والزكاة كذلك عماد الدين بينه وبين إخوانه، والصلاة أعظم العبادات البدنية، والزكاة أعظم العبادات المالية {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي تصدقوا في وجوه البر والإِحسان ابتغاء وجه الله، قال ابن عباس: يريد سائر الصدقات سوى الزكاة، من صلة الرحم، وقرى الضيف وغيرهما {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أيَّ شيء تفعلوه أيها الناس من وجوه البر والخير تلقوا أجره وثوابه عند ربكم {هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} أي تجدوا ذلك الأجر والثواب يوم القيامة خيراً لكم مما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال، فإن الدنيا فانية والآخرة باقية، وما عند الله خيرٌ للأبرار {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} أي اطلبوا مغفرة الله في جميع أحوالكم، فإن الإِنسان قلَّما يخلو من تقصير أو تفريط {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة .. ختم تعالى السورة بإرشاد المنفقين المحسنين، إلى أن يطلبوا من الله الصفح والعفو، إذ ربما كانوا لم يخلصوا النية في الإِنفاق، أو لم يحسنوا العمل في الإقراض، فيضعوا النفقة في غير مواضعها، أو ينفقوها فيما لهم فيه غرض وشهوة، وهو ختم يتناسق مع موضوع الإِنفاق، فسبحان منزل القرآن بأوضح بيان!!

     
  3. #113
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة المُدَّثِّر



    تكليف الرسول صلى الله عليه وسم بأعباء الدعوة ومهمة التبليغ

    قصة الوليد بن المغيرة والتشنيع عليه

    الحكمة من تخصيص عدد خزنة جهنم

    الحوار القائم بين أصحاب اليمين والمجرمين

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة المدثر مكية، شأنها كسابقتها - سورة المزمل - تتحدث عن بعض جوانب من شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولهذا سميت سورة المدَّثر.

    * ابتدأت السورة الكريمة بتكليف الرسول بالنهوض بأعباء الدعوة، والقيامة بمهمة التبليغ بجدٍ ونشاط، وإِنذار الكفار، والصبر على أذى الفجار، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه {يا أيها المدَّثِّر قم فأنْذرْ وربَّك فكبِّر وثيابك فطهِّر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبرْ}.

    * ثم توالت السورة تنذر وتهدد أولئك المجرمين، بيومٍ عصيب شديد لا راحة لهم فيه، لما فيه من الأهوال والشدائد {فإِذا نقر في الناقور فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين غير يسير}.

    * وبعد ذلك البيان الذي يرتعد له الإِنسان، تحدثت السورة عن قصة ذلك الشقي الفاجر "الوليد بن المغيرة" الذي سمع القرآن وعرف أنه كلام الله، ولكنه في سبيل الزعامة وحب الرئاسة زعم أنه من قبيل السحر الذي تعارفه البشر {ذرْني ومنْ خلقت وحيداً وجعلتُ له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهَّدتُ له تمهيداً ثم يطْمعُ أنْ أزيدَ كلاَّ إِنه كان لآياتنا عنيداً سأُرهِقُهُ صعُوداً إِنَّه فكَّر وقدَّر فَقُتِلَ كيفَ قدَّر .. إلى قوله تعالى: سأُصليهِ سَقَر}.

    * ثم تحدثت السورة عن النار التي أوعد الله بها الكفار، وعن خزنتها الأشداء، وزبانيتها الذين كلفوا بتعذيب أهلها، وعددهم والحكمة من تخصيص ذلك العدد {وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لوَّاحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنةً للذين كفروا ..} الآيات.

    * وأقسمت السورة بالقمر وضيائه، والصبح وبهائه، على أن جهنم إحدى البلايا العظام {كلا والقمر والليل إذْ أدْبر والصبح إذ أسفر إنها لإِحدى الكُبر نذيراً للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}.

    * ثم تحدثت السورة عن الحوار الذي يجري بين المؤمنين والمجرمين، في سبب دخولهم الجحيم {إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين} الآيات.

    * وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن الإِيمان {كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إِنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة}.

    تكليف الرسول صلى الله عليه وسم بأعباء الدعوة ومهمة التبليغ

    {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّك َ فَاصْبِرْ(7)فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8)فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9)عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)}

    سبب النزول :

    تقدم في سورة المزمل ما ملخصه: أخرج الشيخان عن جابر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري، نزلت، فاستنبطت الوادي، فنوديت، فرفعت رأسي، فإذا الملَك الذي جاءني بحراء، فرجعت، فقلت: دثروني. فأنزل الله: {يا أيها المدثر قم فأنذر}".

    {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} أي يا أيها المتغطي بقطيفته يريد النوم والراحة، قم من مضجعك قيام عزم وتصميم، وحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا، خوطب صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ "المدثر" مؤانسة له صلى الله عليه وسلم وتلطفاً، كما خوطب بلفظ {المزمل} في السورة السابقة، قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء فجاءه جبريل بالآيات الكريمة {اقرأ باسم ربك الذي خلق ..} الآيات وهي أول ما نزل عليه من القرآن، فرجع يرجف فؤاده فقال لخديجة: زملوني، زملوني فنزلت {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} الآيات ثم فتر الوحي فحزن صلى الله عليه وسلم فبينا هو يمشي سمع صوتاً من السماء، فرفع رأسه فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس علىكرسي بين السماء والأرض، فعراه صلى الله عليه وسلم من رؤيته الرعب والفزع، فجاء إلى أهله فقال: دثروني، دثروني فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} قال القرطبي: وفي هذا النداء ملاطفة في الخطاب، من الكريم إلى الحبيب، إذ ناداه بوصفه ولم يقل "يا محمد" ليستشعر اللين والملاطفة من ربه، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان يوم الخندق: "قم يا نومان" {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي عظم ربك، وخصه بالتمجيد والتقديس، وأفرده بالعظمة والكبرياء، فليس هناك من هو أكبر من الله، قال الألوسي: أي اخصص ربك بالتكبير، وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة، اعتقاداً وقولاً، وإنما ذكرت هذه الجملة بعد الأمر بالإِنذار، تنبيهاً للنبي صلى الله عليه وسلم على عدم الاكتراث بالكفار، فإن نواصي الخلائق بيد الجبار، فلا ينبغي أن يبالي الرسول بأحد من الخلق، ولا أن يرهب سوى الله، فإن كل كبير مقهور تحت عظمته تعالى وكبريائه {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي وثيابك فطهرها من النجاسات والمستقذرات، فإن المؤمن طيبٌ طاهر، لا يليق منه أن يحمل الخبيث، قال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه، وقال ابن عباس: كنَّى بالثياب عن القلب والمعنى وقلبك فطهر من الإِثم والمعاصي واستشهد بقول غيلان

    وإنــي بحمـــد اللـــه لا ثــوب فــاجر ليســــت ولا من غــدرة أتـقــنع

    يقول العرب: فلان طاهر الثياب أو نقي الثياب، يريدون وصفه بالنقاء من المعايب وذميم الصفات، ويقولون: فلان دنس الثياب إذا كان موصوفاً بالأخلاق الذميمة، قال الرازي: والسبب في حسن هذه الكناية، أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان، فلهذا السبب جعلوا الثوب كناية عن الإنسان، فقالوا: المجدُ في ثوبه، والعفة في إزاره {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي اترك عبادة الأصنام والأوثان ولا تقربها، قال ابن زيد: الرجز: الآلهة التي كانوا يعبدونها، فأمره أن يهجرها فلا يأتيها ولا يقربها، وقال الإمام الفخر الرازي: الرجز: اسم للقبيح المستقذر كالرجس قال تعالى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} وقوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} كلام جامع لمكارم الأخلاق، كأنه قيل له: اهجر الجفاء، والسفه، وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين، والمراد بالهجر الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما يقول المسلم: {اهدنا الصراط المستقيم} ليس معناه أنه ليس على الهداية، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أي ولا تعط الناس عطاء وتستكثره، لأن الكريم يستقل ما يعطي وإن كان كثيراً، واعط عطاء من لا يخاف الفقر، وقال ابن عباس: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها بمعنى: لا تعط شيئاً لتعطى أكثر منه، وسرُّ النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض تعففاً وكمالاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي اصبر على أذى قومك، ابتغاء وجه ربك .. ثم أخبر تعالى عن أهوال القيامة وشدائدها فقال: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} أي فإذا نفخ في الصور، نفخة البعث والنشور، وعبر عن النفخ وعن الصور، بالنقر في الناقور، لبيان هول الأمر وشدته، فإن النقر في كلام العرب معناه الصوت وإذا اشتد الصوت أصبح مفزعاً فكأنه يقول: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك، ولهذا قال بعده {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أي فذلك اليوم يوم شديد هائل، يشتد فيه الهول ويعسر الأمر عليهم، والإشارة بالبعيد {فَذَلِك} للإِيذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} أي هو عسير على الكافرين، غير هين ولا يسير عليهم، لأنهم يناقشون الحساب، وتسود وجوههم، ويحشرون زرقاً، ويفتضحون على رؤوس الأشهاد، قال الصاوي: ودلت الآية على أنه يسير على المؤمنين، لأنه قيد عسره بالكافرين، وفيها زيادة وعيد وغيظ للكافرين، وبشرى وتسلية للمؤمنين.

