الحلقة الحادية عشرة
أخرج الشيخان عن إبن عباس رضي الله عنهما عنه عليه السلام قوله " إنهما يعذبان وما يعذبان فيه كبير فأما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الاخر فكان لا يستتر من بوله " .
ــــــــــــ
قال ذلك عليه السلام بمناسبة مروره على بعض قبور المسلمين وشواهده في القرآن أكثر من أن تحصى منها " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " و" ولا يغتب بعضكم بعضا " و " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين".
عذاب القبر حق ولا إنكار على من خالف فيه برأي ووحدة الناس أولى :
ما ينبغي لفعاليات الصحوة الاسلامية المتجددة سوى رسم سلم أولويات علىدرب جهادها واجتهادها فلا إنكار على تعدد إهتماماتها و تعدد تياراتها سيما أن العزائم المفروضة عليها اليوم ثقيلة وكبيرة ولو وضع لها المرء عنوانا لما ألفى ما يناسبها سوى تحرير الانسان وتحرير الاوطان وإذا كان الحوار العلمي مطلوبا في القضايا الخلافية وكلها فرعية ومنها عذاب القبر فإن ذلك ما يجب أن يخرج عن دائرة البحث العلمي المتزين بأدب الاسلام فضلا عن أن يستهلك أفضل الاوقات والجهود التي ما ينبغي سوى غرز أسنتها في مظانها . إذ ستجد من يستشهد على عذاب القبر بالقرآن الكريم وبأحاديث أخرى كثيرة ومنها المتفق عليه كما هو الحال اليوم كما أنك ستجد من يطعن في ذلك بطعون علمية معروفة ليس هذا موطن بسطها وهو خلاف قديم لا ينحسم لا بل لم ينحسم ؟ وليس ثمة مصلحة أبدا في إنحسام الفروع .
الكبائر في الدين ليست هي سوى الكبائر في الحياة فلم العجب ولم التقحم ؟
ليس ثمة من أمر يزعجني مثل قيام بعض الناس على تصور ديني أساسه أن الدين شئ أما الحياة فشئ آخر وأن العلاقة بينهما إن وجدت فهي لطيفة دقيقة أو هي مفتعلة أو غير مفهومة ولا مبررة وأسوأ من ذلك كله أن الجهاز الداخلي الحاكم للدين والمفسر له لا تسري عليه ذات النواميس الحاكمة للحياة وأن القانون هنا ما يجب إلا أن يكون مفارقا للقانون هناك ولماذا ياصاحبي ؟ ببساطة لان الدين من السماء والحياة أرضية . ونسي هؤلاء أن ربهما واحد فلم الاختلاف إذن ؟
أليس الناس يعتبرون أن القتل والزنا والكذب والظلم وسائر صنوف الفواحش ما ظهر منها كالنم وما بطن منها كالحسد وما تعلق بالاله الخلاق ولي النعمة سبحانه كالشرك به أو ما تعلق بالانسان كالاستغلال عبر الربا مثلا وما تعلق بالكون ومرافقه إفسادا وما تعلق بالعجماوات بدون حق ....
أليس ذلك في عداد الممقوت منذ بدء الخليقة وفي سائر اطوارها إلا فيما ندر ؟ أليس ذلك أدعى إلى القول بأن الدين بسائر ما فيه من كبائر وصغائر في المعتقدات والعبادات والاخلاق والمعاملات والاحسانات والاساءات والاعمال بأسرها دينا ودنيا معقول مفهوم مبرر مبرهن تتقبله العقول قبولا حسنا ولا ضير بعد ذلك أن تتقحم الجوارح الشهوات ؟ ثم أليست كل النواهي الواردة بصحة من الوحي هي ضارة بالانسان صاحبها قبل ضررها بغيره وخذ إليك أي مثل أردت بدء من الكفر بسائر أنواعه وإنتهاء إلى شوك صغير تتجاهل إزاحته عن طريق ربما لا يسلكه سواك مرة في العمر ؟ ثم أليست كل الاوامر بسائر درجاتها شريطة أن تكون صحيحة صريحة نافعة للانسان صاحبها في الدنيا حتى لو غمرتها أنواء العنت وغطتها أدواء النصب لا بل حتى لو إختار الانسان قتل نفسه في سبيل الله ليتحرر وطن أو نتعتق نفس وقس على ذلك كل ما عرفت وما لم تعرف منها بدء من إمتناعك عن الاكل متكئا لغير ضرورة ؟
كيف يستشكل عليك عذاب القبر بعد موتك ؟
ثمة قاعدة مهمة جدا لا بد من سحبها على كل نص من الوحي متعلق بالغيب وهي أن دنيا الغيب ليس لنا منه سوى الاسماء أما المسميات الحقيقية فلا تدركها عقولنا ولو لم يكن الامر كذلك لنزعنا الغيب من الايمان ولامن كل الناس ولكنه إيمان شبيه بعبث الاطفال الذين نبرز لهم الشئ أمامهم ثم نعلمهم نطق إسمه لندربهم على النطق والفهم . إذا ما سحبت هذه القاعدة على عذاب القبر فإنه لن يدور في خلدك بعد اليوم سؤال : كيف تعذب أبداننا بعد موتها ؟ هل ترجع إليها الحياة مجددا ثم تعذب أم تعذب أرواحنا وعندها فلا يهم لان المؤلم هو عذاب الجسم أما عذاب الروح فلا يعد عذابا ؟وأسئلة أخرى لا حصرلها ولن تجد لها جوابا كافيا شافيا إلا من وحي صحيح صريح وهو ما لم يرد ومعنى عدم وروده يعني عدم الحاجة إليه . ولو ضربت لك مثلا بسيطا جدا تعيشه كل ليلة تقريبا : هل تشعر بعذاب بعد رحلة في الحلم مزعجة وهل تتألم حرقة على ولد مريض أو غائب أو تتعذب بسبب تعذب المضطهدين في فلسطين والفلوجة اليوم ؟ فالعذاب إذن ليس بدنيا فحسب بل إن بعض العذابات الروحية أشد قسوة . فإذا لم يقنعك هذا فينبغي أن يقنعك ربك بقوله عن نفسه أنه على كل شئ قدير وأنه لا يعجزه شئ وأنه يعذب بعض عباده في القبر .
