الحلقة السادسة والعشرون
أخرج الشيخان عن إبن أبي وقاص رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " أعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم فحرم على السائل من أجل مسألته ".
ـــــــــــــــ
من شواهده " ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ".
موضوعه : لامكان في الاسلام لاهل الضيق والعنت والعسر وتحريم الطيبات : الناس أول من تنسحب عليهم سنن الله الغلابة الماضية في الكون وفي الاجتماع ومنها نواميس التعدد والاختلاف والتنوع وأقوى سنة كونية وإجتماعية مطلقا تخطم سائر ما يليها هي سنة الزوجية وأول وظائف سنة الزوجية خدمة توحيد الله سبحانه فهو وحده تعالى الواحد الاحد الفرد الصمد وكل ما سواه متعدد من إنس وجان وملك ونبي وكون ومادة ومعنى مما علمنا ومما لم نعلم . والناس ألوان في البشرة وألوان في المزاج والعاطفة والاهتمام وغلبة المد لا يمنع ذلك أن يكونوا من بطن واحدة فهذا موسى وهارون عليهما السلام عرف الاول بسرعة الغضب بينما كان الشقيق ميالا إلى الحلم ولولا ذلك ما تحركت الحياة ولما نفذت إرادة الله سبحانه فالتمايز والتفاضل والاصطفاء قوانين ضرورية لحصول التدافع المانع من فساد الارض ويوم يزول تقوم القيامة وتنتصب المحكمة العليا . والاسلام شريعة مبناها السماحة والسعة والمرونة وخطابها المعروف والفضل والاحسان ولونها مسايرة الفطرة التي فطر الله عليها الكون بأسره والانسان ليس سوى جزء من الكون الفسيح " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " وشريعة الاسلام لما جاءت ناسخة لما قبلها من الاديان مهيمنة عليها فلتخط للناس خط التوسط والعدل والرحمة والحنيفية الابراهيمية العتيدة وذلك لا يتأتى إلا عبر دحر صراط المغضوب عليهم من بني إسرائيل بما فيه من إلتواء لا يليق بسوى الحرباوات والثعالب وطمس صراط الضالين منهم عن نهج عيسى عليه السلام المتبرئ من عقيدة التثليث بما فيه من غلو وتشدد لا يليق بأولى الالباب وذوي النهى .
فلسفة التشريع الاسلامي لحمتها اليسر وسداها البشر : نصيحتي لطلبة العلم الشرعي دوما الاقبال على الاصول قبل الفروع والرؤوس قبل الذيول والمقاصد قبل الاجزاء والكليات قبل التفاصيل والقرآن قبل السنة والانسان قبل الجان والدنيا قبل الاخرة والصحيح الصريح قبل الظني والمحكمات والاجماعات قبل المتشابهات والمنفردات ولابد لي من التأكيد على لفظ " قبل " هنا حتى لا يفهم ضدها وهو " بدل " . وليس كالغوص في الفروع التي لاهل النظر فيها ألف قول وقول مذهبا للفقه سيما إذا إبتدأ الطالب مشواره العلمي بها ولك أن تتصور أن التشريع الاسلامي وكل تشريع في الحقيقة بمثابة شجرة أو قصر هل تسأل عن عمره ومادة بنائه ومكانه وسائر ما يحدد هويته الاستراتيجية والمعمارية قبل إقتنائه أم تراك سائلا عن طول ظله في حر الظهيرة أو مادة طلائه أو الفوانيس الفاخرة التي تزين قببه العالية لذلك قال العلماء بأنه لم يطعم حلاوة الفقه من لم يتعرف على إختلاف الفقهاء ولو زدتك على ذلك لقلت لك لم يطعم حلاوة طلب العلم من فرط في معرفة سبب إختلافهم ولذلك قال العلامة إبن خلدون أن أصول الفقه هو منطق الاسلام فكيف لطالب علم فضلا عمن يتصدى للدعوة والمجالس العلمية أن يرشد الناس ويفتيهم ويتفاعل معهم ويبين محاسن الدين الذي يدعو إليه إذا كان لا يحيط بحد أدنى من أصول الفقه والمقاصد ويتوسع بعد ذلك لاقبله شيئا فشيئا في العلوم مبتدئا بالقرآن لا بالسنة وكل من إطلع على قدر من ذلك فإن اليسر في الشريعة والبشر فيها يلوحان له كبرق وامض فضاح للظلمة بشار بطاميات الغيوث .
اليسر لا يعني التهتك والبشر لا يعني تذويب الفوارق بين الاديان : اليسرضده العسر وليس التحلل من تكاليف الدين ولكن اليسر يعني أمرين إثنين أولهما أن أصل التشريع يسر من عقائد الايمان العظمى المبنية على العقل لا على النقل وعلى الاصالة لا على التقليد فهي مفهومة معقولة مبررة مبرهنة تصدقها الفطر السليمة وتتحمس لها العقول الحليمة لا تتحمل التجريدات المنطقية والمماحكات الفلسفية الغامضة يجدها الاعرابي في بعرة بعيره كما يجدها الطبيب النطاسي في قطرات مخبره ويظل اليسر مصاحبا لها في العبادة والخلق والمعاملة وذلك من خلال مسايرة الفطرة وتلبية مصالح الناس أما ثاني الامرين الذي يعنيه اليسر هو أن الانسان في حال الضرورة أو الحاجة أو العجز بسائر صوره الموروث والمكتسب والاصيل والطارئ يجد في الشريعة السمحة اليسيرة بقعة تحت ضوء الشمس يتدين فيها تدينا قد يسبق بالاخلاص من حول السماوات شآبيب رحمة منزلة على العباد . واليسر والبشر هما لونا الوسطية التي جاء بها الاسلام وليس يسيرا على الانسان ال"أكثر شئ جدلا " الالتزام بالوسطية دوما لانها إمتحان وليس كل من يترشح للامتحان بفائز لولا أن الوسطية ليست نقطة لا تتسع لسوى قدم واحدة .