    قصة الوليد بن المغيرة والتشنيع عليه

    {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17)إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27)لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(28)لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(29)عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (11):

    {ذَرْني ..} أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً، لتتعرض لما قِبَله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فوالله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برَجَزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطِلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغْدِق، وإنه يعلو وما يُعْلَى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فقال: {هذا سحر يؤثر} يأثره عن غيره، فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيداً}.

    نزلت الآية (30):

    {عليها تسعة عشر}: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه ساعتئذ: {عليها تسعة عشر}.

    ثم أخبر عن قصة ذلك الشقي الكافر "الوليد بن المغيرة" وقوله التشنيع في القرآن فقال {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أي دعني يا محمد وهذا الشقي، الذي خلقته في بطن أُمه وحيداً فريداً، لا مال له ولا ولد، ولا حول له ولا مدد، ثم كفر بي وكذب بآياتي، قال المفسرون: نزلت في “الوليد بن المغيرة" كان من أكابر قريش، ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش، وقد أنعم الله عليه بنعم الدنيا من المال والبنين، وأغدق عليه الرزق فكان ماله كالنهر الدافق، وكان للوليد بستان في الطائف لا ينقطع ثمره صيفاً ولا شتاء، فكفر بأنعم الله وبدلها كفراً، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وفيه نزل {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} وهو أسلوب بليغ في التهديد، كما نزلت في الآيات المتقدمة في سورة نون، {ولا تطع كل حلاف مهين .. إلى .. سنسمه على الخرطوم} وهو الذي آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاد له، فإن صناديد قريش لما برموا برسول الله، وضاقت عليهم الحيل في إسكاته، وإطفاء نور دعوته، لجأوا إلى الوليد فأشار عليهم بأن يلقبوه صلى الله عليه وسلم بالساحر، ويأمروا عبيدهم وصبيانهم أن ينادوا بذلك في مكة، فجعلوا ينادون إن محمداً ساحر، فحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآيات الكريمة في معرض تهديده وتخويفه، ليكون ذلك أدعى للكسر من كبريائه ثم قال تعالى {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا} أي جعلت له المال الواسع المبسوط، من الإبل، والخيل، والغنم، والبساتين النضرة، قال البيضاوي: {مَمْدُودًا} أي مبسوطاً كثيراً، وكان له الزرع والضرع والتجارة، قال ابن عباس: كان ماله ممدوداً ما بين مكة والطائف، وقال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفاً {وَبَنِينَ شُهُودًا} أي وأولاداً مقيمين معه في بلده، يحضرون معه المحافل والمجامع، يستأنس بهم ولا يتنغَّص عيشه لفراقهم، قال المفسرون: كان له عشرة بنين لا يفارقونه سفراً ولا حضراً، وكان مستأنساً لا بهم وله بهم عز ومنعة، أسلم منهم ثلاثة "خالد، وهشام، والوليد" وبعد أن ذكر من مظاهر المال والبنين عاد فعمم الخيرات الدنيوية التي أنعم بها الله عليه فقال {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} أي بسطت بين يديه الدنيا بسطاً، ويسرت له تكاليف الحياة، ومظاهر الجاه والعز والسيادة، فكان في قريش عزيزاً منيعاً، وسيداً مطاعاً {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي ثم بعد هذا العطاء الجزيل يطمع أن أزيد له في ماله وولده وقد كفر بي، قال الفخر الرازي: لفظ {ثُمَّ} هنا للإنكار والتعجب، كما تقول لصاحبك: أنزلتك داري، وأطمعتك وأكرمتك ثم أنت تشتمني!! أي ومع كل هذا الإنعام والإكرام فقد كفر وجحد، وبدل أن يشكر الوليد لربه هذا الإحسان، ويقابله بالطاعة والإيمان، عكس الأمر وقابله بالجحود والكفران {كَلا} ردع وزجر أي ليرتدع هذا الفاجر الأثيم عن ذلك الطمع الفاسد، ثم علل ذلك بقوله {كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا} أي لأنه معاند للحق، جاحد بآيات الله، مكذب لرسوله، فكيف يطمع بالزيادة هذا الشقي العنيد؟ {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} أي سأكلفه وألجئه إلى عذاب صعب شاق لا يطاق، تضعف عنه قوته كما تضعف قوة من يصعد في الجبل، قال القرطبي: {صَعُودًا} صخرة ملساء يكلف صعودها، فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيهوي ألف عام قبل إن يبلغ قرارها وفي الحديث "الصعود جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً" {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أي إنه فكر في شأن النبي والقرآن، وأجال رأيه وذهنه الثاقب، ثم رتب وهيأ كلاماً في نفسه، ماذا يقول في القرآن؟ وبماذا يطعن فيه؟ قال تعالى دعاء عليه {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي قاتله الله وأخزاه على تلك الكلمة الحمقاء التي أجالها في نفسه، حيث قال عن القرآن، إنه سحر، وقال عن محمد إنه ساحر، وفي الآية استهزاء به وتهكم، حيث قدر ما يصلح تقديره، ولا يسوغ أن يقوله عاقل، قال أبو حيّان: يقول العرب عند استعظام الأمر والتعجب منه: قاتله الله، ومرادهم أنه بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعي عليه من حُسَّاده، والاستفهام في قوله {كَيْفَ قَدَّرَ}؟ في معنى ما أعجب تقديره وأغربه؟ كقولهم أي رجل هذا؟ أ ي ما أعظمه؟ {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} كرر العبارة تأكيداً لذمه وتقبيحاً لحاله، ولغاية التهكم به، كأنه قال: قاتله الله ما أروع تفكيره، وأبدع رأيه الحصيف؟ حيث قال عن القرآن إنه سحر يؤثر؟ قال المفسرون: مر الوليد بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويقرأ القرآن، فاستمع لقراءته وتأثر بها، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمداً آنفاً كلاماً، ما هو من كلام الإِنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: لقد صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها! فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جانب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟! فقال: كيف لا أحزن وهذه قريش تجمع لك مالاً ليعينوك به على كبر سنك، ويزعمون أنك زيَّنت كلام محمد وصبأت لتصيب من فضل طعامه، وتنال من ماله!! فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولداً؟! وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق؟ قالوا : اللهم لا، قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه كذباً قط؟ قالوا اللهم لا، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرِّق بين الرجل وأهله وولده، وما هذا الذي يقوله إلا سحر يؤثر، فذلك قوله تعالى {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} الآيات تركنا الوليد يفكر ويقدر، ولنرجع إليه لنرى ماذا فعل بعد، قال تعالى {ثُمَّ نَظَرَ} أي أجال النظر مرة أُخرى متفكراً في شأن القرآن {ثُمَّ عَبَسَ} أي ثم قطب وجهه وكلحه ضيقاً بما يقول {وَبَسَرَ} أي وزاد في القبض والكلوح، كالمهتم المتفكر في أمر يدبره، قال ابن جزي: البسور تقطيب الوجه وهو أشد من العبوس {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أي ثم أعرض عن الإِيمان، وتكبر عن اتباع الهدى والحق {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي فقال: ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقله ويرويه عن السحرة {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} أي ليس هذا كلام الله، وما هو إلا كلام المخلوقين، يخدع به محمد القلوب، ويؤثر فيها كما يؤثر السحر بالمسحور، قال الألوسي: هذا كالتأكيد للجملة الأولى، لأن المقصود منهما نفي كونه قرآناً أو من كلام الله تعالى، ولذلك لم يعطف عليها بالواو، وفي وصف إشكاله واستنباطه هذا القول السخيف استهزاء به، وإشارة إلى أنه عن الحق بمعزل، ويظهر من تتبع أحوال الوليد، أنه إنما قال ذلك عناداً وحمية جاهلية، لا جهلاً بحقيقة الحال، ألا ترى ثناءه على القرآن ونفيه عن جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون!! {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي سأدخله جهنم يتلظى حرها، ويذوق عذابها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}؟ استفهام للتهويل والتفظيع أي وما أعلمك أي شيء هو سقر؟ {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أي لا تبقي على شيء فيها إلا أهلكته، ولا تترك أحداً من الفجار إلا أحرقته، قال ابن عباس: لا تبقي من الدم والعظم واللحم شيئاً، فإذا أعيد خلقهم من جديد تعاود إحراقهم بأشد مما كانت وهكذا أبداً {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} أي تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة لعظمها وهولها كقوله تعالى {وبرزت الجحيم لمن يرى} قال الحسن: تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام حتى يروها عياناً فهي بارزة إلى أنظارهم، يرونها من غير استشراف ولا مدِّ أعناق {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي خزنتها الموكلون عليها تسعة عشر ملكاً من الزبانية الأشداء كقوله تعالى {عليها ملائكة غلاظٌ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} قال ابن عباس: "ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف انسان في قعر جهنم" قال الألوسي: روي عن ابن عباس أنها لما نزلت {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة - يعني محمداً - يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدَّهم - أي العدد - الشجعان، أفيعجز كل عشرةٍ منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأشداد الجمحي: - وكان شديد البطش - أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله.