لم تنص السنة على كل الكبائر ولكن القرآن الكريم الحاكم فعل ذلك :
لوسألت مسلما اليوم عن الكبائر لما زاد عن السبعة المذكورة في بعض الاحاديث الصحيحة وهو جواب صحيح ولكنه غير كاف سيما لطلبة العلم الذين يخصهم أمر العلم ومن ثم العمل قبل غيرهم لا بل إن بعض الناس لا يكلفون نفسهم حتى عناء جمع الحديث بمختلف درجاته في موضوع الكبائر ولو فعل ذلك فاعل لغنم غير أنه بدون الرجوع إلى القرآن الكريم الذي جمع أصول الكبائر وفصل فيها ومن أكبر الكبائر التي لم تتناولها السنة ولكن ركز عليها القرآن كثيرا القول على الله بغير علم وعبر عنه بتعابير أخرى كثيرة وليس ذلك إلا لان القرآن الكريم إهتم بأمر الايمان ومايسمى اليوم وبالامس عقيدة بينما جاءت السنة في أغلبها شارحة للجانب العملي ولست هنا بمتوسع في هذا الامر أي أمر الموبقات المهلكة التي عرج عليها القرآن الكريم مرات ومرات وحتى أفعل ذلك يرجى من سائر الاخوة فعل ذلك . وأختم هذا المحور بالقول بأن القول على الله بغير علم ليست قضية نظرية لا علاقة لها بحياتنا اليوم بل هي في صلب رحمها ونتلظى منها صباح مساء ليل نهار فتدبر هذا يرحمك الله .
إفساد المجتمع عبر إشاعة الكذب والافتراء وعبر التمرد على الحياء وعلى فضيلة النظافة :
بداية أنصح كل طالب علم بقراءة كل حديث نبوي قراءة جماعية لا فردية من ناحية ومعاصرة لا عتيقة من ناحية أخرى فإذا إنضم ذلك إلى شروط أخرى كان الفقه في السنة ومن ثم في الاسلام وفي الحياة قد شارف الكمال . وقبل ذلك يجب القول بأن هاتين الكبيرتين لم ترد في أحاديثه عليه السلام لما سئل عنها وهذا دليل على أن الكبائر لا يشملها حديث واحد ولا آية واحدة وذلك هو شأن الدين متفرق النص متشابه المعنى من أجل منح فرصة للعقل عملا وإجتهادا . المشي بالنم إذا تحول إلى حركة أو تيار أو ظاهرة فإنه لم يعد ذنبا شخصيا محدود الاثر بل يتحول إلى داء ينخر المجتمع وينذر بالسوء ولم يحرم الله سبحانه النم فضلا عن المشي به إلا للتوقي من سوء الخلق ومن إفساد المجتمع بإيغار الصدور وكل هرج ومرج وإقتتال سببه ظن غائر فكلمة نابئة فمشي بها فبغض فانقطاع خير فتحارب فضعف مجتمع فاحتلال فذهاب حرية ودين وعز . أما طاعون عدم الاستتار من البول فهو كبيرة بحكم أنه يهتك الحياء فيتحول الناس إلى دواب فاذا عملنا برواية " لايتنزه من بوله " فهي كبيرة بحكم أن الاسلام لم يحرص على شئ حرصه على كرامة الانسان ومن كرامته النظافة والطهارة بدنا وثوبا ومضجعا وريحا فإذا ما كان ذلك خلقا لتيار عريض من الناس فإن المجتمع بأسره يتحول إلى ماخور قذر تتفشى فيهم الامراض البدنية بعد ما نخرتهم الادواء النفسية .
بقي سؤال : لماذا خص الوحي هاتين الكبيرتين دون سواهما بالذكر بعذاب القبر ؟: عرض إلي السؤال من نفسي ولم أجد جوابا ولا بد أن في الامر علة وحكمة فهل من مجتهد يعلمني ؟
الخلاصة : من يمتهن كرامة الانسان في الدنيا بالنم وبالمشي به ومن يمتهن كرامة نفسه التي لا يملكها هو بل يملكها وليها سبحانه في الدنيا بنبذ النظافة والتمرد على الحياء فإن له عذابا قبل العذاب وهو عذاب القبر فاعتبروا يا أولي الابصار .
مواقع النشر (المفضلة)