لم كان السؤال الباغي جرما وما الحد بينه وبين السؤال البرئ : أذكرك بداية بأن الكبائر لم ينص القرآن سوى على أصولها العظمى وتناولت السنة سوى جزء يسير من تفاصيلها لانها سنة عملية تعالج الحالات ولا تفترض المشكلات وليس ذلك عيبا في التشريع ولكنه دوما يفسح للعقل مساحة يختبره فيها مضبوطا بالاصول والسؤال من هذا القبيل كبيرة بصريح الحديث المتفق عليه بل هو جريمة وقد يأتي المؤمن جريمة بل جرائم والعبرة بالتوبة والتوبة توبتان توبة فهم وتوبة عمل والاولى أولى وأبقى وأعصم والثانية لها تبع والاسلام لا يتحمل ضربين من النفوس الاولى تلك التي مرد عليها بنو إسرائيل أي الالتواء وليس مجرد العصيان أو قل العصيان الذي يريد أن يتخذ له فلسفة ومنطقا تماما كمعصية إبليس في مقابل معصية آدم وهي في الاصل نفوس المنافقين لذلك تجد اليوم وبالامس وغدا العلاقة النفسية حميمية بين النفاق واليهود نظرا وواقعا أما الضرب الثاني من النفوس التي لا يتحملها الاسلام فهي تلك التي تحترف الجدل وتجعل الحياة مسرحا خصبا من التصنع والتكلف والتعمق والتشدق والغلو في الكلام الفارغ الذي يفرق الجماعات ويصرف إلى سفساف الامر وهذه النفوس موجودة بكثرة فينا نحن الامة الاسلامية قديما وحديثا وغدا ربما يكون ذلك إبتلاء لاولى النهى فينا والانسان مبتلى أولا من قبل أخيه الانسان ولقد كان التشريع الاسلامي صارما إزاء هؤلاء حتى أن رجلا سأله عليه السلام فيما إذا كان الحج مفروضا على الناس مرة في العام فسكت عليه السلام فلم يفهم السائل من سكوته عليه السلام سوى أن يعيد ذات السؤال الغبي وسكت عليه السلام ثانية وظل الامر على تلك الوتيرة حتى قال عليه السلام " لو قلت نعم لوجبت " ونهره صارفا إياه عن مثل هذا التقعر ومثل تلك الحوادث في حياته عليه السلام كثير لا يحصى حتى أنه نبهنا عليه السلام بأن إحدى الامور التي بسببها ضل بنو إسرائيل " كثرة مسائلهم وإختلافهم على أنبيائهم " فالربط وثيق جدا بين تفريع المسائل النظرية التي لا طائل من ورائها سوى النهم الفارغ وحب الاطلاع وإرواء غليل النفس الامارة بالسوء وبين الاختلاف المؤذن بالفرقة وذها ب الريح وليس من عادة المكثرين من الاسئلة الفارغة الالتزام بل هو إدمان على الفراغ واللغو وحب الاختلاف بغير أسس علمية معقولة تماما كمدمن خمر أو فاحشة أخرى ولا ريب أن الفواحش العقلية أشد خطرا وليس الشرك سوى فاحشة عقلية تورد صاحبها النار بخلاف الفاحشة العملية كالزنا فهو أقل شأنا من الكفر. فالسؤال الفارغ إذن هو مرض نفسي والناس دوما بعالمهم وجاهلهم يعلمون فطرة ودون حاجة إلى تعليم الفرق بين صاحب السؤال الفارغ وبين صاحب السؤال الواجب أو البرئ وكان الصحابة يسألون ويجيبهم الوحي وبين السؤال الفارغ وبين السؤال الواجب أو المباح ثمة سؤال برئ عادة ما يكون صاحبه ليس محترف جدل ولكنه يغلب عليه الغباء وليس هو كذلك مذموما وينفع معه التعليم .
القرآن الكريم مليئ بالقصص الناهي عن السؤال الفارغ : تجد ذلك مثلا في أعظم سورة أي البقرة في قصة البقرة وفي قصة شبيهة بذلك لدى المشركين " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولاحام ..." وذلك رغم أنه ليس من عادة المشركين إحتراف الاسئلة الفارغة سوى من يريد منهم نسج صلة بين شركه وبين ملة إبراهيم عليه السلام ولكنه قليل .
الخلاصة : كفى بالسؤال الفارغ جرما أنه يحرم ما أحل الله وكفى بالمسلمين تميزا عن بني إسرائيل أنهم جادون في حياتهم ملتزمون بأبجدياتها الاولى فالاولى دون صرم لحبالها وكفى شرفا للاسئلة الصحيحة أنها تصنع الحياة وتحرر الناس والاوطان وتعلي القيم والمثل .
مواقع النشر (المفضلة)