    الحكمة من تخصيص عدد خزنة جهنم

    {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ(31)كَلا وَالْقَمَرِ(32)وَاللَّيْل ِ إِذْ أَدْبَرَ(33)وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ(34)إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ(35)نَذِيرًا لِلْبَشَرِ(36)لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37)}

    سبب النزول:

    نزول للآية (31):

    {وما جعلنا ..} : قال ابن إسحاق وقتادة: قال أبو جهل يوماً: يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عدداً، أفيعجز مئة رجل منكم عن رجل منهم، فأنزل الله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} الآية.

    وقال السُّدِّي: لما نزلت {عليها تسعة عشر} قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد بن كَلَدة الْجُمَحي - وكان شديد البطش -: يا معشر قريش لا يهولَنَّكم التسعة عشر، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، فأنزل الله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}.

    وفي رواية: أن الحارث بن كَلَدة قال: أن أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: {وماجعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي لم يجعلهم رجالاً تستطيعون مغالبتهم.

    {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} أي وما جعلنا خزنة النار إلا من الملائكة الغلاظ الشداد، ولم نجعلهم من البشر حتى يصارعوهم ويغالبوهم {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي لم نجعل ذلك العدد إلاَّ سبباً لفتنة وضلال المشركين، حيث استقلوا بعددهم واستهزؤوا حتى قال أبو جهل: أفيعجز كل مائةٍ منكم أن يبطشوا بواحدٍ منهم ثم تخرجون من النار؟ قال الطبري: وإِنما جعل الله الخبر عن عدد خزنة جهنم فتنةً للكافرين، لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم لأصحابه - على سبيل الاستهزاء - أنا أكفيكموهم {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي ليتيقن أهل الكتاب من صدق محمد، وأن هذا القرآن من عند الله، إِذ يجدون هذا العدد في كتبهم المنزَّلة {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} أي ويزداد المؤمنون تصديقاً لله ورسوله، بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم وتسليم أهل الكتاب لما جاء في القرآن موافقاً للتوراة والإِنجيل {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في عددهم، وهذا تأكيدٌ لما قبله لأنه لما ذكر اليقين نفى عنهم الشك، فكان قوله {ولا يرتاب} مبالغة وتأكيداً، وهو ما يسميه علماء البلاغة الإِطناب {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} أي وليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق والكافرون من أهل مكة: أيَّ شيء أراد الله بهذا القول العجيب، الذي هو مثل في الغرابة والبداعة؟ ولما يخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر؟ قال الرازي: إِثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي حصول الارتياب بعد ذلك، فالمقصود من إِعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل عقيبه البتة شك ولا ريب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب فإِنهم يستهزئون به ويضحكون منه، ولذلك بيَّن تعالى الغاية من ذكر هذا الخبر أوضح بيان {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي مثل ما أضلَّ الله أبا جهل وأصحابه، يضلُّ الله عن الهداية والإِيمان من أراد إِضلاله، ويهدي من أراد هدايته، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} أي وما يعلم عدد الملائكة، وقوتهم وضخامة خلقهم، وكثرتهم إِلا الله رب العالمين، وفي الآية ردٌّ على أبي جهل حين قال: أما لربِّ محمد أعوان إلاّ تسعة عشر؟ {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} أي وما هذه النار التي وصفها لكم الجبار، إلا موعظة وتذكرة للخلق ليخافوا ويطيعوا {كَلا وَالْقَمَرِ} {كَلا} كلمة ردع وزجر ثم أقسم تعالى بالقمر على أن سقر حق، والمعنى ليرتدع أولئك المستهزئون بالوحي والقرآن عن فعلهم وسوء صنيعهم، وأُقسم بالقمر {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} أي وأُقسم بالليل حين ولَّى بظلمته ذاهباً {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أي وبالصبح إِذا تبلَّج وأضاء، ونشر ضياءه على الأرجاء {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ} أي إِن جهنم لإِحدى الدواهي الكبيرة، والبلايا الخطيرة، فكيف يستهزئون بها ويكذبون؟ قال أبو حيان: أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها، وتنبيهاً على ما يظهر فيها من عجائب الله وقدرته، وقوام الوجود بإِيجادها، أقسم على أن جهنم إِحدى الدواهي العظيمة التي لا نظير لها - وفي الآية إِيماء إِلى أن الشمس والقمر مخلوقان لله، وأنهما في حركاتهما وإِدبارهما وإِسفارهما، ونشوء الليل والنهار عنهما، مسخران لأمره تعالى، ساجدان بين يدي قدرته وقهره، فكيف يحسن بالبشر أن يعبدوهما ويكفروا بالإِله الذي خلقهما؟ ثم قال تعالى عن جهنم {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} أي هي إِنذار للخلق ليتقوا ربهم {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} أي لمن أراد من العباد أن يتقرب إلى ربه بفعل الخيرات أو يتأخر بفعل الموبقات، قال أبو حيّان: والمراد بالتقدم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه كقوله تعالى {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} قال ابن عباس: من شاء اتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها بمعصيته.

    الحوار القائم بين أصحاب اليمين والمجرمين

    {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ(41)مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49)كَأَنَّهُم ْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50)فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51)بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً(52)كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ(53)كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54)فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(55)وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (52):

    {بل يريد ...}: أخرج ابن المنذر عن السُّدِّي قال: قالوا: لئن كان محمد صادقاً، فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار، فنزلت: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشَّرة}.

    وفي رواية: أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه: من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك.

