الحلقة الواحدة والعشرون
أخرج الشيخان أنه عليه السلام قال " عرضت علي الامم فإذا النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الواحد والنبي وليس معه أحد حتى رأيت سوادا عظيما فظننت أنها أمتي فقيل لي إنه موسى ومعه أمته ولكن أنظر إلى الافق فإذا سواد عظيم فقيل تلك أمتك ومنهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب فخاض الناس فمن قائل هم من ولدوا في الاسلام ومن قائل هم أصحابه فأخبرهم عليه السلام وقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون قال عكاشة أدع الله أن أكون منهم فقال أنت منهم فقال آخر كذلك فقال سبقك بها عكاشه ".
ــــــــــــــــــــــــ
لابأس من حفظ الاحاديث الطويلة فإن تعذر فلا أقل من إستيعاب مخ الحديث وهو أن شروطا أربعة ترشح لدخول الجنة بلا حساب ولا عذاب وهي نبذ الرقية ونبذ التطير وإمتشاق التوكل .
موضوع الحديث : مخ الايمان اليقين والثقة والامل والتوكل وهي مرشحات خير اليوم وغدا: دعك الان من صور الايمان وهيئاته ومظاهره وطقوسه وركز معي علىحقيقته وروحه ومعناه الذي أراده الله منا قبل كل شئ ويمكن أن يكون الايمان منقوصا أو مغشوشا أو غير خالص كل الخلوص وبقدر نقصانه سيما في معناه وجوهره تخصم الحياة اليوم ولا أمل لصاحبه غدا في المراقي العالية والفراديس السخية ولك في سؤاله يوما لاصحابه عليه السلام وعليهم الرضوان هل أنتم مؤمنون فأطرقوا إذ لم يعهدوا هذا السؤال المباغت والصعب وهو إمتحان بكل المقاييس المعروفة غير أن الفاروق من ضرب الله الحق على قلبه تجشم الاجابة وترشح لخوض غمار الاختبار الصعب فقال بثقة أمام المعلم عليه السلام بلى فواصل المعلم الدرجة الثانية من الاختبار لنيل الشهادة من لدن نائلها عن جدارة وإستحقاق وما الدليل ياعمر فلم يجد الفاروق من نفسه سوى مضاء فقال الخلاصة التي أقرها عليه السلام وغدت إلى اليوم عنوان الايمان وروحه وحقيقته ومعناه " نؤمن بالقضاء ونشكر على السراء ونصبر على الضراء " فتهللت أسارير وجه المعلم عليه السلام كيف لا والمعلم لم تذهب جهوده سدى بل وجد من يحمل عنه الرسالة ولو سألت واحدا منا اليوم عن أمارات الايمان لذهب إحدى مذهبين كلاهما صحيح ولكن المطلوب ليس الصحة الرياضية الميكانيكية بل المطلوب ما يعكس حسن الفقه وتمام الفهم ولن تجد منا سوى من يقول أن دليل إيماني هو أني أؤمن بالله وسرد لك الاركان الخمسة أو الستة أو من يقول أن الدليل هو إقامتي للصلاة وسرد الاركان المعروفة وها هي كل تلك الاركان الايمانية والاسلامية وأكثر منها معقودة عند مليار ونصف من المسلمين قولا وعملا فما بال الدنيا اليوم تخصم الاسلام وتطرد الايمان وتضيق بالعدل والحرية وكرامة الانسان والجواب الوحيد سوى أن مرد ذلك أن الايمان الذي آمن به الفاروق وأقره المعلم عليه السلام إقرار رضى وغبطة ليس هو ذلك الايمان الذي ندين به نحن اليوم فهما متماثلان في الصورة والهيئة ولكنهما مختلفان كثيرا في الحقيقة والجوهر فالاول يصنع الحياة والثاني يصنع الموات .
نواقض الايمان هي : الرقية طلبا وفعلا وتطيرا : ليس المقصود هنا بالنواقض الكاملة المخرجة من الملة ولكنها نواقض بمثابة الامراض المعدية الخطيرة التي لا تقتل الجسم بالكلية ولكن تضعه في حياة برزخية لا هو بحي ولا هو بميت يصدق عليه أنه حي وميت في الان ذاته . إختلف العلماء كثيرا في مسألة الرقية هنا فعلا وطلبا ذلك لان الرقية عمل نبوي قولا وفعلا فمنهم من قال أن المقصود بالرقية هنا الرقية بما هو ممقوت أو مكروه وذلك إبتغاء التوفيق بين النصوص وهو المنهج الاعدل والاقرب إلى الحق ومنهم من قال بالرقية مطلقا تجريدا للقلب عن كل خائنة مهما تكن دقيقة لطيفة لا ترى تشوش على خلوص الايمان ودون تفصيل فإن الراجح هنا القول الاول بإعتبار أن الرقية المشروعة بالقرآن الكريم مثلا ممارسة نبوية وليس أخلص منه عليه السلام إيمانا وثبت عنه ذلك بالمعوذتين حيال ريحانتيه عليهما السلام الحسن والحسين كما ثبت في إقراره الاستشفاء من اللدغة بالفاتحة وهذا معلوم وبذلك فإن الذين لا يرقون ولا يسترقون هم الذين لا يتجاوزون السنة في ذلك في شئ لان المسألة توقيفية وليس إجتهادية ومن عادة الناس حتى الاتقياء الصادقين العاملين منهم أن يتوسعوا في طلب البركة ولا يخفى أن ذلك قد يشوش على خلوص الايمان بقدر التوسع فيه زمانا ووسيلة كأن يعتقدن أحد في غفلة منه وشبهة من الشيطان أن الله مثلا لولا القرآن لما شفاه أو لاخر عنه الشفاء وخلوص الايمان هنا معناه أن القرآن وهو كلام الله ليس سوى وسيلة جعلها الله في يد العبد وإنما الشفاء كله مبنى ومعنى منه سبحانه وكثير من المتدينين يقع في مثل هذا الخلط . أما الناقض الثالث فهو التطير وهو عادة جاهلية مفادها تعلق قلب المتطير بمخلوق لا ناقة له ولاجمل في إرادة الله سبحانه ومعلوم أن بيئاتنا العربية والاسلامية ورثت هذه العادة الجاهلية كابرا عن كابر ومازالت تزاول التطير مع الايمان بالله سبحانه وذلك مصداقا لقوله " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " والتطير قد يأخذ صورا مغلظة شنيعة من مثل تعليق العزم على تصرف طير أو حال طقس أو هيئة كون وقد يطرد الايمان كلية وقد يأخذ صورا مخففة كما هو عندنا اليوم من مثل إهراق الماء إثر المسافر ولكن الايمان بمثابة حدقة العين قد يغشاها نسيم عليل أو يقع عليها مالا تحصيه أشد المجاهر تطورا فيؤلمها لفرط حساسيتها إذ كلاهما يتصف بالخلوص أي الايمان والحدقة .