    {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي كل نفس محبوسة بعملها، مرهونةٌ عند الله بكسبها، ولا تفك حتى تؤدي ما عليها من الحقوق والعقوبات {إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} أي إِلا فريق السعداء المؤمنين، فإِنهم فكوا رقابهم وخلَّصوها من السجن والعذاب، بالإِيمان وطاعة الرحمن {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أي هم في جناتٍ وبساتين لا يدرك وصفها، يسأل بعضهم بعضاً عن حال المجرمين الذين في النار، والسؤال لزيادة تبكيت أولئك المجرمين وتوبيخهم، وإِدخال الألم والحسرة على نفوسهم، يقولون لهم {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}؟ ما الذي أدخلكم جهنم، وجعلكم تذوقون سعيرها؟ قال في البحر: وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير، وإِلاّ فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أي قال المجرمون مجيبين للسائلين: لم نكن من المصلين في الدنيا لرب العالمين {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} أ ي ولم نكن نتصدق ونحسن إلى الفقراء والمساكين، قال ابن كثير: مرادهم في الآيتين: ما عبدنا ربنا، ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} أي وكنا نتحدث بالباطل مع أهل الغواية والضلالة، ونقع معهم فيما لا ينبغي من الأباطيل، قال ابن جزي: والخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي نكذب بيوم القيامة، وبالجزاء والمعاد، وإِنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيماً له، لأنه أعظم جرائمهم وأفحشها {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} أي حتى جاءنا الموت ونحن في تلك المنكرات والضلالات، قال تعالى معقباً على اعترافهم بتلك الجرائم {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي ليس لهم شافع ينقذهم من عذاب الله، ولو شفع لهم أهل الأرض ما قبلت شفاعتهم فيهم، قال ابن كثير: من كان متصفاً بمثل هذه الصفات، فإِنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه، لأن الشفاعة إِنما تنجع إِذا كان المحل قابلاً، فأما من وافى الله كافراً فإِنه مخلد في النار أبداً .. ولما ذكر تعالى قبائحهم وشنائعهم عاد بالتوبيخ والتقريع عليهم فقال {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}؟ فما لهؤلاء المشركين معرضين عن القرآن وآياته، وما فيه من المواعظ البليغة والنصائح والإِرشادات؟ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أي كأن هؤلاء الكفار حمر وحشية نافرة وشاردة {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي هربت ونفرت من الأسد من شدة الفزع، قال أبو حيّان: شبههم تعالى بالحمر النافرة مذمة لهم وتهجيناً، وقال ابن عباس: الحمر الوحشية إِذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون إِذا رأوا محمداً صلى الله عليه وسلم هربوا منه كما يهرب الحمار من الأسد ثم قال: والقسورة: الأسد {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} أي بل يطمع كل واحد من هؤلاء المجرمين أن ينزل عليه كتاب من الله كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يتنزَّل عليه الوحي كما تنزَّل على الرسل والأنبياء، والغرض من الآية بيان إِمعانهم في الضلالة وكأنه يقول: دع عنك ذكر إِعراضهم وغباوتهم ونفارهم نفار العجماوات مما فيه خيرهم وسعادتهم، واستمع لما هو أعجب وأغرب، وذلك طمع كل فردٍ منهم أن يكون رسولاً يوحي إليه، وهيهات أن يصل الأشقياء إلى مراتب الأنبياء، ثم قال تعالى {كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ} أي ليرتدعوا وينزجروا عن مثل ذلك الطمع، بل الحقيقة أنهم قوم لا يصدقون بالبعث والحساب، ولا يؤمنون بالنعيم والعذاب، وهذا هو الذي أفسدهم وجعلهم يعرضون عن مواعظ القرآن {كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} كرَّر الردع والزجر لهم بقوله {كَلا} ثم قال {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أي إِنَّ هذا القرآن موعظة بليغة، كافية لا تعاظهم لو أرادوا لأنفسهم السعادة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء اتعظ بما فيه، وانتفع بهداه {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي وما يتعظون به إِلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وترويح عن قلبه الشريف، مما كان يخامره من إِعراضهم وتكذيبهم له {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أي هو جل وعلا أهلٌ لأن يتقى لشدة عقابه، وأهل لأن يغفر الذنوب لكرمه وسعة رحمته، قال الألوسي: أي حقيقٌبأن يتقى عذابه ويطاع، وحقيقٌ بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه وفي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ثم قال "قال ربكم: أنا أهل أن أُتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إِلهاً فأنا أهلٌ أن أغفر له".

     
  4. #114
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة القيامة

    إثبات البعث والقسم بالنفس اللوامة

    حرص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم تفلت القرآن

    تفريط الكفار بالدنيا، وإحياء الموتى

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة القيامة مكية، وهي تعالج موضوع "البعث والجزاء" الذي هو أحد أركان الإِيمان، وتركّز بوجه خاص على القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، وعن حالة الإِنسان عند الاحتضار، وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب، ولذلك سميت سورة القيامة.

    * ابتدأت السورة الكريمة بالقَسَم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، على أن البعث حقٌ لا ريب فيه {لا أُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه؟ بلى قادرين على أن نسوي بنانه}.

    * ثم ذكرت طرفاً من علامات ذلك اليوم المهول، الذي يُخسف فيه القمر، ويتحير البصر، ويجمع فيه الخلائق والبشر للحساب والجزاء {فإذا برق البصرُ * وخَسفَ القمرُ * وجُمِع الشمسُ والقمرُ * يقول الإِنسانُ يومئذٍ أينَ المفرُّ ؟ كلا لا وَزَرَ * إلى ربك يومئذٍ المستَقَرُّ}.

    * وتحدثت السورة عن اهتمام الرسول بضبط القرآن عند تلاوة جبريل عليه السلام، فقد كان عليه السلام يجهد نفسه في متابعة جبريل، ويحرك لسانه معه ليسرع في حفظ ما يتلوه، فأمره تعالى أن يستمع للتلاوة ولا يحرك لسانه به {لا تُحركْ به لسانك لتعجلَ به * إِن علينا جمعه وقرآنه * فإِذا قرأناه فاتَّبعْ قرآنه * ثم إِن علينا بيانه}.

    * وذكرت السورة انقسام الناس في الآخرة إلى فريقين: سعداء وأشقياء، فالسعداء وجوههم مضيئة تتلألأ بالأنوار، ينظرون إلى الربّ جل وعلا، والأشقياء وجوههم مظلمة قاتمة يعلوها الذل والقترة {وجوهُ يومئذٍ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوهٌ يومئذٍ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة}.

    * ثم تحدثت السورة عن حال المرء وقت الاحتضار، حيث تكون الأهوال والشدائد، ويلقى الإِنسان من الكرب والضيق ما لم يكن في الحسبان {كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق؟ وظنَّ أنه الفراق * والتفَّتِ الساقُ بالساق * إلى ربك يومئذٍ المساق * فلا صدَّق ولا صلَّى * ولكن كذَّب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى ..}.

    * وختمت السورة الكريمة بإثبات الحشر والمعاد بالأدلة والبراهين العقلية {أيحسب الإِنسان أن يترك سُدى * ألم يك نطفةً من منيٍ يُمْنَى ؟ ثم كان علقةً فخلق فسوَّى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى} ؟

    إثبات البعث والقسم بالنفس اللوامة

    {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)أَيَحْسَب ُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ(3)بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ(4)بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ(5)يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ(6)فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ(7)وَخَسَفَ الْقَمَرُ(8)وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(9)يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ(10)كَلا لا وَزَرَ(11)إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ(12)يُنَبَّ أُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13)بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)}



    سبب النزول:

    نزول الآية (3 - 4):

    {أيحسب الإنسان ..}: روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أومن به، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها؟! فنزلت.

    {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي أقسم بيوم القيامة، يوم الحساب والجزاء {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} أي وأقسم بالنفس المؤمنة التقية، التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات، وفعل الموبقات، قال المفسرون: {لا} لتأكيد القسم، وقد اشتهر في كلام العرب زيادة {لا} قبل القسم لتأكيد الكلام، كأنه من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى قسم، وجوابُ القسم محذوف تقديره "لتبعثنَّ ولتحاسبنَّ" دل عليه قول {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}؟ .. أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهوله، وأقسم بالنفس التي تلوم صاحبها على التقصير في جنب الله، وتستغفر وتنيب مع طاعتها وإحسانها، قال الحسن البصري: هي نفس المؤمن، إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه: ماذا أردتُ بكلامي؟ وماذا أردتُ بعملي؟ وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، أي أيظن هذا الإِنسان الكافر، المكذب للبعث والنشور، أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟ قال المفسرون: نزلت هذه الآية في "عدي بن ربيعة" جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد: حدثني عن يوم القيامة، متى يكون؟ وكيف أمره؟ فأخبره رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن بك، كيف يجمع الله العظام؟ فنزلت هذه الآية، قال تعالى رداً عليه {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي بل نجمعها ونحن قادرون على أن نعيد أطراف أصابعه، التي هي أصغر أعضائه، وأدقها أجزاءً وألطفها التئاماً، فكيف بكبار العظام؟ وإنما ذكر تعالى البنان - وهي رءوس الأصابع - لما فيها من غرابة الوضع، ودقة الصنع، لأن الخطوط والتجاويف الدقيقة التي في أطراف أصابع إنسان، لا تماثلها خطوطٌ أُخرى في أصابع شخص آخر على وجه الأرض، ولذلك يعتمدون على بصمات الأصابع في تحقيق شخصية الإِنسان في هذا العصر {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أي بل يريد الإِنسان بهذا الإِنكار أن يستمر على الفجور، ويقدم على الشهوات والآثام، دون وازع من خُلُق أو دين، وينطلق كالحيوان ليس له همٌ إلا نيل شهواته البهيمية، ولذلك ينكر القيامة ويكذب بها {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أي يسأل هذا الكافر الفاجر - على سبيل الاستهزاء والتكذيب - متى يكون هذا اليوم يوم القيامة؟ قال الرازي: والسؤال هنا سؤال متعنت ومستبعد لقيام الساعة، ونظيره {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}؟ ولذلك ينكر المعاد ويكذب بالبعث والنشور، والغرض من الآية {ليفجر أمامه} إنَّ الإِنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات، والاستكثار من اللذات، لا يكاد يُقر بالحشر والنشر، وبعث الأموات، لئلا تتنغص عليه اللذات الجسمانية، فيكون أبداً منكراً لذلك، قائلاً على سبيل الهزء والسخرية: أَيَّان يومُ القيامة، قال تعالى رداً على هؤلاء المنكرين {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} أي فإذا زاغ البصر وتحيَّر، وانبهر من شدة الأهوال والمخاطر {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي ذهب ضوءه وأظلم {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي جمع بينهما يوم القيامة، وأُلقيا في النار ليكونا عذاباً على الكفار، قال عطاء: يجمعان يوم القيامة ثم يُقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي يقول الفاجر الكافر في ذلك اليوم: أين المهرب؟ وأين الفرار والمنجى من هذه الكارثة الداهية؟ يقول قول الآيس، لعلمه بأنه لا فرار حينئذٍ {كَلا لا وَزَرَ} ردعٌ له عن طلب الفرار، أي ليرتدع وينزجر عن ذلك القول، فلا ملجأ له، ولا مغيث من عذاب الله {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أي إلى الله وحده مصير ومرجع الخلائق، قال الألوسي: إليه جل وعلا وحده استقرار العباد، لا ملجأ ولا منجى لهم غيره ... والمقصود من الآيات بيان أهوال الآخرة العظيمة، والإِنسان يطيش عقله، ويذهب رشده، ويبحث عن النجاة والمخلص، ولكن هيهات فقد جاءت القيامة وانتهت الحياة {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أي يُخبر الإِنسان في ذلك اليوم بجميع أعماله، صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها، ما قدَّمه منها في حياته، وما أخره بعد مماته، من سنةٍ حسنة أو سيئة، ومن سمعة طيبةٍ أو قبيحة، وفي الحديث (من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أي بل هو شاهد على نفسه، وسوء عمله، وقبح صنيعه، لا يحتاج إلى شاهد آخر كقوله {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} والهاءُ في {بَصِيرَةٌ} للمبالغة كراوية وعلاَّمة، قال ابن عباس: الإِنسان شاهد على نفسه وحده، يشهد عليه سمعُه، وبصره، ورجلاه، وجوارحه {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي ولو جاء بكل معذرة ليبرِّر إجرامه وفجوره، فإنه لا ينفعه ذلك، لأنه شاهدٌ على نفسه، وحجةٌ بينة عليها، قال الفخر الرازي: المعنى أن الإِنسان وإن اعتذر عن نفسه، وجادل عنها، وأتى بكل عذر وحجة، فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه بما جنت واقترفت من الموبقات.

    حرص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم تفلت القرآن

    {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ(20)وَتَذَرُو نَ الآخِرَةَ(21)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ(24)تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ(25)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (16):

    {لا تحرِّك به لسانك ..}: أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل الوحي، يحرِّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} الآية.

    وبعد هذا البيان انتقل الحديث إلى القرآن، وطريقة تلقي الوحي عن جبريل فقال تعالى مخاطباً رسوله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي عليك بواسطة جبريل، لأجل أن تتعجل بحفظه مخافة أن يتفلَّت منك {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي إن علينا أن نجمعه في صدرك يا محمد وأن تحفظه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي فإِذا قرأه عليك جبريل، فأنصت لاستماعه حتى يفرغ، ولا تحرك شفتيك أثناء قراءته {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي ثم إن علينا بيان ما أشكل عليك فهمه يا محمد من معانيه وأحكامه، قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج في التنزيل شدة، فكان يحرك به لسانه وشفتيه، مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ..} الآيات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق واستمعْ وأَنصت قال: أن نبينه بلسانك وقال ابن كثير: كان صلى الله عليه وسلم يبادر إلى أخذ القرآن، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن يبينه له ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوتُه، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه ثم عاد الحديث عن المكذبين بيوم الدين فقال تعالى مخاطباً كفار مكة {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} أي ارتدعوا يا معشر المشركين، فليس الأمر كما زعمتم أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء، بل أنتم قومٌ تحبون الدنيا الفانية، وتتركون الآخرة الباقية، ولذلك لا تفكرون في العمل للآخرة ومسراتها الباقية، وصف ما يكون يوم القيامة من انقسام الخلق إلى فريقين: أبرار، وفجار والمعنى وجوه أهل السعادة يوم القيامة مشرقة حسنة مضيئة، من أثر النعيم، وبشاشة السروة عليها، كقوله تعالى {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلى ربِّها ناظِرة} أي تنظر إلى جلال ربها، وتهيم في جماله، أعظم نعيم لأهل الجنة رؤية المولى جل وعلا والنظر إلى وجهه الكريم بلا حجاب، قال الحسن البصري: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وبذلك وردت النصوص الصحيحة {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} أي ووجوهٌ يوم القيامة عابسة كالحة، شديدة العبوس والكلوح، وهي وجوه الأشقياء أهل الجحيم {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} أي تتوقع أن تتنزل بها داهية عظمى، تقصم فقار الظهر، قال ابن كثير: هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة كالحة عابسة، تستيقن أنها هالكة، وتتوقع أن تحل بها داهية تكسر فقار الظهر.

    تفريط الكفار بالدنيا، وإحياء الموتى

    {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي(26)وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ(27)وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ(28)وَالْتَفَّت ِ السَّاقُ بِالسَّاقِ(29)إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ(30)فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى(31)وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(32)ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى(33)أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(34)ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(35)أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37)ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38)فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى(39)أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى(40)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (34، 35):

    {أولى لك فأولى ..}: أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {عليها تسعة عشر} [المدثر: 30] قال أبو جهل لقريش: ثكلِتكم أمهاتُكم، يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدَّهم (العدد) والشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فأوحى الله تعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي أبا جهل، فيقول له: {أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى}.

    {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي} {كَلا} ردعٌ وزجر عن إيثار العاجلة أي ارتدعوا يا معشر المشركين عن ذلك، وتنبهوا لما بين أيديكم من الأهوال والمخاطر، فإن الدنيا دار الفناء، ولا بد أن تتجرعوا كأس المنية، وإذا بلغت الروح {التَّرَاقِي} أعالي الصدر، وشارف الإِنسان عل الموت {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي وقال أهله وأقرباؤه: من يرقيه ويشفيه ممَّا هو فيه؟ قال أبو حيّان: ذكَّرهم تعالى بصعوبة الموت، وهو أول مراحل الآخرة، حين تبلغ الروح التراقي - وهي عظام أعلى الصدر - فقال أهله: من يرقي ويطب ويشفي هذا المريض؟ {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} أي وأيقن المحتضر أنه سيفارق الدنيا والأهل والمال، لمعاينته ملائكة الموت {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي والتفت إحدى ساقي المحتضر على الأخرى، من شدة كرب الموت وسكراته، قال الحسن: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن، وروي عن ابن عباس أن المراد اجتمعت عليه شدة مفارقة الدنيا، مع شدة الموت وكربه، فيكون ذلك من باب التمثيل للأمر الهائل العظيم، حيث يلتقي عليه شدة كرب الدنيا، مع شدة كرب الآخرة، كما يقال: شمَّرت الحرب عن ساق، استعارة لشدتها {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أي إِلى الله جل وعلا مساق العباد، يجتمع عنده الأبرار والفجار، ثم يُساقون إلى الجنة أو النار، قال الخازن: أي مرجع العباد إلى الله تعالى، يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم .. ثم أخبر تعالى عن حال الجاحد المكذب فقال {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} أي لم يصدق بالقرآن، ولم يصل للرحمن، قال أبو حيان: والجمهور على أنها نزلت في "أبي جهل" وكادت أن تصرح به في قوله {يَتَمَطَّى} فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم، وكان يكثر منها {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي ولكن كذب بالقرآن، وأعرض عن الإِيمان {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي ذهب يتبختر في مشيته، وذلك عبارة عن التكبر والخيلاء {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} أي ويلٌ لك يا أيها الشقي ثم ويلٌ لك، قال المفسرون: هذه العبارة في لغة العرب ذهبت مذهب المثل في التخويف والتحذير والتهديد، وأصلها أنها أفعل تفضيل من وليه الشيء إذا قاربه ودنا منه أي وليّك الشر وأوشك أن يصيبك، فاحذر وانتبه لأمرك... روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال أبو جهل: أتتوعدني يا محمد وتهددني؟ والله لا تستطيع أنتَ وربُك أن تفعلا بي شيئاً، والله إني لأعزُّ أهل الوادي، ثم لم يلبث أن قتل ببدر شر قتلة {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} كرره مبالغة في التهديد والوعيد، كأنه يقول: إني أكرر عليك التحذير والتخويف، فاحذر وانتبه لنفسك، قبل نزول العقوبة بك .. ولما ذكر في أول السورة إمكان البعث، ذكر في آخر السورة الأدلة على البعث والنشور فقال {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}؟ أي أفيظن الإِنسان أن يُترك هملاً، من غير بعثٍ ولا حساب ولا جزاءٍ؟ وبدون تكليف بحيث يبقى كالبهائم المرسلة؟ لا ينبغي له ولا يليق به هذا الحُسبان {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} الاستفهام للتقرير أي أما كان هذا الإِنسان نطفة ضعيفة من ماءٍ مهين، يراق ويُصب في الأرحام؟ والغرض بيان حقارة حاله كأنه يقول إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى البول {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} أي ثم أصبح بعد ذلك قطعة من دم غليظ متجمد يشبه العلقة، فخلقه الله بقدرته في أجمل صورة، وسوَّى صورته وأتقنها في أحسن تقويم {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} أي فجعل من هذا الإِنسان صنفين: ذكراً وأنثى بقدرته تعالى، هذا هو أصل الإِنسان وتركيبه، فكيف يليق بمثل هذا الضعيف أن يتكبر على طاعة الله؟ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي أليس ذلك الإِله الخالق الحكيم، الذي أنشأ هذه الأشياء العجيبة، وأوجد الإِنسان من ماءٍ مهين، بقادرٍ على إعادة الخلق بعد فنائهم؟ بل إنه على كل شيء قدير روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحانك اللهم بلى".