البديل الاسلامي عن التطير وعن الرقية المنكورة هو التوكل : ثمة قاعدة عامة في التشريع الاسلامي لك أن تتبعها واحدة واحدة وهي أنه لم يمنع من شئ إيمانا أو فعلا أو قولا إلا أبدل به ما هو خير منه فإذا أضفت إلى ذلك أن الممنوع فيه لا يكاد يحصى لفرط قلته عددا وحيزا فأنك تدرك أن التشريع الاسلامي لم يأت لقتل الحياة وإلغاء الانسان بل لتنظيم السير فلا يصطدم هذا بذاك تماما كما يفعل أهل القانون الوضعي اليوم وخذ إليك مثلا قوانين السير والطرقات . ولك أن تسأل لم ألغى الاسلام التطير والرقية المنكورة وستجاب بأن ذلك لحفظ العقل وتحريره من الاوهام وتمكينه من معرفة السنن والاسباب المودعة في الكون فيتسخر الكون للانسان وكان البديل هو التوكل وليس أمام الدعاة اليوم سوى إبراز منافع التوكل ومحاسن العزم ومكارم الحزم في بناء الشخصية النفسية البشرية السوية المؤهلة للفهم والعمل والكسب والتسخير والتعمير والنجاة من أعداء الانسان الاصلية وهي الجهل والفقر والمرض وليس كالتوكل بلسما شافيا لكثير من الامراض النفسية كالتقوقع والكآبة والوحدة والخوف ولقد ضرب لنا عليه السلام في ذلك مثلا بليغا يوم قال " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" والطير أمة كالانسان والنمل والنحل تسري علينا وعليها سائر السنن والاسباب وهي محايدة لا تجامل مؤمنا ولا تعادي كافرا بل الناموس هو " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك". ولو أحصيت ميزان كل خاسر في هذه الدنيا خسارة دينية أو دنيوية لوقفت على أن السبب الاكبر وليس الوحيد طبعا هو نقص التوكل أو فقدانه بالكلية وكم من شاطر باهر ماهر في هذه الدنيا كان مفتاحه نجاحه التوكل والمضاء وقوة الارادة وعدم اليأس وإمتطاء الامل وليس كالمؤمن جديرا بالتوكل وبالنجاح لان إيمانه يدفعه إلى ذلك .
العلاقة بين الكثرة والخيرية والتوكل والفلاح في الدنيا والاخرة : يرسم الحديث علاقة بين كل ذلك متينة فكأنه يريد القول بأن التوكل بنبذ الرقية المنكورة والتطير المفرغ للقلب والمخنع للعقل مؤذن بالفلاح في هذه الدنيا بما يوفره من إرادة وعزم وحزم ونبذ للتردد وعدم إعتراف بالهزيمة وذلك في شأن المؤمنين إمارة فلاح في الجمع بين الدين وبين الدنيا وبما يوفره كذلك من تنافس بين الناس فينتج عن ذلك الكثرة ومعلوم أن الامة الاسلامية هي أكثر الامم في الاخرة تعدادا وبما يوفره كذلك من خيرية ناتجة عن صحة التوكل وصحة التنافس وصحة الكثرة ومعلوم أن الامة هي كذلك خير الامم وهي خيرية مشروطة بشروط سورة آل عمران وهي ثلاث ونتيجة كل ذلك هي أن التوكل بما يوفره من تعمير للدنيا ثم من تنافس على الخير وكثرة وخيرية ليس له من جزاء في الاخرة سوى الجنة بمضاء لا يعرف حسابا ولا عذابا وهو متناسب مع ذلك المضاء الذي كان عليه أولئك المتوكلون في الدنيا فلا يليق بهم أمام الجنة سوى إرتفاع مخافر الحساب والعذاب من طريقهم لان طريقهم عبدوه في الدنيا بالتوكل فجزاهم الله بمضاء التوكل ونبذ التردد في الاخرة كذلك والجزاء من جنس العمل وهؤلاء من عموم الامة يمكن لك أنت أن تكون منهم .
مواقع النشر (المفضلة)