     
  5. #115
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة الإنسان



    خلق الإنسان وهدايته السبيل

    ما أعده الله للأبرار والفجار في دار القرار

    وصف نعيم أهل الجنة

    حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع المعاندين من قومه

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة الدهر من السور المدنية، وهي تعالج أموراً تتعلق بالآخرة، وبوجه خاص تتحدث عن نعيم المتقين الأبرار، في دار الخلد والإِقامة في جنات النعيم، ويكاد يكون جوُّ السورة هو جو السور المكية لإِيحاءاتها وأسلوبها ومواضيعها المتنوعة.

    * ابتدأت السورة الكريمة ببيان قدرة الله في خلق الإِنسان في أطوار، وتهيئته ليقوم بما كلف به من أنواع العبادة، حيث جعل الله تعالى له السمع والبصر وسائر الحواس {هل أتى الإِنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً * إِنا خلقنا الإِنسان من نطفةٍ أمشاجِ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً}.

    * ثم تحدثت عن النعيم الذي أعده الله في الآخرة لأهل الجنة {إنَّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً * عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً}.

    * ثم ذكرت أوصاف هؤلاء السعداء بشيء من الإِسهاب، فوصفتهم بالوفاء بالنذر، وإِطعام الفقراء ابتغاء مرضاة الله، والخوف من عذاب الله، وذكر أنَّ الله تعالى قد آمنهم من ذلك اليوم العبوس الذي تكلح فيه الوجوه {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً * ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إِنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً} الآيات.

    * وأشادت - بعد ذكر أوصافهم - بما لهم عند الله من الأجر والكرامة في دار الإِقامة، وبما حباهم الله من الفضل والنعيم يوم الدين {وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً * متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً * ودانيةً عليها ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً}.

    * وتتابعت السورة في سرد نعيم أهل الجنة في مأكلهم، ومشربهم، وملبسهم، وخدمهم الذين يطوفون عليهم صباح مساء {ويطاف عليهم بآنيةٍ من فضة وأكواب كانت قواريرا * قوارير من فضة قدَّروها تقديراً * ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً * عيناً فيها تسمى سلسبيلاً * ويطوف عليهم ولدانٌ مخلدون إِذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً}.

    * وختمت السورة الكريمة ببيان أن هذا القرآن تذكرة لمن كان له قلبٌ يعي، أو فكر ثاقب يستضيء بنوره {إِن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إِلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إِلا أن يشاء الله إِن الله كان عليماً حكيماً * يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً}.

    خلق الإنسان وهدايته السبيل

    {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2)إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)}.

    {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} أي قد مضى على الإِنسان وقت طويل من الزمان {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} أي كان في العدم، لم يكن له ذكر ولا وجود، قال ابن كثير: يخبر تعالى عن الإِنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر لحقارته وضعفه، قال المفسرون: {هَلْ أَتَى} بمعنى قد أتى كما تقول: هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه، وتقول: هل أكرمتك، هل وعظتك؟ ومقصودك أن تقرره بأنك قد أكرمته ووعظته، والمرادُ بالإِنسان الجنس، وبالحين مدة لبثه في بطن أمه، والغرض من الآية تذكير الإِنسان بأصل نشأته، فقد كان شيئاً منسياً لا يفطن له، وكان في العدم جرثومة في صلب أبيه، وماءً مهيناً لا يعلم به إِلا الذي يريد أن يخلقه، ومرَّ عليه حينٌ من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه، ثم خلقه الله، وأبدع تكوينه وإنشاءه، بعد أن كان مغموراً ومنسياً لا يعلم به أحد .. وبعد أن قرر أن الإِنسان مرَّ عليه وقت لم يكن موجوداً، أخذ يشرح كيف أفاض عليه نعمة الوجود، واختبره بالتكاليف الشرعية بعد أن متَّعه بنعمة العقل والحواس فقال {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي نحن بقدرتنا خلقنا هذه الانسان من ماءٍ مهين - وهي المنيُّ - الذي ينطف من صلب الرجل، ويختلط بماء المرأة "البويضة الأنثوية" فيتكون منهما هذا المخلوق العجيب، قال ابن عباس: {أَمْشَاجٍ} يعني أخلاط، وهو ماء الرجل وماء المرأة اذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، ومن حال إِلى حال {نَبْتَلِيهِ} أي لنختبره بالتكاليف الشرعية، والأوامر الإِلهية، لننظر أيشكر أم يكفر؟ وهل يستقيم في سيره أم ينحرف ويزيغ؟ {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} أي فجعلناه من أجل ذلك عاقلاً مميزاً، ذا سمع وبصر، ليسمع الآيات التنزيلية، ويبصر الدلائل الكونية، على وجود الخالق الحكيم، قال الإِمام الفخر الرازي: أعطاه تعالى ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكياً عن إِبراهيم {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر }؟ وقد يراد بهما الحاستان المعروفتان، وخصَّهما بالذكر لأنهما أعظم الحواسِّ وأشرفها {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بيَّنا للإِنسان وعرَّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر، ببعثة الرسل، وإِنزال الكتب .. أخبر تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة، بيَّن له سبيل الهدى والضلال، ومنحه العقل وترك له حرية الاختيار، ثم هو بعد ذلك إِما أن يشكر، أو يكفر، ولهذا قال بعده {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} أي إِما أن يكون مؤمناً شاكراً لنعمة الله، فيسلك سبيل الخير والطاعة، وإِما أن يكون شقياً فاجراً، فيكفر بنعمة الله ويسلك سبيل الشر والفجور، قال المفسرون: المراد هديناه السبيل ليكون إِمَّا شاكراً وإِمّا كفوراً، فالله تعالى دلَّ الإِنسان على سبيل الشكر والكفر، وعلى الإِنسان أن يختار سلوك هذا أو ذاك، وهذه الآية من جملة الآيات الكثيرة الدالة على أن للإِنسان إِرادةً واختياراً هما مناط التكليف، كقوله تعالى {من كانَ يريد العاجلة عجَّلنا له فيها ما نشاء} إِلى {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} وكقوله {وقُل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} فلا إِكراه لأحدٍ ولا إِجبار، وإِنما هو بمحض الإِرادة والاختيار.

    ما أعده الله للأبرار والفجار في دار القرار

    {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا(4)إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا(6)يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7)وَيُطْعِمُ ونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا(9)إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(10)فَوَقَاهُ مُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(11)وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا(12)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (8):

    {ويطمعون الطعام ..}: أخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله: {وأسيراً} قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأسر أهل الإسلام، ولكنها نزلت في أسارى أهل الشرك، كانوا يأسرونهم في العذاب، فنزلت فيهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالإصلاح إليهم.

    ثم بعد هذا البيان الواضح، بيَّن ما أعدَّه للأبرار والفجار في دار القرار فقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا} أي هيأنا للكافرين المجرمين قيوداً تشدُّ بها أرجلهم، وأغلالاً تُغلُّ بها أيديهم إلى أعناقهم، وسعيراً أي ناراً موقدة مستعرة يحرقون بها كقوله تعالى {إذِ الأغلال في أعناقهم والسَّلاسل يسبحون * في الحميم ثمَّ في النار يُسجرون} {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} أي الذين كانوا في الدنيا أبراراً بطاعتهم الله تعالى، فإِنهم يشربون كأساً من الخمر، ممزوجة بأنفس أنواع الطيب وهو الكافور، قال المفسرون: الكافور طيبٌ معروف يستحضر من أشجار ببلاد الهند والصين، وهو من أنفس أنواع الطيب عند العرب، والمراد أن من شرب تلك الكأس وجدها في طيب رائحتها، وفوحان شذاها كالكافور، قال ابن عباس: الكافور اسم عين ماءٍ في الجنة يقال له عين الكافور تمتزج الكأس بماء هذه العين وتختم بالمسك فتكون ألذَّ شراب، ولهذا قال تعالى {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } أي هذا الكافور يتدفق من عينٍ جارية من عيون الجنة يشرب منها عباد الله الأبرار، وصفهم بالعبودية تكريماً لهم وتشريفاً بإِضافتهم إِليه تعالى {عِبَادُ اللَّهِ} والمراد بهم المؤمنون المتقون {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} أي يجرونها حيث شاؤوا من الدور والقصور، قال الصاوي: المراد أنها سهلة لا تمتنع عليهم، ورد أن الرجل منهم يمشي في بيوته، ويصعد إِلى قصوره وبيده قضيب يشير به إلى الماء، فيجري معه حيثما دار في منازله، ويتبعه حيثما صعد إِلى أعلى قصوره.. ولمّا ذكر ثواب الأبرار، بيَّن صفاتهم الجليلة التي استحقوا بها ذلك الأجر الجزيل فقال {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي يوفون بما قطعوه على أنفسهم من نذرٍ في طاعة الله، إِذا نذروا طاعةً فعلوها، قال الطبري: النذرُ كلُّ ما أوجبه الإِنسان على نفسه من فعل، فإِذا نذروا بروا بوفائهم لله، بالنذور التي في طاعة الله، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، قال المفسرون: وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه، كان بما أوجبه الله عليه أوفى {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} أي ويخافون هول يومِ عظيم كانت أهواله وشدائده - من تفطر السماوات، وتناثر الكواكب، وتطاير الجبال، وغير ذلك من الأهوال - ممتدة منتشرة فاشية، بالغة أقصى حدود الشدة والفزع، قال قتادة: استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى بلغ السماوات والأرض {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} أي ويطعمون الطعام مع شهوتهم له، وحاجتهم إِليه {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} أي فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ويتيماً مات أبوه وهو صغير، فعدم الناصر والكفيل، وأسيراً من أُسر في الحرب من المشركين، قال الحسن البصري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤتى بالأسير، فيدفعه إِلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه .. نبّه تعالى إِل أن أولئك الأبرار مع حاجتهم إِلى ذلك الطعام، في سدّ جوعتهم وجوعة عيالهم، يطيبون نفساً عنه للبؤساء، ويؤثرونهم به على أنفسهم كقوله تعالى {ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي إنما نحسن إِليكم ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} أي لا نبتغي من وراء هذا الإِحسان مكافأةً، ولا نقصد الحمد والثناء منكم، قال مجاهد: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به، ليرغب في ذلك راغب {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} أي إِنما نفعل ذلك رجاء أن يقينا الله هول يومٍ شديد، تعبس فيه الوجوه من فظاعة أمره، وشدة هوله، وهو يومٌ قمطرير أي شديد عصيب {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} أي حماهم الله ودفع عنهم شرَّ ذلك اليوم وشدته {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} أي وأعطاهم نضرةً في الوجه، وسروراً في القلب، والتنكير في {سُرُورًا} للتعظيم والتفخيم {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} أي وأثابهم بسبب صبرهم على مرارة الطاعة والإِيثار بالمال، جنةً واسعة وألبسهم فيها الحرير كما قال تعالى {ولباسهم فيها حرير} .. وفي الآية إِيجازٌ، آخذٌ بأطراف الإِعجاز، فقد أشار تعالى بقوله {جَنَّةً} إلى ما يتمتع به أولئك الأبرار في دار الكرامة من أصناف الفواكه والثمار، والمطاعم والمشارب الهنية، فإِن الجنة لا تسمَّى جنة إِلا وفيها كل أسباب الراحة كما قال تعالى {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} وأشار بقوله {وَحَرِيرًا} إلى ما يتمتعون به من أنواع الزينة واللباس، التي من أنفسها وأغلاها عند العرب الحرير، فقد جمع لهم أنواع الطعام والشراب واللباس، وهو قُصارى ما تتطلع له نفوس الناس.

    وصف نعيم أهل الجنة

    {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا(13)وَدَانِيَ ةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً(14)وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ(15)قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا(16)وَيُسْقَوْن َ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً(17)عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً(18)وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا(19)وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا(20)عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا(21)إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا(22)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (20):

    {وإذا رأيت ثَمَّ ..}: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النّبي صلى الله عليه وسلم، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثَّر في جنبه، فبكى عمر، فقال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت كسرى ومُلْكه، وهُرْمز، وصاحب الحبَشة ومُلْكه، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فأنزل الله تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً ومُلْكاً كبيراً}.

    ولما ذكر طعامهم ولباسهم وصف نعيمهم ومساكنهم فقال {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} أي مضطجعين في الجنة على الأسرَّة المزيَّنة بفاخر الثياب والستور، قال المفسرون: الأرائك جمع أريكة وهي السرير ترخى عليه الحجلة، والحجلة هي ما يسدل على السرير من فاخر الثياب والستور، وإِنما خصُّهم بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} أي لا يجدون فيها حراً ولا برداً، لأن هواءها معتدل فلا حرَّ ولا قرَّ، وإِنما هي نسمات تهبُّ من العرش تحيي الأنفاس {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} أي ظلال الأشجار في الجنة قريبةٌ من الأبرار {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي أدنيت ثمارها منهم، وسهل عليهم تناولها، قال ابن عباس: إِذا همَّ أن يتناول من ثمارها تدلَّت إِليه حتى يتناول منها ما يريد .. ولما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم، وصف بعد ذلك شرابهم فقال {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} أي يدور عليهم الخدم بالأواني الفضية فيها الطعام والشراب - على عادة أهل الترف والنعيم في الدنيا - فيتناول كل واحدٍ منهم حاجته، وهذه الأواني هي الصّحاف بعضها من فضة وبعضها من ذهب كما قال تعالى {يطاف عليهم بصحاف من ذهب} قال الرازي: ولا منافاة بين الآيتين، فتارةً يسقون بهذا، وتارة بذاك {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} أي وأكواب - وهي كالأقداح - رقيقة شفافة كالزجاج في صفائه، قال أبو حيّان: ومعنى {كانت} أن الله تعالى أوجدها بقدرته، فيكون تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها، وشفيف القوارير وصفائها {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي هي جامعة بين صفاء الزجاج، وحسن الفضة، قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إِلا الأسماء - يعني أن ما في الجنة أسمى وأشرف وأعلى - ولو أخذت فضةً من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها، ولكنَّ قوارير الجنة ببياض الفضة، مع صفاء القوارير {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} أي قدَّرها السُّقاة على مقدار حاجتهم، لا تزيد ولا تنقص، وذلك ألذُّ وأشهى، قال ابن عباس: أتوا بها على قدر الحاجة لا يفضلون شيئاً، ولا يشتهون بعدها شيئاً {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} أي يسقى هؤلاء الأبرار في الجنة كأساً من الخمر ممزوجةً بالزنجبيل، والعرب تستلذ من الشراب ما مزج بالزنجبيل لطيب رائحته، قال القرطبي: فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب، قال قتادة: الزنجبيل اسمٌ لعينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} أي يشربون من عين في الجنة تسمى السلسبيل، لسهولة مساغها وانحدارها في الحلق، قال المفسرون: السلسبيل: الماء العذب، السهل الجريان في الحلق لعذوبته وصفائه، وإِنما وصف بأنه سلسبيل، لأن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، ولكن ليس فيه لذعته، فيشعر الشاربون بطعمه، لكنهم لا يشعرون بحرافته، فيبقى الشراب سلسبيلاً، سهل المساغ في الحلق .. ثم وصف بعد ذلك خدم أهل الجنة فقال {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي ويدور على هؤلاء الأبرار، غلمانٌ ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين {مُخَلَّدُون} أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء، قال القرطبي: أي باقون على ما هم عليه من الشباب، والنضارة، والغضاضة، والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مرِّ الأزمنة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} أي إِذا نظرتهم منتشرين في الجنة لخدمة أهلها، خلتهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإِشراق وجوهم، كأنهم اللؤلؤ المنثور، قال الرازي: هذا من التشبيه العجيب، لأن اللؤلؤ إِذ كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر، لوقوع شعاع بعضه على بعض فيكون أروع وأبدع {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} أي وإِذا رأيت هناك ما في الجنة من مظاهر الأنس والسرور، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف، وملكاً واسعاً عظيماً لا غاية له، كما في الحديث القدسي (أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطَر على قلب بشر) قال ابن كثير: وثبت في الصحيح أن (أقل أهل الجنة منزلةً من له قدر الدنيا وعشرة أمثالها) فإِذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بمن هو أعلى منزلةً وأحظى عنده تعالى؟ ثم زاد تعالى في بيان وصف نعيمهم فقال {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} أي تعلوهم الثياب الفاخرة الخضراء، المزينة بأنواع الزينة، من الحرير الرقيق - وهو السندس - والحرير الثخين وهو - الاستبرق - فلباسهم في الجنة الحرير كما قال تعالى {ولباسهم فيها حرير} قال المفسرون: السندس ما رقَّ من الحرير، والاستبرق ما غلظ من الحرير، وهذا لباس الأبرار في الجنة، وإِنما قال {عَالِيَهُم} لينبه على أن لهم عدة من الثياب، ولكنَّ الذي يعلوها هي هذه، فتكون أفضلها {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي وألبسوا في الجنة أساور فضية للزينة والحلية وعبَّر بالماضي إِشارةً لتحقق وقوعه، قال الصاوي: فإِن قيل: كيف قال هنا {أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وفي سورة الكهف {يحلون فيها من أساور من ذهب} وفي سورة فاطر {يحلون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤاً} فالجواب أنهم تارةً يلبسون الذهب فقط، وتارةً يلبسون الفضة، وتارة يلبسون اللؤلؤ فقط على حسب ما يشتهون، ويمكن أن يجمع في يد أحدهم أسورة الذهب والفضة واللؤلؤ {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} أ ي سقاهم الله - فوق ذلك النعيم - شراباً طاهراً لم تدنسه الأيدي، وليس بنجس كخمر الدنيا، قال الطبري: سُقي هؤلاء الأبرار شراباً طهوراً، ومن طُهْره أنه لا يصير بولاً نجساً، بل رشحاً من أبدانهم كرشح المسك، روي أن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا، فإِذا أكل سقي شراباً طهوراً، فيصير رشحاً يخرج من جلده أطيبُ ريحاً من المسك الإِذخر {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} أي يقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم نعيمها: هذا مقابل أعمالكم الصالحة في الدنيا {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} أي وكان عملكم مقبولاً مرضياً، جوزيتم عليه أحسن الجزاء، مع الشكر والثناء.. مرَّ في الآيات السابقة أن الله تعالى أعدَّ للكافرين السلاسل والأغلال، كما هيأ للأبرار أرائك يتكئون عليها، وعليهم ثياب السندس والاستبرق، وفي معاصمهم أساور الفضة، وبين أيديهم ولدانٌ مخلدون كأنهم اللؤلؤ المنثور، يطوفون على أولئك الأبرار بصحاف الفضة وأكوابها الصافية النقية، وقد ملئت شراباً ممزوجاً بالزنجبيل والكافور، وكلُّ ذلك للترغيب والترهيب، على طريقة القرآن في المقارنة بين أحوال الأبرار والفجار.

    حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع المعاندين من قومه

    {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً(23)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا(24)وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(25)وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً(26)إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً(27)نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً(28)إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(29)وَمَا تَشَاءونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(30)يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(31)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (24):

    أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}.

    وبعد هذا الوضوح والبيان، كان المشركون يقابلون كل هذه الآيات بالصدِّ والإِعراض، والاستهزاء بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام، وكان الرسول يتألم ويحزن لموقف المعاندين، لذلك جاءت الآيات تشدُّ من عزيمته، وتسلِّيه وتخفف عن قلبه الشريف آثار الهمِّ والضجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} أي نحن الذين أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن مفرقاً، لتذكرهم بما فيه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فلا تبتئس ولا تحزن ولا تضجر، فالقرآن حقٌ ووعده صدقٌ {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي اصبر يا محمد وانتظر حكم ربك وقضاءه، فلا بدَّ أن ينتقم منهم، ويقر عينك بإِهلاكهم، إِنْ عاجلاً أو آجلاً {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} أي ولا تطع من هؤلاء الفجرة من كان {آثِمًا} منغمساً في الشهوات، غارقاً في الموبقات {أَوْ كَفُورًا} أي ولا تطع من كان مبالغاً في الكفر والضلال، لا ينزجر ولا يرعوي، وصيغة {كفور} من صيغ المبالغة ومعناها المبالغ في الكفر والجحود، قال المفسرون: نزلت في "عتبة بن ربيعة" و "الوليد بن المغيرة" قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: إِن كنت تريد النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ونحن نكفيك ذلك، فقال عتبة: أنا أُزوجك ابنتي وأسوقها لك من غير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فنزلت، والأحسنُ أنها على العموم لأن لفظها عام فهي تشمل كل فاسق وكافر {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ} أي صلِّ لربك وأكثر من عبادته وطاعته {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي في أول النهار وآخره، في الصباح والمساء {وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} أي ومن الليل فصلِّ له، متهجداً مستغرقاً في مناجاته {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي وأكثر من التهجد والقيام لربك في جناح الظلام والناس نيام كقوله تعالى {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} والمقصود أن يكون عابداً لله ذاكراً له في جميع الأوقات، في الليل والنهار، والصباح والمساء، بقلبه ولسانه، ليتقوى على مجابهة أعدائه .. وبعد تسلية النبي الكريم، عاد إِلى شرح أحوال الكفرة المجرمين فقال {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} أي إِن هؤلاء المشركين يفضلون الدنيا على الآخرة، وينهمكون في لذائذها الفانية {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً} أي ويتركون أمامهم يوماً عسيراً شديداً، عظيم الأهوال والشدائد، وهو يوم القيامة {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أي نحن بقدرتنا أوجدناهم من العدم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، حتى كانوا أقوياء أشداء {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أي ولو أردنا أهلكناهم، ثم بدلنا خيراً منهم يكونون أعبد لله وأطوع، وفي الآية تهديدٌ ووعيد {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} أي هذه الآيات الكريمة بمعناها الدقيق، ولفظها الرشيق، موعظة وذكرى، يتذكر بها العاقل، وينزجر بها الجاهل {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي فمن أراد الانتفاع والاعتبار وسلوك طريق السعادة، فليعتبر بآيات القرآن، وليستنر بنوره وضيائه، وليتخذ طريقاً موصلاً إلى ربه، بطاعته وطلب مرضاته، فأسباب السعادة ميسورة، وسبل النجاة ممهدة {وَمَا تَشَاءونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي وما تشاءون أمراً من الأمور، إِلا بتقدير الله ومشيئته، ولا يحصل شيء من الطاعة والاستقامة إِلا بإذنه تعالى وإِرادته، قال ابن كثير: أي لا يقدر أحدٌ أن يهدي نفسه، أو يدخل في الإِيمان، أو يجر لنفسه نفعاً، إِلا بمشيئة الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عالم بأحوال خلقه، حكيم في تدبيره وصنعه، يعلم من يستحق الهداية فييسِّرها له، ومن يستحق الضلالة فيسهل له أسبابها، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي يدخل من شاء من عباده جنَّته ورضوانه حسب مشيئته وحكمته وهم المؤمنون {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وأما المشركون الظالمون فقد هيأ لهم عذاباً شديداً مؤلماً في دار الجحيم، ختم السورة الكريمة ببيان مآل المتقين، ومآل الكفرة المجرمين.

     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 23 من 33 الأولىالأولى ... 13 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك