+ الرد على الموضوع
صفحة 8 من 33 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 18 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 36 إلى 40 من 162
  1. #36
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    أوصاف أولي الألباب

    {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20)وَالَّذِين َ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ(21)وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22) جَنَّاتُ عَدنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءابَآئِهِم وَأَزْوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ(23)سَلام عَلَيْكُم بِما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)}

    ثم عدَّد تعالى صفاتهم فقال {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} أي يتمون عهد الله الذي وصاهم به وهي أوامره ونواهيه التي كلَّف بها عباده {وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} أي لا يخالفون ما وثقوه على أنفسهم من العهود المؤكدة بينهم وبين الله، وبين العباد أيضاً {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أي يصلون الأرحام التي أمر الله بصلتها {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي يهابون ربهم إجلالاً وتعظيماً {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} أي يخافون الحساب السيء المؤدي لدخول النار، فهم لرهبتهم جادّون في طاعة الله، محافظون على حدوده {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي صبروا على المكاره طلباً لمرضاة الله {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدَّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي أنفقوا بعض أموالهم التي أوجبها الله عليهم في الخفاء والعلانية {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون الجهلَ بالحلم والأذى بالصبر، وقال ابن عباس: يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال بمعنى يفعلون الحسنات ليدرءوا بها السيئات وفي الحديث (وأتبع السيئةَ الحسنة تمحها) {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة وهي الجنة وقد جاء تفسيرها في قوله {جَنَّاتُ عَدنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءابَآئِهِم وَأَزْوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم} أي جنات إقامة خالدة يدخلها أولئك الأبرار ومن كان صالحاً من آبائهم ونسائهم وأولادهم، ليأنسوا بلقائهم ويتمَّ بهم سرورهم، وإن لم يكونوا يستحقون هذه المنازل العالية بأعمالهم، فترفع منازل هؤلاء إكراماً لأولئك وذلك فضل الله، ثم إن لهم إكراماً آخر بيّنه بقوله {وَالْمَلائكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} أي والملائكةُ تدخل عليهم للتهنئة من كل باب من أبواب الجنة يقولون لهم {سَلام عَلَيْكُم بِما صَبَرتُم} أي سلمتم من الآفات والمحن بصبركم في الدنيا، ولئن تعبتم فيما مضى فلقد استرحتم الساعة، وهذه بشارة لهم بدوام السلامة { فَنِعمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي نعمت هذه العاقبة الحميدة عاقبتكم وهي الجنة بدل النار.

    أوصاف الكافرين الذميمة

    {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25)}

    ولما ذكر تعالى أوصاف المؤمنين التسعة أعقبه بذكر أوصاف الكافرين الذميمة فقال {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي ينقضون عهودهم بعدما وثقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم من طاعته والإِيمان به {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أي يقطعون الرحم التي أمر الله بوصلها {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من القبائح لهم البعد من رحمته، والطردُ من جنته {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي لهم ما يسوؤهم في الدار الآخرة وهو عذاب جهنم على عكس المتقين.

    الرزق والهداية والاطمئنان من الله

    {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ(26)وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ(27)الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ(29)}

    {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسّع على من يشاء من عباده ويضيّق على من يشاء حسب الحكمة والمصلحة {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وفرح هؤلاء المشركون بنعيم الدنيا فرح أشرَ وبطر، وهو إخبار في ضمنه ذمٌ وتسفيه لمن فرح بالدنيا ولذلك حقّرها بقوله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} أي قليل وشيء حقير بالنظر إلى الآخرة {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي ويقول كفار مكة هلاّ أُنزل على محمد معجزة من ربه مثل معجزة موسى في فلق البحر، ومعجزة عيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي قل لهم يا محمد الأمر بيد الله وليس إليَّ، يُضلُّ من يشاء إضلاله فلا تغني عنه الآياتُ والنُذُّر شيئاً، ويرشد إلى دينه من أراد هدايته لأنه رجع إلى ربه بالتوبة والإِنابة، قال ابن جزي: خرج بالكلام مخرج التعجب حين طلبوا آية والمعنى قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن وآياتٍ كثيرة فعميتُم عنها، وطلبتم غيرها، وتماديتم على الكفر فإنه تعالى يضل من يشاء مع ظهور الآيات، ويهدي من يشاء دون ذلك {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} هذا بدلٌ والمعنى يهدي أهل الإِنابة وهم الذين آمنوا وتسكن وتستأنس قلوبهم بذكر الله وتوحيده، وجيء بصيغة المضارع لإِفادة دوام الاطمئنان واستمراره {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي ألا فانتبهوا أيها القوم فإن بذكر الله تستأنس وتسكن قلوب المؤمنين، فلا يشعرون بقلق واضطراب من سوء العقاب، على عكس الذين إذا ذكر الله اشمأزتْ قلوبهُم {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} أي أما المؤمنون أهل الأعمال الصالحة فقرة عينٍ لهم ونعم ما يلقون من الهناءة والسعادة في المرجع والمنقلب، قال ابن عباس: {طُوبَى لَهُمْ} فرحٌ وقرة عين.

    صاحب الرسالة، وبيان عظمة الله وقدرته

    {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ(30)وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(31)وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(32)أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33)لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ(34)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (31):

    {ولو أن قرآنا}: أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس، قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان كما تقول، فأرنا أشياخنا الأُوَل، نكلمهم من الموتى، وافسح لنا هذه الجبال - جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} الآية.

    {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} أي كما أرسلنا الأنبياء من قبلك كذلك أرسلناك يا محمد في أمة قد مضت قبلها أمم كثيرة، فهي آخر الأمم وأنتَ خاتم الأنبياء {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي لتبلّغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ} أي والحال أنهم يكفرون بالرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته هو ربي الذي آمنتُ به لا معبود لي سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي عليه وحده اعتمدت، وإليه توبتي ومرجعي فيثيبني على مجاهدتكم، والغرضُ تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما يلقاه من كفار قريش من الجحود والعناد فقد كذَّب قبلهم الأمم {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي لو كان كتابٌ من الكتب المنزّلة سُيرت بتلاوته الجبال وزعزعت عن أماكنها {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} أي شُققت به الأرض حتى تتصدَّع وتصير قطعاً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي خوطب به الموتى حتى أجابوا وتكلموا بعد أن أحياهم الله بتلاوته عليهم، وجواب {لو} محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكونه غايةً في الهداية والتذكير، ونهايةً من الإِنذار والتخويف، وقال الزجاج: تقديره "لما آمنوا" لغلوهم في المكابرة والعناد، وتماديهم في الضلال والفساد {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} بلْ للإِضراب والمعنى: لو أن قرآناً فُعل به ما ذُكر لكان ذلك هذا القرآن، ولكنَّ الله لم يجبهم إلى ما اقترحوا من الآيات، لأنه هو المالك لجميع الأمور والفاعل لما يشاء منها من غير أن يكون لأحدٍ عليه تحكّمٌ أو اقتراح {أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} أي أفلم يقنط وييأس المؤمنون من إيمان الكفار، ويعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم لأن الأمر له، ولكنْ قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} أي ولا يزال كفار مكة يصيبهم بسوء أعمالهم وكفرهم داهيةٌ تقرع أسماعهم وتقلق بالهم من صنوف البلايا والمصائب {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} أي أو تحلُّ القارعة والداهية قريباً من ديارهم فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} بإظهار الإِسلام وانتصارك عليهم بفتح مكة {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي لا يخلف وعده لرسله وأوليائه بنصرتهم على أعدائه {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية وتأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم أي كما استهزأ بك المشركون فقد استهزأ المجرمون برسلهم وأنبيائهم {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أمهلتهم وتركتهم في أمنٍ وَدَعة ثم أخذتهم بالعذاب {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي فكيف كان عقابي لهم على الكفر والتكذيب؟ {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي أفمن هو رقيب حفيظ على عمل كل إنسان لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد وهو الله تعالى، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تملك من الأمر شيئاً، قال الفراء : وتُرك جوابهُ لأن المعنى معلومٌ وقد بيّنه بعد هذا بقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} كأنه قيل: هل الله كشركائهم؟ وقال الزمخشري: هذا احتجاجٌ عليهم في إشراكهم بالله يعني أفالله الذي هو قائم رقيب على كل نفسٍ صالحة أو طالحة بما كسبت من خير أو شر وقد أعدَّ لكلٍ جزءاه كمن ليس كذلك {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} أي وجعل المشركون آلهة عبدوها معه من أصنام وأنداد في منتهى العجز والحقارة والجهالة، قل لهم يا محمد: سمّوهم لنا وصفوهم لننظر هل لهم ما يستحقون به العبادة والشركة مع الله؟ {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} أي أم تخبرون الله بشركاء لا يعلمهم سبحانه وهو استفهام للتوبيخ {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي أم تسمونهم شركاء بظنٍ باطلٍ فاسد لا حقيقة له، لفرط الجهل وسخافة العقل {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} أي زيَّن لهم الشيطان ذلك الكفر والضلال {وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ} أي مُنعوا عن طريق الهدى {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يضلله الله فما له أحدٌ يهديه {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لهؤلاء الكفرة عذاب عاجل في هذه الحياة الدنيا بالقتل والأسر وسائر المحن {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} أي ولعذابهم في الآخرة أثقل وأشد إيلاماً من عذاب الدنيا {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أي وليسلهم من يحميهم من عذاب الله أو يدفع عنهم سخطه وانتقامه.

    وصف الجنة، وموقف أهل الكتاب من نبوته صلى الله عليه وسلم

    {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ(35)وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ(36)وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ بَعْدَمَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ(37)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ(38)يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ(39)}

    سبب النّزول:

    نزول الآية (38):

    قال الكلبي: عيَّرت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: ما نرى لهذا الرّجل مهمّة إلا النِّساء والنّكاح، ولو كان نبيّاً كما زعم، لشغله أمر النُّبوة عن النِّساء، فأنزل الله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك، وجعلنا لهم أزواجاً وذُرِّيةً}.

    {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي صفة الجنة العجيبة الشأنِ التي وعد الله بها عباده المتقين أنها تجري من تحت قصورها وغرفها الأنهار {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} أي ثمرها دائم لا ينقطع، وظلُّها دائم لا تنسخه الشمس {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا} أي تلك الجنة عاقبة المتقين ومآلهم {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} أي وأما عاقبة الكفار الفجار فهي النار {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي والذين أنزلنا إليهم التوراة والإِنجيل - ممن آمن بك واتبعك يا محمد - كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابه يفرحون بهذا القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به {وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي ومن أهل الملل المتحزبين عليك وهم أهل أديان شتى من ينكر بعض القرآن مكابرة مع يقينهم بصدقه لأنه موافق لما معهم {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أي قل يا محمد إنما أُمرتُ بعبادة الله وحده لا أشركُ معه غيره {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} أي إلى عبادته أدعو الناس وإليه مرجعي ومصيري {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} أي ومثل إنزال الكتب السابقة أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب لتحكم به بين الناس {وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي ولئن اتبعتَ المشركين فيما يدعونك إليه من الأهواء والآراء بعدما آتاك الله من الحجج والبراهين {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} أي ليس لك ناصرٌ ينصرك أو يقيك من عذاب الله، والمقصود تحذير الأمة من اتباع أهواء الناس لأن المعصوم إذا خوطب بمثل ذلك كان الغرض تحذير الناس، قال القرطبي: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} أي أرسلنا قبلك الرسل الكرام {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} أي وجعلنا لهم النساء والبنين، وهو ردٌّ على من عاب على الرسول صلى الله عليه وسلم كثرة النساء وقالوا: لو كان مرسلاً حقاً لكان مشتغلاً بالزهد وترك الدنيا والنساء، فردَّ الله مقالتهم وبيَّن أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس ببدعٍ في ذلك، بل هو كمن تقدم من الرسل {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لم يكن لرسولٍ أن يأتي قومه بمُعجزة إلا إذا أذن الله له فيها، وهذا ردٌّ على الذين اقترحوا الآيات {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل مدةٍ مضروبة كتابٌ كتبه الله في اللوح المحفوظ، وكلُّ شيء عنده بمقدار، قال الطبري: لكل أمر قضاه الله كتابٌ قد كتبه فهو عنده {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي ينسخ الله ما يشاء نسخه من الشرائع والأحكام وصحف الملائكة الكرام، ويثبتُ ما يشاء منها دون تغيير، قال ابن عباس: يبدّل الله ما يشاء فينسخه إلا الموتَ والحياة والشقاء والسعادة فإنه قد فرغ منها وقيل: إن المحو والإِثبات عامٌ في جميع الأشياء لما روي أن عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت ويبكي ويقول: اللهمَّ إن كنتَ كتبت عليَّ شقوةً أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمُّ الكتاب، واجعله سعادةً ومغفرة، وقد رجحه أبو السعود وهو قول ابن مسعود أيضاً {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقاديرَ الأشياءِ كلَّها.

    مهمته صلى الله عليه وسلم تبليغ الرسالة، ومآل الكفار، وتكذيبهم برسالته

    {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ(40)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41)وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ(42)وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ(43)}

    {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي وإن أريناك يا محمد بعض الذي وعدناهم من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أي نقبضك قبل أن نقر عينك بعذاب هؤلاء المشركين {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} أي ليس عليك إلا تبليغ الرسالة وعلينا حسابهم وجزاؤهم {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أولمْ ير هؤلاء المشركون أنّا نمكّن للمؤمنين من ديارهم ونفتح للرسول الأرض بعد الأرض حتى تنقص دار الكفر وتزيد دار الإِسلام؟ وذلك من أقوى الأدلة على أن الله منجزٌ وعده لرسوله عليه السلام {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقضٍ ولا تغيير {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي سريع الانتقام ممن عصاه {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مكر الكفار الذين خَلَوْا بأنبيائهم كما مكر كفار قريش بك {فَلِلهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} أي له تعالى أسباب المكر جميعاً لا يضر مكرهم إلا بإرادته، فهو يوصل إليهم العذاب من حيث لا يعلمون {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أي من خير وشر فيجازي عليه {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي لمن تكون العاقبة الحسنة في الآخرة {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً} أي يقول كفار مكة لستَ يا محمد مرسلاً من عند الله {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي حسبي شهادة الله بصدقي بما أيدني من المعجزات {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي وشهادة المؤمنين من علماء أهل الكتاب.

     
  2. #37
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة إبراهيم

    تنزيل القرآن لهداية الناس

    إرسال الله موسى عليه السلام لهداية قومه

    أخبار بعض الرسل السابقين

    تهديد الكفار رسلهم بالطرد

    لله القدرة المطلقة

    الحوار بين الأشقياء والشيطان وحال السعداء

    مثل الكلمة الطيبة والخبيثة

    التحذير من عصيان الله، والأمر بالصلاة والإنفاق

    دلائل وجوده تعالى ونعمه على عباده

    دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام

    من مشاهد يوم القيامة وأهوالها

    بَين يَدَي السُّورَة

    * تناولت السورة الكريمة موضوع العقيدة في أصولها الكبيرة "الإِيمان بالله، الإِيمان بالرسالة، الإِيمان بالبعث والجزاء" ويكاد يكون محور السورة الرئيسي "الرسالة والرسول" فقد تناولت دعوة الرسل الكرام بشيء من التفصيل، وبيَّنتْ وظيفة الرسول، ووضحت معنى وحدة الرسالات السماوية، فالأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين جاؤوا لتشييد صرح الإِيمان، وتعريف الناس بالإِله الحق الذي تعنو له الوجوه، وإِخراج البشرية من الظلمات إِلى النور، فدعوتُهم واحدة، وهدفهم واحد، وإِن كان بينهم اختلافٌ في الفروع.

    * وقد تحدثت السورة عن رسالة موسى عليه السلام، ودعوته لقومه إِلى أن يعبدوا الله ويشكروه، وضربت الأمثال بالمكذبين للرسل، من الأمم السابقة كقوم نوح، وعاد، وثمود، ثم تناولت الآيات موضوع الرسل مع أقوامهم على مر العصور والدهور، وحكت ما جرى بينهم من محاورات ومناورات انتهت بإِهلاك الله للظالمين {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}.

    * وتحدثت السورة عن مشهد من مشاهد الآخرة، حيث يلتقي الأشقياء المجرمون بأتباعهم الضعفاء، وذكرت ما يدور بينهم من حوار طويل، ينتهي بتكدس الجميع في نار جهنم يصطلون سعيرها، فلم ينفع الأتباع تلك اللعنات والشتائم التي وجهوها إِلى الرؤساء فالكل في السعير، ثم ضربت الآيات مثلاً لكلمة الإِيمان، وكلمة الضلال، بالشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، وختمت السورة ببيان مصير الظالمين يوم الجزاء والدين.

    التســميَــة:

    سميت السورة الكريمة "سورة إبراهيم" تخليداً لمآثر أب الأنبياء، وإِمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام، الذي حطم الأصنام، وحمل راية التوحيد، وجاء بالحنيفية السمحة ودين الإِسلام الذي بعث به خاتم المرسلين، وقد قص علينا القرآن الكريم دعواته المباركة بعد انتهائه من بناء البيت العتيق، وكلها دعوات إلى الإِيمان والتوحيد.

    تنزيل القرآن لهداية الناس

    الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1)اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ(2)الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(3)وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(4)}.

    {الر} هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف المقطعة فأتوا بمثله إِن استطعتم {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أي هذا القرآن كتاب أنزلناه عليك يا محمد، لم تنشئْه أنتَ وإِنما أوحيناه نحن إِليك {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إِلى نور العلم والإِيمان {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بأمره وتوفيقه {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي لتهديهم إلى طريق الله العزيز الذي لا يُغالب، المحمود بكل لسان، الممجَّد في كل مكان .

    {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي المالك لما في السماوات والأرض، الغني عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال الزجاج: {وَوَيْلٌ} كلمة تُقال للعذاب والهلكة، أي هلاك ودمارٌ للكافرين ويا ويلهم من عذاب الله الأليم.

    ثم وضّح صفات أولئك الكفار بقوله {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} أي يفضّلون ويؤثرون الحياة الفانية على الحياة الآخرة الباقية {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يصرفون الناس ويمنعونهم عن دين الإِسلام {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يطلبون أن تكون طريق الله معوجَّة لتوافق أهواءهم {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة في ضلالٍ عن الحق مبين، لا يُرجى لهم صلاح ولا نجاح .

    {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي وما أرسلنا في الأمم الخالية رسولاً من الرسل إِلا بلغة قومه {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي ليبيّن لهم شريعة الله ويفهمهم مراده، لتتمَّ الغاية من الرسالة {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي وليست وظيفة الرسل إِلا التبليغ وأما أمر الهداية والإِيمان فذلك بيد الله يضلُّ من يشاء إِضلاله، ويهدي من يشاء هدايته على ما سبق به قضاؤه المحكم {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه.

    إرسال الله موسى عليه السلام لهداية قومه

    {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(5)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(6)وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7)وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8)}.

    {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} أي أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أن تفسيرية بمعنى أيْ، والمعنى أي أخرج بني إِسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إِلى نور الإِيمان والتوحيد قال أبو حيان: وفي قوله {قَوْمَكَ} خصوصٌ لرسالة موسى إِلى قومه بخلاف قوله لمحمد {لتخرج الناس} مما يدل على عموم الرسالة {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي ذكّرهم بنعمه عليهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي في التذكير بأيام الله لعبراً ودلالات لكل عبد منيب صابر على البلاء، شاكر للنعماء .

    {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا نعم الله الجليلة عليكم {إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي حين نجاكم من الذل والاستعباد من فرعون وزبانيته {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي يذيقونكم أسوأ أنواع العذاب {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يذبحون الذكور ويستبقون الإِناث على قيد الحياة مع الذل والصغار {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي وفي تلك المحنة ابتلاءٌ واختبار لكم من ربكم عظيم. قال المفسرون: وكان سبب قتل الذكور أن الكهنة قالوا لفرعون إِنَّ مولوداً يولد في بني إِسرائيل يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل كل مولود.

    {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} هذا من تتمة كلام موسى أي واذكروا أيضاً حين أعلم ربكم إِعلاماً لا شبهة فيه لئن شكرتم إِنعامي لأزيدنكم من فضلي {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} أي ولئن جحدتم نعمتي بالكفر والعصيان فإِن عذابي شديد، وعدَ بالعذاب على الكفر، كما وعَدَ بالزيادة على الشكر {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي وقال موسى لبني إِسرائيل بعد أن أيس من إِيمانهم لئن كفرتم أنتم وجميع الخلائق فلن تضروا اللهَ شيئاً {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي هو غنيٌّ عن شكر عباده، مستحق للحمد في ذاته وهو المحمود وإِن كفره من كفره.

    أخبار بعض الرسل السابقين

    {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(9)قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(10)قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(11)وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ(12)}.

    {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي ألم يأتكم أخبار من قبلكم من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود ماذا حلَّ بهم لما كذبوا بآيات الله؟ {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي والأمم الذين جاؤوا بعدهم {لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ} أي لا يحصي عددهم إِلا الله {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج الواضحات، والدلائل الباهرات {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أي وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم. وقال ابن مسعود: عضوا أصابعهم غيظاً {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي في شك عظيم من دعوتكم، وقلق واضطراب من دينكم.

    {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أي أجابهم الرسل بقولهم: أفي وجود الله ووحدانيته شك؟ والاستفهام للإِنكار والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة ولهذا لفتوا الانتباه إِلى براهين وجوده بقولهم {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي يدعوكم إِلى الإِيمان ليغفر لكم ذنوبكم {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إِن آمنتم أمدَّ في أعماركم إِلى منتهى آجالكم ولم يعاقبكم في العاجل فيهلككم.

    {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي ما أنتم إِلا بشر مثلنا لا فضل لكم علينا { تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي تريدون أن تصرفونا عن عبادة الأوثان التي كان عليها آباؤنا {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي فأتونا بحجة ظاهرة على صدقكم {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي قالت الرسل: نحن كما قلتم بشر مثلكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يتفضل على من يشاء بالنبوة والرسالة، قال الزمخشري: لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم وسلّموا لقولهم وأنهم بشرٌ مثلُهم في البشرية وحدها، فأمّا ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما ينبغي لنا أن نأتيكم بحجة وآية مما اقترحتموه علينا إِلا بمشيئة الله وإِذنه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي على الله وحده فليعتمد المؤمنون في جميع أمورهم.

    {وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} أي قالت الرسل: أيُّ شيء يمنعنا من التوكل على الله؟ { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} أي والحال أنه قد بصّرنا طريق النجاة من عذابه {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} أي ولنصبرنَّ على أذاكم، قال ابن الجوزي: وإِنما قُصَّ هذا وأمثاله على نبينا صلى الله عليه وسلم ليقتدي بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} ليس هذا تكرارا وإِنما معناه الثبات على التوكل أي فليدوموا وليثبتوا على التوكل عليه وحده.

    تهديد الكفار رسلهم بالطرد

    {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13)وَلَنُسْ كِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ(14)وَاسْتَفْتَحُو ا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(15)مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16)يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ(17)مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ(18)}.

    {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أي قال الكفار للرسل الأطهار والله لنطردنكم من ديارنا أو لترجعنَّ إِلى ديننا {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} أي أوحى الله إِلى الرسل لأهلكنَّ أعداءكم الكافرين المتجبرين {وَلَنُسْكنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي ولأمنحنكم سكنى أرضهم بعد هلاكهم {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} أي ذلك النصر للرسل وإِهلاك الظالمين لمن خاف مقامه بين يديّ وخاف عذابي ووعيدي، قال أبو حيّان: ولما أقسموا على إِخراج الرسل أو العودة في ملتهم أقسم تعالى على إِهلاكهم، وأي إِخراجٍ أعظم من الإِهلاك بحيث لا يكون لهم عودة إِليها أبداً.

    {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي واستنصر الرسل بالله على قومهم وخسر وهلك كل متجبر معاند للحق {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} أي من وراء ذلك الكافر جهنم ويسقى فيها من ماءٍ صديد هو من قيح ودمٍ {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته، ولا يكاد يستسيغه لقبحه وكراهته {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} أي يأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنَّه لا يموت ليستكمل عذابه {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي ومن بين يديه عذابٌ أشدُّ مما قبله وأغلظ.

    {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} أي مثلُ أعمالِ الكفار التي عملوها في الدنيا يبتغون بها الأجر من صدقةٍ وصلة رحم وغيرها مثلُ رمادٍ عصفت به الريح فجعلته هباءً منثوراً {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أي في يومٍ شديد هبوب الريح، قال القرطبي: ضرب الله هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} أي لا يقدر الكفار على تحصيل ثواب ما عملوا من البرِّ في الدنيا لإِحباطه بالكفر، كما لا يستطيع أن يحصل الإِنسان على شيء من الرماد الذي طيَّرته الريح {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي الخسران الكبير.

    لله القدرة المطلقة

    {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(19)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(20)}

    {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي ألم تر أيها المخاطب بعين قلبك وتتأمل ببصيرتك أنَّ اللهَ العظيم الجليل انفرد بالخلق والإِيجاد، وأنه خلق السماوات والأرض ليُستدلَّ بهما على قدرته؟ قال المفسرون: أي لم يخلقهن عبثاً وإِنما خلقهنَّ لأمرٍ عظيم {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي هو قادرٌ على الإِفناء كقدرته على الإِيجاد والإِحياء. قال ابن عباس: يريد أن يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي ليس ذلك بصعبٍ أو متعذرٍ على الله، فإِنَّ القويَّ القادر لا يصعبُ عليه شيء.

    الحوار بين الأشقياء والشيطان وحال السعداء

    {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ(21)وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ(23)}.

    {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} أي خرجوا من قبورهم يوم البعث، وظهروا للحساب لا يسترهم عن الله ساتر. قال الإِمام الفخر الرازي: ورد بلفظ الماضي {وَبَرَزُوا} وإِن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدقٌ وحقٌ، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود، ونظيره {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}

    {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي قال الأتباع والعوام للسادة الكبراء والقادة الذين أضلوهم في الدنيا {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي كنا أتباعاً لكم نأتمر بأمركم { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي هل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} أي قال القادة معتذرين: لو هدانا الله للإِيمان لهديناكم إِليه، ولكن حصل لنا الضلال فأضللناكم فلا ينفعنا العتاب ولا الجزع {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} أي يستوي علينا الجزع والصبر. قال الطبري: إِن أهل النار يجتمعون فيقول بعضهم لبعض: إِنما أدركَ أهلُ الجنةِ ببكائهم وتضرعهم إِلى الله فتعالوْا نبكي ونتضرع إلى الله، فبكوا فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا: تعالوا نصبر فصبروا صبراً لم يُر مثلُه، فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} وقال مقاتل: جزعوا خمسمائة عام، وصبروا خمسمائة عام {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أي ليس لنا من مهرب أو ملجأ.

    {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} هذه هي الخطبة البتراء التي يخطب بها إِبليس في محفل الأشقياء في جهنم أي لمّا فُرغ من الحساب ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} أي وعدكم وعداً حقاً بإِثابة المطيع وعقاب العاصي فوفَّى لكم وعده {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي وعدتكم ألاّ بعث ولا ثواب ولا عقاب فكذبتكم وأخلفتكم الوعد {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي لم يكن لي قدرة وتسلط وقهر عليكم فأقهركم على الكفر والمعاصي {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أي إِلا دعائي إِياكم إِلى الضلالة بالوسوسة والتزيين فاستجبتم لي باختياركم {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} أي لا ترجعوا باللوم عليَّ اليوم ولكن لوموا أنفسكم فإِن الذنب ذنبكم .

    {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي ما أنا بمغيثكم ولا أنتم بمغيثيَّ من عذاب الله {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} أي كفرت بإِشراككم لي من الله في الطاعة {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي إِن المشركين لهم عذاب مؤلم. قال المفسرون: هذه الخطبة إِنما تكون إِذا استقر أهل الجنةِ في الجنة، وأهلُ النار في النار، فيأخذ أهل النار في لوم إِبليس وتقريعه فيقوم فيما بينهم خطيباً بما أخبر عنه القرآن. وقال الحسن: يقف إِبليس يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبرٍ من نار يسمعه الخلائق جميعاً.

    {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} لمّا ذكر تعالى أحوال الأشقياء، ذكر بعده أحوال السعداء، ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والرجاء أي أدخلهم الله تعالى جناتٍ تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ماكثين فيها أبداً بأمره تعالى وتوفيقه وهدايته {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي تُحَيِّهم الملائكة بالسلام مع الإِجلال والإِكرام.

    مثل الكلمة الطيبة والخبيثة

    {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24)تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)وَمَثَل ُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ(26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(27)}

    {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} هذا مثلٌ ضربه الله لكلمة الإِيمان وكلمة الإِشراك، فمثَّل لكلمة الإِيمان بالشجرة الطيبة، ولكلمة الإِشراك بالشجرة الخبيثة، قال ابن عباس: الكلمة الطيبة "لا إِله إِلا الله" والشجرة الطيبة "المؤمن" {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي أصلها راسخ في الأرض وأغصانها ممتدة نحو السماء .

    {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي تعطي ثمرها كلَّ وقت بتيسير الخالق وتكوينه، كذلك كلمة الإِيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعملُه يصعد إِلى السماء ينال بركته وثوابه في كل وقت {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي يبيّن لهم الأمثال لعلهم يتعظون فيؤمنون.

    {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} أي ومثل كلمة الكفر الخبيثة كشجرة الحَنْظل الخبيثة {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} أي استؤصلت من جذورها واقتلعت من الأرض لعدم ثبات أصلها {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} أي ليس لها استقرارٌ وثبات، كذلك كلمة الكفر لا ثبات لها ولا فرع ولا بركة، قال ابن الجوزي: شُبه ما يكسبه المؤمن من بركة الإِيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين، فالمؤمن كلما قال "لا إِله إِلا الله" صعدت إِلى السماء ثم جاء خيُرها ومنفعتها، والكافر لا يُقبل عمله ولا يصعد إِلى الله تعالى، لأنه ليس له أصل في الأرض ثابت، ولا فرع في السماء .

    {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي يثبتهم على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" وعلى الإِيمان في هذه الحياة فلا يزيغون ولا يُفْتنون {وَفِي الآخِرَةِ} أي عند سؤال الملكين في القبر كما في الحديث الشريف (المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } .. الآية {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} أي لا يهديهم في الحياة ولا عند سؤال الملكين وقت الممات {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي من هداية المؤمن وإِضلال الكافر لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.

    التحذير من عصيان الله، والأمر بالصلاة والإنفاق

    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ(28)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ(29)وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ(30)قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ(31)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (28):

    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا..} قال ابن عباس: هؤلاء هم كفار مكة. وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا في المبدّلين: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر - أو فكفيتموهم - وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.

    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} استفهام للتعجيب أي ألا تعجب أيها السامع من أولئك الذين غيَّروا نعمة الله بالكفر والتكذيب؟ قال المفسرون: هم كفار مكة فقد أسكنهم الله حرمه الآمن، وجعل عيشهم في السِّعة، وبعث فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، وكفروا به وكذبوه، فابتلاهم الله بالقحط والجدب {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} أي أنزلوا قومهم دار الهلاك بكفرهم وطغيانهم ثم فسَّرها بقوله {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي أحلوهم في جهنم يذوقون سعيرها وبئست جهنم مستقراً.

    {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي جعلوا لله شركاء مماثلين عبدوهم كعبادته ليُضلوا الناس عن دين الله {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أي استمتعوا بنعيم الدنيا فإِن مردَّكم ومرجعكم إِلى عذاب جهنم، وهو وعيد وتهديد.

    {قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا فلْيقيموا الصلاة المفروضة عليهم ويؤدوها على الوجه الأكمل {وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي ولينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الزرق خفيةً وجهرةً {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} أي من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا صداقة، ولا فداء ولا شفاعة.

    دلائل وجوده تعالى ونعمه على عباده

    {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ(32)وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)وَآتَاكُم ْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34)}.

    ولما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ختم ذلك بذكر الدلائل الدالة على وجود الخالق الحكيم فقال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي أبدعهما واخترعهما على غير مثال سبق {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل من السحاب المطر {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} أي أخرج بالمطر من أنواع الزروع والثمار رزقاً للعباد يأكلونه {وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي ذلَّل السفن الكبيرة لتسير بمشيئته، تركبونها وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إِلى بلد {وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ} أي الأنهار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا {وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أي وذلَّل لكم الشمس والقمر يجريان بانتظام لا يفتران، لصلاح أنفسكم ومعاشكم {وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار، هذا لمنامكم وذاك لمعاشكم .

    {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي أعطاكم كل ما تحتاجون إِليه، وما يصلح أحوالكم ومعاشكم، مما سألتموه بلسان الحال أو المقال {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} أي وإِن تعدُّوا نِعَم اللهِ عليكم لا تطيقوا حصرها وعدَّها، فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها عدد {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الإِنسان اسم جنس أي إن الإِنسان لمبالغٌ في الظلم والجحود، ظالمٌ لنفسه بتعديه حدود الله، جحودٌ لنعم الله، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفَّار في النعمة يجمع ويمنع.

    دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام

    {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ(35)رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(36)رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37)رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(38)الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ(39)رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ(40)رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ(41)}.

    {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} أي اجعل مكة بلد أمنٍ يأمن أهله وساكنوه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} أي احمني يا رب وجنبني وأولادي عبادة الأصنام، والغرضُ تثبيتُه على ملة التوحيد والإِسلام {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} أي يا ربّ إِنَّ هذه الأصنام أضلَّت كثيراً من الخلق عن الهداية والإِيمان {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي فمن أطاعني وتبعني على التوحيد فإِنه من أهل ديني {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ومن خالف أمري فإِنك يا رب غفار الذنوب رحيمٌ بالعباد .

    {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} كرّر النداء رغبةً في الإِجابة وإِظهاراً للتذلل والإِلتجاء إلى الله تعالى أي يا ربنا إني أسكنت من أهلي - ولدي إسماعيل وزوجي هاجر- { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} أي بوادٍ ليس فيه زرع في جوار بيتك المحرم، وهو وادي مكة شرفها الله تعالى {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً} أي يا ربنا لكي يعبدوك ويقيموا الصلاة أسكنتهم بهذا الوادي فاجعل قلوبَ الناسِ تحنُّ وتسرع إِليهم شوقاً، قال ابن عباس: لو قال (أفئدة الناس) لازدحمت عليه فارس والروم والناسُ كلهم، ولكنْ قال {مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} فهم المسلمون {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} أي وارزقهم في ذلك الوادي القفر من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نِعمك، وقد استجاب الله دعاءه، فجعل مكة حرماً آمناً يجبى إليها ثمرات كل شيء رزقاً من عند الله .

    {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أي يا ربنا إِنك العالم لما في القلوب تعلم ما نسرُّ وما نظهر {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي لا يغيب عليه تعالى شيء في الكائنات، سواء منها ما كان في الأرض أو في السماء، فكيف تخفى عليه وهو خالقها وموجدها؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} أي الحمد لله الذي رزقني على كبر سني وشيخوختي إِسماعيل وإِسحاق. قال ابن عباس: ولد له إِسماعيل وهو ابن تسعٍ وتسعين، وولد له إِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي مجيبٌ لدعاء من دعاه.

    {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} هذه هي الدعوة السادسة من دعوات الخليل عليه السلام أي يا رب اجعلني ممن حافظ على الصلاة واجعل من ذريتي من يقيمها أيضاً، وهذه خير دعوةٍ يدعوها المؤمن لأولاده فلا أحبَّ له من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته لأنها عماد الدين {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} أي تقبَّلْ واستجبْ دعائي فيما دعوتك به .

    {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} هذه هي الدعوة السابعة وبها ختم إِبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بالاستغفار له ولوالديه ولجميع المؤمنين، يوم يقوم الناس لرب العالمين. قال المفسرون: استغفر لوالديه قبل أن يتبيَّن له أنَّ أباه عدوٌ لله. قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه.

    من مشاهد يوم القيامة وأهوالها

    {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)مُهْطِعِين َ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ(43)وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44)وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ(45)وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ(47)يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(48)وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(49)سَرَابِيلُ هُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ(50)لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(51)هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(52)}

    وينتقل السياق إِلى مشاهد القيامة وما فيها من الأهوال حين تتزلزل القلوب والأقدام {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} أي لا تظننَّ يا محمد أنَّ الله ساهٍ عن أفعال الظلمة، فإِن سنة الله إِمهال العصاة ثم يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، قال ميمون بن مِهْران: هذا وعيدٌ للظالم، وتعزيةٌ للمظلوم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} أي إِنما يؤخرهم ليومٍ رهيب عصيب، تَشْخص فيه الأبصار من الفزع والهَلع، فتظلُّ مفتوحة مبهوتة لا تطرف ولا تتحرك، قال أبو السعود: تبقى أبصارهم مفتوحة لا تتحرك أجفانهم من هول ما يرونه .

    {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} أي مسرعين لا يلتفتون إِلى شيء رافعين رؤوسهم مع إِدامة النظر، قال الحسن: وجوه الناس يومئذٍ إِلى السماء لا ينظر أحدٌ إِلى أحد {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا يطرفون بعيونهم من الخوف والجزع {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي قلوبهم خالية من العقل لشدة الفزع {وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ} أي خوّف يا محمد الكفار من هول يوم القيامة حين يأتيهم العذاب الشديد {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي فيتوجه الظالمون يومئذٍ إلى الله بالرجاء يقولون يا ربنا أمهلنا إِلى زمنٍ قريب لنستدرك ما فات {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ} أي نجب دعوتك لنا إِلى الإِيمان ونتّبع رسلك فيما جاؤونا به .

    {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً: ألم تحلفوا أنكم باقون في الدنيا لا تنتقلون إِلى دار أخرى؟ والمراد إِنكارهم للبعث والنشور {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أي سكنتم في ديار الظالمين بعد أن أهلكناهم، فهلاَّ اعتبرتم بمساكنهم؟ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} أي تبيَّن لكم بالإِخبار والمشاهدة كيف أهلكناهم وانتقمنا منهم {وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ} أي بينا لكم الأمثال في الدنيا فلم تعتبروا {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} أي مكر المشركون بالرسول وبالمؤمنين حين أرادوا قتله {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} أي وعند الله جزاء هذا المكر فإِنه محيط بهم وبمكرهم {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} أي وإِن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إِلى زوال الجبال ولكنَّ الله عصَم ووقى منه .

    {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي لا تظننَّ أيها المخاطب أن الله يخلف رسله ما وعدهم به من النصر وأخذ الظالمين المكذبين {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} أي إِنه تعالى غالبٌ لا يعجزه شيء منتقم ممن عصاه {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي ينتقم من أعدائه يوم الجزاء، يوم تتبدل هذه الأرض أرضاً أخرى، وتتبدل السماوات سموات أخرى. قال ابن مسعود: تُبدَّل الأرضُ بأرضٍ كالفضة نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة .

    {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم، ومثلوا أمام أحكم الحاكمين، لا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واقٍ، ليسوا في دورهم ولا في قبورهم، وإِنما هم في أرض المحشر أمام الواحد القهار {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أي وفي ذلك اليوم الرهيب تبصر المجرمين مشدودين مع شياطينهم بالقيود والأغلال، قال الطبري: أي مقرَّنة أيديهم وأرجُلهم إِلى رقابهم بالأصفاد وهي الأغلال والسلاسل {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران وهي مادة يسرع فيها اشتعال النار، تُطلى بها الإِبل الجربى فيحرق الجربَ بحرّه وحدته، وهو أسود اللون منتنُ الريح {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} أي تعلوها وتحيط بها النار، جزاء المكر والاستكبار {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} أي برزوا يوم القيامة لأحكم الحاكمين ليجازيهم الله على أعمالهم، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي لا يشغله شأن عن شأن، يحاسب جميع الخلق في أعجل ما يكون من الزمان، في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا كما ورد به الأثر .

    {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} أي هذا القرآن بلاغٌ لجميع الخلق من إنس وجان، أَنزل لتبليغهم بما فيه من فنون العبر والعظات {وَلِيُنذَرُوا بِهِ} أي لكي يُنصحوا به ويخوّفوا من عقاب الله {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي ولكي يتحققوا فيما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة، على أنه تعالى واحد أحدٌ، فردٌ صمد {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة، وهم السعداء أهل النُّهى والصلاح.

     
  3. #38
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة الحجر

    وصف القرءان لحال الكافرين

    تقولات المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم وإفحامهم

    البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته تعالى

    مبدأ خلق الإنسان، وقدرة الله على الإحياء والإماتة ، وعداوة إبليس لبني آدم

    جزاء المتقين يوم القيامة

    مغفرة الله وعذابه

    قصة ضيف إبراهيم

    قصة قوم شعيب وثمود

    عطايا الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالجهر بدعوته

    بَين يَدَي السُّورَة

    * سورة الحِجْر من السور المكية، التي تستهدف المقاصد الأساسية للعقيدة الإِسلامية "الوحدانية، النبوة، البعث و الجزاء" ومحور السورة يدور حول مصارع الطغاة والمكذبين لرسل الله في شتَّى الأزمان والعصور، ولهذا ابتدأت السورة بالإِنذار والتهديد، ملفَّعاً بظلٍ من التهويل والوعيد {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.

    * عرضت السورة لدعوة الأنبياء، وبينت موقف أهل الشقاوة والضلالة من الرسل الكرام، فما من نبيٍّ إلا سخر منه قومه الضالون، من لدن بعثة شيخ الأنبياء "نوح" عليه السلام، إلى بعثة خاتم المرسلين، وقد بينت السورة أن هذه سنة المكذبين، في كل زمان وحين {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ..} الآيات.

    * وعرضت السورة إلى الآيات الباهرات، المنبثة في صفحة هذا الكون العجيب، الذي ينطق بآثار اليد المبدعة، ويشهد بجلال عظمة الخالق الكبير، بدءاً بمشهد السماء، فمشهد الأرض، فمشهد الرياح اللواقح، فمشهد الحياة والموت، فمشهد الحشر والنشر، وكلُّها ناطقة بعظمة الله وجلاله، وشاهدة بوحدانيته وقدرته {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ..} الآيات.

    * وعرضت السورة إلى قصة "البشرية الكبرى" قصة الهدى والضلال ممثلة في خلق آدم عليه السلام، وعدوه اللدود إبليس اللعين، وما جرى من سجود الملائكة لآدم، واستكبار إبليس عن السجود، واعتراضه على أمر الله وتوعده لذرية آدم {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ..} الآيات.

    * ومن قصة آدم تنتقل السورة إلى قصص بعض الأنبياء، تسليةً لرسول الله عليه السلام، وتثبيتاً لقلبه الشريف لئلا يتسرب إليه اليأس والقنوط، فتذكر قصة لوط، وشعيب، وصالح عليهم السلام، وما حل بأقوامهم المكذبين.

    * وتختم السورة الكريمة بتذكير الرسول صلى الله عليه وسلم بالنعمة العظمى عليه، بإنزال هذا الكتاب المجيد المعجز، وتأمره بالصبر والسلوان على ما يلقاه من أذى المشركين، وتبشره بقرب النصر له وللمؤمنين {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالقرءان الْعَظِيمَ..} إلى آخر السورة الكريمة.

    التســميَــة :

    سميت السورة الكريمة "سورة الحِجر" لأن الله تعالى ذكر ما حدث لقوم صالح، وهم قبيلة ثمود - وديارهم في الحِجر بين المدينة والشام - فقد كانوا أشداء ينحتون الجبال ليسكنوها، وكأنهم مخلدون في هذه الحياة، لا يعتريهم موت ولا فناء، فبينما هم آمنون مطمئنون جاءتهم صيحة العذاب في وقت الصباح {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

    وصف القرءان لحال الكافرين

    {الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ(1)رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ(2)ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(3)وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ(4)مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(5)}

    {الر} إشارة إلى إعجاز القرءان أي هذا الكتاب العجيب المعجز كلام الله تعالى وهو منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية الألف واللام والراء {تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ} أي هذه ءايات الكتاب، الكامل في الفصاحة والبيان، المتعالي عن الطاقة البشرية، {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} أي قرآنٍ عظيم الشأن، واضح بيّن، لا خلل فيه ولا اضطراب {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ربما تمنى الكفار {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} أي لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك عند معاينة أهوال الآخرة {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} أي دَعْهم يا محمد يأكلوا كما تأكل البهائم، ويستمتعوا بدنياهم الفانية {وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ} أي يشغلهم الأمل بطول الأجل، عن التفكر فيما ينجيهم من عذاب الله {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة أمرهم إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا، وهو وعيد وتهديد {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى الظالمة التي كذبت رسل الله {إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أي إلا لها أجل محدود لإِهلاكها {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي لا يتقدم هلاك أمةٍ قبل مجيء أوانه {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي ولا يتأخر عنهم، قال ابن كثير: وهذا تنبيهٌ لأهل مكة وإِرشاد لهم إلى الإِقلاع عما هم عليه من العِناد والإِلحاد الذي يستحقون به الهلاك.

    تقولات المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم وإفحامهم

    {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6)لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(7)مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ(8)إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ(10)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(11)كَذَلِ كَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12)لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ(13)وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14)لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ(15)}

    سبب النزول:

    قال قتادة: القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة من صناديد قريش.

    {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} قال كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على جهة الاستهزاء والتهكم: يا من تزعم وتدعي أن القرءان نزل عليك {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أي إنك حقاً لمجنون، أكّدوا الخبر بإنَّ واللام مبالغة في الاستخفاف والاستهزاء بمقامه الشريف عليه السلام {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي هلاّ جئتنا بالملائكة لتشهد لك بالرسالة إن كنت صادقاً في دعواك أنك رسول الله!! قال تعالى رداً عليهم {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ} أي ما ننزّل ملائكتنا إلا بالعذاب لمن أردنا إهلاكه {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} أي وفي هذه الحالة وعندئذٍ لا إمهال ولا تأجيل، والغرض أن عادة الله تعالى قد جرت في خلقه أنه لا ينزل الملائكة إلا لمن يريد إهلاكهم بعذاب الاستئصال، وهو لا يريد ذلك مع أمته صلى الله عليه وسلم لعلمه تعالى أنه يخرج من أصلابهم من يعبد الله، ففيه ردٌ عليهم فيما اقترحوا {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} أي نحن بعظمة شأننا نزلنا عليك القرءان يا محمد {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي ونحن الحافظون لهذا القرءان، نصونه عن الزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، قال المفسرون: تكفَّل الله بحفظ هذا القرءان، فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان، ولا على التبديل والتغيير كما جرى في غيره من الكتب فإن حفظها موكولٌ إلى أهلها لقوله تعالى {بما استحفظوا من كتاب الله} وانظر الفرق بين هذه الآية {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حيث ضمن حفظه وبين الآية السابقة حيث وكل حفظه إليهم فبدَّلوا وغيَّروا {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً في طوائف وفرق الأمم الأولين {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي وما جاءهم رسولٌ إلاّ سخروا منه واستهزؤوا به، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فُعل بمن قبلك من الرسل فلا تحزن {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي كذلك نسلك الباطل والضلال والاستهزاء بأنبياء الله في قلوب المجرمين، كما سلكناه وأدخلناه في قلوب أولئك المستهزئين {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي لا يؤمنون بهذا القرءان وقد مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك والدمار؟ ثم بيَّن تعالى أن كفار مكة لا ينقصهم توافر براهين الإِيمان فهم معاندون مكابرون، وفي ضلالهم وعنادهم سائرون فقال {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} أي لو فرض أننا أصعدناهم إلى السماء، وفتحنا لهم باباً من أبوابها، فظلوا يصعدون فيه حتى شاهدوا الملائكة والملكوت {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أي لقالوا - لفرطِ مكابرتهم وعنادهم - إنما سُدَّت أبصارنا وخُدعت بهذا الارتقاء والصعود {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي سحرنا محمد وخيَّل إلينا ذلك وما هو إلا سحر مبين، قال الرازي: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج، وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه، وإِلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكّوا في تلك الرؤية،وبقوا مصرين على الكفر والعناد كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر، والقرءان المعجز الذي لا يستطيع الجن والإِنس أن يأتوا بمثله.

    البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته تعالى

    {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ(16)وَحَفِظ ْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(17)إِلا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ(18)وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ(19)وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ(20)وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ(21)وَأَرْسَلْنَ ا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ(22)وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ(23)وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ(24)وَإ ِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(25)}

    ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} أي جعلنا في السماء منازل تسير فيها الأفلاك والكواكب {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} أي زيناها بالنجوم ليُسرَّ الناظر إليها {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي حفظنا السماء الدنيا من كل شيطان لعين مطرود من رحمة الله {إِلا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} أي إلا من اختلس شيئاً من أخبار السماء فأدركه ولحقه شهاب ثاقب فأحرقه {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي بسطناها ووسعناها وجعلنا فيها جبالاً ثوابت {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} أي أنبتنا في الأرض من الزروع والثمار من كل شيءٍ موزون بميزان الحكمة، بدقةٍ وإحكام وتقدير {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي ما تعيشون به من المطاعم والمشارب {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أي وجعلنا لكم من العيال والمماليك والأنعام من لستم له برازقين، لأننا نخلق طعامهم وشرابهم لا أنتم {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} أي ما من شيء من أرزاق الخلق والعباد ومنافعهم إلا عندنا خزائنه ومستودعاته {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أي ولكن لا ننزله إلا على حسب حاجة الخلق إليه، وعلى حسب المصالح، كما نشاء ونريد {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أي تلقَّح السحاب فيدر ماءً، وتلقّح الشجر فيتفتَّح عن أوراقه وأكمامه، فالريح كالفحل للسحاب والشجر { فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي فأنزلنا من السحاب ماءً عذباً، جعلناه لسقياكم ولشرب أرضكم ومواشيكم {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} أي لستم بقادرين على خزنه بل نحن بقدرتنا نحفظه لكم في العيون والآبار والأنهار، ولو شئنا لجعلناه غائراً في الأرض فهلكتم عطشاً كقوله {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ معين}؟ {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} أي الحياة والموت بيدنا ونحن الباقون بعد فناء الخلق، نرث الأرض ومن عليها وإلينا يُرجعون {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} أي أحطنا علماً بالخلق أجمعين، الأموات منهم والأحياء، قال ابن عباس: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: المستقدمون: الأمم السابقة، والمستأخرون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والغرضُ أنه تعالى محيطٌ علمه بمن تقدم وبمن تأخر، لا يخفى عليه شيء من أحوال العباد، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} أي وإن ربك يا محمد هو يجمعهم للحساب والجزاء {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه.

    مبدأ خلق الإنسان، وقدرة الله على الإحياء والإماتة ، وعداوة إبليس لبني آدم

    {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(26)وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27)وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(28)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(29)فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30)إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(31)قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(32)قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(33)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34)وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(35)قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(37)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38)قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39)إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(40)قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41)إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42)وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ(43)لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ(44)}

    ولما ذكر تعالى الموت والفناء، والبعث والجزاء، نبههم إلى مبدأ أصلهم وتكوينهم من نفسٍ واحدة، ليشير إلى أن القادر على الإِحياء قادر على الإِفناء والإِعادة، وذكّرهم بعداوة إبليس لأبيهم آدم ليحذروه فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} أي خلقنا آدم من طين يابسٍ يسمع له صَلْصلة أي صوت إذا نُقر {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أي من طين أسود متغيّر {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} أي ومن قبل آدم خلقنا الجانَّ - أي الشياطين ورئيسهم إبليس - من نار السموم وهي النار الحارة الشديدة التي تنفذ في المسامّ فتقتل بِحرها، قال المفسرون: عني بالجانِّ هنا "إبليس" أبا الجنِّ لأن منه تناسلت الجن فهو أصل لها كما أن آدم أصل للإِنس {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أي اذكر يا محمد وقت قول ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين يابسٍ، أسود متغيّر، قال ابن كثير: فيه تنويهٌ بذكر آدم في الملائكة قبل خلقه له، وتشريفه إيّاه بأمر الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي سويت خَلْقه وصورته، وجعلته إنساناً كاملاً معتدل الأعضاء {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} أي أفضتُ عليه من الروح التي هي خلقٌ من خلقي فصار بشراً حياًُ {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي خروا له ساجدين، سجود تحيةٍ وتكريم لا سجود عبادة، قال المفسرون: وإنما أضاف الروح إليه تعالى على سبيل التشريف والتكريم كقوله "بيت الله، ناقة الله! شهر الله" وهي من إضافة الملك إلى المالك، والصنعة إلى الصانع {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أي سجد لآدم جميع الملائكة لم يمتنع منهم أحد {إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} الاستثناء منقطع لأن إبليس خلقٌ آخر غير الملائكة، فهو من نار وهم من نور، وهم لا يعصون الله ما أمرهم وهو أبى وعصى، فليس هو من الملائكة بيقين، ولكنه كان بين صفوفهم فتوجه إليه الخطاب والمعنى: سجد جميع الملائكة لكنْ إبليس امتنع من السجود بعد أن صدر له الأمر الإِلهي {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} أي ما المانع لك من السجود؟ وأيُّ داعٍ دعا بك إلى الإِباء والامتناع؟ وهو استفهام تبكيتٍ وتوبيخ {قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أي قال إبليس: لا ينبغي ولا يليق لمثلي أن يسجد لآدم وهو مخلوق من طينٍ يابسٍ متغير، فهو من طينٍ وأنا من نار فكيف يسجد العظيم للحقير، والفاضل للمفضول؟ رأى عدوُّ الله نفسه أكبر من أن يسجد لآدم، ومنعه كبره وحسده عن امتثال أمر الله {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي اخرجْ من السماوات فإنك مطرودٌ من رحمتي {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} أي وإن عليك لعنتي إلى يوم الجزاء والعقوبة {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي قال اللعين: أمهلني وأخرني إلى يوم البعث {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي قال له الله: إنك من المؤجلين إلى حين موتِ الخلائق، قال القرطبي: أراد بسؤاله الإِنظار - إلى يوم يبعثون - ألا يموت، لأن البعث لا موتَ بعده، فأجابه المولى بالإِنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم موت الخلائق، فيموت إبليس ثم يُبعث {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي بسبب إغوائك وإضلالك لي {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} أي لأزينَّن لذرية آدم المعاصي والآثام {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولأضلَّنهم عن طريق الهدى أجمعين {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} أي إلا من استخلصته من عبادك لطاعتك ومرضاتك فلا قدرة لي على إِغوائه {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أي قال تعالى: هذا طريق مستقيم واضح، وسنة أزليةٌ لا تتخلف وهي {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي إن عبادي المؤمنين لا قوة لك على إضلالهم { إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} استثناء منقطع لأن الغاوين ليسوا من عباد الله المخلصين والمعنى لكنْ من غوى وضل من الكافرين فلك عليهم تسلط، لأن الشيطان إنما يتسلط على الشاردين عن الله، كما يتسلط الذئب على الشاردة من القطيع {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي موعد إبليس وأتباعه جميعاً {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أي لجهنم سبعة أبواب يدخلون منها لكثرتهم وروي عن عليّ أنها أطباقٌ، طبقٌ فوق طبق وأنها دركاتٌ بعضها أشد من بعض {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} أي لكل جماعة من أتباع إبليس بابٌ معينٌ معلوم، قال ابن كثير: كلٌ يدخل من بابٍ بحسب عمله، ويستقر في دَرَكٍ بقدر عمله.

    جزاء المتقين يوم القيامة

    {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(45)ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ(46)وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ(47)لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (45):

    {إِنَّ الْمُتَّقِينَ }: أخرج الثعلبي عن سلمان الفارسي أنه لما سمع قوله تعالى: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} فرّ ثلاثة أيام هارباً من الخوف، لا يعقل، فجيء به للنبي صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} فوالذي بعثك بالحق، لقد قطَّعت قلبي، فأنزل الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.

    نزول الآية (47):

    {وَنَزَعْنَا ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قيل: وأي غل؟ قال: غل الجاهلية، إن بني تميم، وبني عدي، وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية عداوة، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده، فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية.

    {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي إن الذين اتقوا الفواحش والشرك لهم في الآخرة البساتين الناضرة، والعيون المتفجرة بالماء والسلسبيل والخمر والعسل {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} أي يقال لهم: أُدخلوا الجنة سالمين من كل الآفات، آمنين من الموت ومن زوال هذا النعيم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أي أزلنا ما في قلوب أهل الجنة من الحقد والبغضاء والشحناء {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} أي حال كونهم إخوةً متحابين لا يكدّر صفوهم شيء، على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه، قال مجاهد: لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض زيادةً في الأنس والإِكرام، وقال ابن عباس: على سررٍ من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت والزبرجد {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} أي لا يصيبهم في الجنة إعياءٌ وتعب {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أي لا يُخْرجون منها ولا يُطردون، نعيمهم خالد، وبقاؤهم دائم، لأنها دار الصفاء والسرور.

    مغفرة الله وعذابه

    {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ(50)}

    {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغفُورُ الرَّحِيمُ} أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين بأني واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} أي وأخبرهم أنَّ عذابي شديد لمن أصرَّ على المعاصي والذنوب، قال أبو حيان: وجاء قوله {وَأَنَّ عَذَابِي} في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة (وأني المعذّب المؤلم) وكل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة.

    قصة ضيف إبراهيم

    {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ(51)إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ(52)قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ(53)قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ(54)قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ(55)قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ(56)قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(57)قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ(58)إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ(59)إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ(60)فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ(61)قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ(62)قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ(63)وَأَتَيْنَ اكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(64)فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ(65)وَقَضَيْنَ ا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ(66)وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ(67)قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ(68)وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ(69)قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ(70)قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(71)لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)فَأَخَذَتْ هُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ(73)فَجَعَلْنَ ا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ(74)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ(75)وَإ ِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ(76)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ(77)}

    سبب النزول:

    أخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه يضحكون، فقال: "أتضحكون، وذِكْر الجنة والنار بين أيديكم، فنزلت هذه الآية: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم}".

    {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} أي وأخبرهم عن قصة ضيوف إبراهيم، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإِهلاك قوم لوط، وكانوا عشرة على صورة غلمانٍ حسانٍ معهم جبريل {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} أي حين دخلوا على إبراهيم فسلَّموا عليه {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي قال إبراهيم إنّا خائفون منكم، وذلك حين عرض عليهم الأكل فلم يأكلوا {قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي قالت الملائكة لا تخف فإنا نبشرك بغلام واسع العلم، عظيم الذكاء، هو إسحاق {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} أي قال إبراهيم أبشرتموني بالولد على حالة الكبر والهرم، فبأي شيء تبشروني؟ قال ذلك على وجه التعجب والاستبعاد {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} أي بشرناك باليقين الثابت فلا تستبعدْه ولا تيأس من رحمة الله {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} استفهام إنكاري أي لا يقنط من رحمة الله إلا المخطئون طريق المعرفة والصواب، الجاهلون برب الأرباب، أما القلب العامر بالإِيمان، المتصل بالرحمن، فلا ييأس ولا يقنط، قال البيضاوي: وكان تعجب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يخلق بشراً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ وعجوزٍ عاقر؟ ولذلك أجابهم بذلك الجواب {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي قال إبراهيم ما شأنكم وما أمركم الذي جئتم من أجله أيها الملائكة الكرام؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} أي أرسلنا ربنا إلى قومٍ مشركين ضالين لإِهلاكهم يعنون قوم لوط {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إلا أتباعَ لوط وأهلَه المؤمنين، فسننجيهم من ذلك العذاب أجمعين {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ} أي إلا امرأة لوط فقد قدَّر الله بقاءها في العذاب مع الكفرة الهالكين، قال القرطبي: استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} أي فلما أتى رسلُ الله لوطاً عليه السلام {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي قال لهم إنكم قوم لا أعرفكم فماذا تريدون؟ {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي قالوا له بل نحن رسل، جئناك بما كان فيه قومك يشكُّون فيه وهو نزول العذاب الذي وعدتهم به {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي أتيناك بالحق اليقين من عذابهم وإنا لصادقون فيما نقول {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} أي سرْ بأهلك في طائفةٍ من الليل {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} أي كنْ من ورائهم وسرْ خلفهم لتطمئنَّ عليهم {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} أي لا يلتفتْ أحد منكم وراءه لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم فيرتاع {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي سيروا حيث يأمركم الله عز وجل، قال ابن عباس: يعني الشام {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} أي أوحينا إلى لوط ذلك الأمر العظيم، أولئك المجرمين سيُستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحدٌ {مُصْبِحِين} أي إذا دخل الصباح تمَّ هلاكهم واستئصالهم {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} أي جاء أهل مدينة سدوم - وهم قوم لوطٍ - مسرعين يستبشرون بأضيافه، طمعاً في ارتكاب الفاحشة بهم، ظناً منهم أنهم أناسٌ أمثالهم، قال المفسرون: أُخبر أولئك السفهاء أن في بيت لوطٍ شباناً مرداً حساناً فأسرعوا فرحين يبشّر بعضهم بعضاً بأضياف لوط {قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ} أي هؤلاء ضيوفي فلا تقصدوهم بسوء فتُلحقوا بي العار وتفضحوني أمامهم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} أي خافوا الله أن يحلَّ بكم عقابه، ولا تهينوني بالتعرض لهم بالمكروه {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي قالوا ألم نمنعك عن ضيافة أحد؟ قال الرازي: المعنى ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحدٍ من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي هؤلاء النساء فتزوجوهنَّ ولا تركنوا إلى الحرام إن كنتم تريدون قضاء الشهوة،قال المفسرون: المراد بقوله {بناتي} بناتُ أمته لأن كل نبيٍّ يعتبر أباً لقومه {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي وحياتك يا محمد إن قوم لوط لفي ضلالهم وجهلهم يتخبطون ويترددون، وهذه جملة اعتراضية جاءت ضمن قصة لوط قسماً بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم تكريماً له وتشريفاً، قال ابن عباس: "وما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرمَ على الله من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعتُ اللهَ أقسم بحياة أحدٍ غيره {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} أي أخذتهم صيحةُ العذاب المهلكة المدمرة وقت شروق الشمس {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي قلبناها بهم فجعلنا أعالي المنازل أسافلها، قال المفسرون: حمل جبريل عليه السلام قريتهم واقتلعها من جذورها، حتى رأوا الأفلاك وسمعوا تسبيح الأملاك ثم قلبها بهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} أي أنزلنا عليهم حجارة كالمطر من طين طبخ بنار جهنم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي فيما حلَّ بهم من الدمار والعذاب لدلالات وعلامات للمعتبرين، المتأملين بعين البصر والبصيرة {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} أي وإن هذه القرى المهلكة، وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه، لبطريقٍ ثابتٍ لم يندرس، يراها المجتازون في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لعبرةً للمصدّقين.

    قصة قوم شعيب وثمود

    {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ(78)فَانْتَقَ مْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ(79)وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ(80)وَءاتَي ْنَاهُمْ ءايَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(81)وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ(82)فَأَخَذَتْهُم ْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ(83)فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(84)وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(85)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ(86)}

    {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} أي وإنه الحال والشأن كان قوم شعيب - وهم أصحاب الأيكة أي الشجر الكثير الملتف - لظالمين بتكذيبهم شعيباً، وقطعهم الطريق، وتطفيفهم المكيال والميزان {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي أهلكناهم بالرجفة وعذاب يوم الظُلَّة، قال المفسرون: اشتد الحر عليهم سبعة أيام حتى قربوا من الهلاك، فبعث الله عليهم سحابة كالظلة، فالتجؤوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم جميعاً {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} أي وإن قرى قوم لوط وشعيب لطريق واضح أفلا تعتبرون بهم يا أهل مكة؟ {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} هذه هي القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام أي كذبت ثمود نبيَّهم صالحاً - والحجرُ وادٍ بين المدينة والشام وآثاره باقية يمرُّ عليها المسافرون - قال البيضاوي: ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذب الجميع ولذا قال {الْمُرْسَلِينَ} {وَءاتَيْنَاهُمْ ءايَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي وأريناهم معجزاتنا الدالة على قدرتنا مثل الناقة وما فيها من العجائب فكانوا لا يعتبرون بها ولا يتَّعظون، قال ابن عباس: كان في الناقة آيات: خروجُها من الصخرة، ودنوُّ ولادتها عند خروجها، وعظمُ خَلْقها فلم تشبهها ناقة، وكثرةُ لبنها حتى كان يكفيهم جميعاً فلم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} أي كانوا ينقبون الجبال فيبنون فيها بيوتاً آمنين يحسبون أنها تحميهم من عذاب الله {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أي أخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ما دفع عنهم عذابَ الله وما كانوا يشيدونه من القلاع والحصون {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} أي وما خلقنا الخلائق كلَّها سماءها وأرضها وما بينهما إلا خلقاً ملتبساً بالحق، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء المكذبين لئلا يعم الفساد {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي وإن القيامة لآتيةٌ لا محالة فيُجازى المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، فأعرضْ يا محمد عن هؤلاء السفهاء وعاملهم معاملة الحليم {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} أي الخالق لكل شيء، العليمُ بأحوال العباد.

    سبب النزول:

    نزول الآية (95):

    {إنا كفيناك}: أخرج البزار والطبراني عن أنس بن مالك قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي، ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثل الظفر في أجسادهم، فصارت قروحاً حتى نتنوا، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم، فأنزل الله: {إنا كفيناك المستهزئين}.

    عطايا الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالجهر بدعوته

    {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالقرءان الْعَظِيمَ(87)لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88)وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89)كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ(90)الَّذ ِينَ جَعَلُوا القرءان عِضِينَ(91)فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(95)الّ َذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(96)وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)}

    {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} أي ولقد أعطيناك يا محمد سبع آيات هي الفاتحة لأنها تثنّى أي تكرر قراءتها في الصلاة وفي الحديث (الحمدُ للهِ رب العالمين هي السبعُ المثاني والقرءان العظيمُ الذي أوتيتُه) وقيل: هي السور السبع الطوال، والأول أرجح {وَالقرءان الْعَظِيمَ} أي وآتيناك القرءان العظيم الجامع لكمالات الكتب السماوية {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي لا تنظر إلى ما متعنا به بعض هؤلاء الكفار، فإن الذي أعطيناك أعظم منها وأشرف وأكرم، وكفى بإِنزال القرءان عليك نعمة {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تحزن لعدم إيمانهم {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تواضعْ لمن آمن بك من المؤمنين وضعفائهم {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} أي قل لهم يا محمد أنا المنذر من عذاب الله، الواضح البيِّن في الإِنذار لمن عصى أمر الجبار {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} الكاف للتشبيه والمعنى أنزلنا عليك القرءان كما أنزل على أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه، فانقسموا إلى قسمين {الَّذِينَ جَعَلُوا القرءان عِضِينَ} أي جعلوا القرءان أجزاءً متفرقة وقالوا فيه أقوالاً مختلفة، قال ابن عباس: آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرءان وتكذيبهم له بقولهم سحر، وشعر، وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب مثل فعل كفار مكة {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فأقسمُ بربك يا محمد لنسألنَّ الخلائق أجمعين {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عما كانوا يعملون في الدنيا {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي فاجهر بتبليغ أمر ربك، ولا تلتفت إلى ما يقول المشركون {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أي كفيناك شرَّ أعدائك المستهزئين بإهلاكنا إياهم وكانوا خمسة من صناديد قريش {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي الذين أشركوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدارين {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} أي يضيق صدرك بالاستهزاء والتكذيب {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أي فافزع فيما نالك من مكروه إلى التسبيح والصلاة والإِكثار من ذكر الله {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي اعبد ربك يا محمد حتى يأتيك الموت، سمي يقيناً لأنه متيقن الوقوع والنزول.

     
  4. #39
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة النحل



    إثبات البعث والوحي

    البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته

    نعم الله العظام وآياته المنبثة في الكائنات

    تفرد الله بالخلق، وعلمه بالسر

    إنكار المشركين الوحي وجزاؤهم يوم القيامة

    حال المتقين مع الوحي وجزاؤهم

    تهديد المشركين على تماديهم في الباطل

    تذرع الكفار بحجج واهية وإنكارهم البعث

    منزل المهاجرين، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تبيين كلام الله

    توجيه الله الكفار للتوحيد، وتذكيرهم بنعمه

    تفرده تعالى في التصرف في هذا الكون

    ضربه تعالى الأمثال للعظة

    علمه تعالى الغيب وخلقه الإنسان وهدايته، وتسخير الطير

    نعمه تعالى على بني البشر

    وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة

    أمره تعالى بالعدل ونهيه عن الفحشاء

    أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح

    ليس للشيطان سلطان على المؤمنين وتنزيل القرآن لتثبيت المؤمنين

    المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعدما فتنوا

    كفران النعمة وعاقبته في الدنيا

    الحلال الطيب من المأكولات والحرام الخبيث

    إرسال الله الرسل، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تبيان القرآن

    دلائل عظمته وقدرته الدالة على وحدانيته

    تفرده تعالى في التصرف في هذا الكون

    ضربه تعالى الأمثال للعظة

    علمه تعالى الغيب وخلقه الإنسان وهدايته، وتسخير الطير

    نعمه تعالى على بني البشر

    وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة

    أمره تعالى بالعدل ونهيه عن الفحشاء

    أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح

    ليس للشيطان سلطان على المؤمنين وتنزيل القرآن لتثبيت المؤمنين

    المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعدما فتنوا

    كفران النعمة وعاقبته في الدنيا

    الحلال الطيب من المأكولات والحرام الخبيث

    أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملّة إبراهيم عليه السلام

    بَين يَدَي السُّورَة

    سورة النحل من السور المكية التي تعالج موضوعات العقيدة الكبرى "الأُلوهية، والوحي، والبعث والنشور" وإلى جانب ذلك تتحدث عن دلائل القدرة والوحدانية في ذلك العالم الفسيح في السماوات والأرض، والبحار والجبال، والسهول والوديان، والماء الهاطل، والنبات النامي، والفلك التي تجري في البحر، والنجوم التي يهتدي بها السالكون في ظلمات الليل، إلى آخر تلك المشاهد التي يراها الإِنسان في حياته، ويدركها بسمعه وبصره، وهي صورٌ حيةٌ مشاهدة، دالةٌ على وحدانية الله جلَّ وعلا، وناطقةٌ بآثار قدرته التي أبدع بها الكائنات.

    * تناولت السورة الكريمة في البدء أمر الوحي الذي كان مجال إِنكار المشركين واستهزائهم، فقد كذبوا بالوحي واستبعدوا قيام الساعة، واستعجلوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب الذي خوَّفهم به، وكلما تأخر العذاب زادوا استعجالاً وزادوا استهزاءً واستهتاراً.

    * ولقد هدفت السورة الكريمة إلى تقرير مبدأ "وحدانية الله" جلَّ وعلا بلفت الأنظار إلى قدرة الله الواحد القهَّار، فخاطبت كل حاسةٍ في الإِنسان، وكل جارحةٍ في كيانه البشري، ليتجه بعقله إلى ربّه، ويستنير بما يرى من آثار صنع الله على عظمة اللهِ سبحانه.

    * ثم تتابعت السورة الكريمةُ تذكِّر الناس بنتيجة الكفر بنعم الله، وعدم القيام بشكرها، وتحذرهم تلك العاقبة الوخيمة التي يؤول إليها مصيرُ كل معاندٍ وجاحد.

    * وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والصبر والعفو عمَّا يلقاه من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله.

    التســميَــة :

    سميت هذه السورة الكريمة "سورة النحل" لاشتمالها على تلك العبرة البليغة التي تشير إلى عجيب صنع الخالق، وتدلُّ على الألوهية بهذا الصنع العجيب.

    إثبات البعث والوحي

    {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(1)يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي(2)}.

    {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} أي قرب قيام الساعة فلا تستعجلوا العذاب الذي أوعدكم به محمد، وإِنما أتى بصيغة الماضي لتحقق وقوع الأمر وقربه، قال الرازي : لما كان واجب الوقوع لا محالة عبّر عنه بالماضي كما يقال للمستغيث : جاءك الغوثُ فلا تجزع {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله عما يصفه به الظالمون، وتقدس عن إشراكهم به غيره من الأنداد والأوثان {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} أي يُنزّل الملائكة بالوحي والنبوة بإِرادته وأمره {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي على الأنبياء والمرسلين، وسمَّى الوحي روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي} أي بأن أنذروا أهل الكفر أنه لا معبود إلا الله فخافوا عذابي وانتقامي.

    البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته

    {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(3)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(4)وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5)وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6)وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(7)وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ(8)وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9)}.

    سبب النزول :

    نزول الآية (4) :

    {خَلَقَ الإِنسَانَ} : نزلت الآية في أبي بن خلَف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعدما رمَّ ؟ ونظير الآية قوله تعالى في سورة يس : {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} إلى آخر السورة.

    ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي خلقهما بالحق الثابت، والحكمة الفائقة، لا عبثاً ولا جُزافاً {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تمجَّد وتقدَّس عن الشريك والنظير {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} أي خلق هذا الجنس البشري من نطفةٍ مهينة ضعيفة هي المنيُّ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي فإِذا به بعد تكامله بشراً مخاصمٌ لخالقه، واضح الخصومة، يكابر ويعاند، وقد خُلق ليكون عبداً لا ضداً قال ابن الجوزي: لقد خُلق من نطفة وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأوله على آخره، وبأن من قدر على إِيجاده أولاً قادرٌ على إعادته ثانياً؟ {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا} أي وخلق الأنعام لمصالحكم وهي الإِبل والبقر والغنم {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أي لكم فيها ما تستدفئون به من البرد مما تلبسون وتفترشون من الأصواف والأوبار {وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ولكم فيها منافع عديدة من النسل والدر وركوب الظهر، ومن لحومها تأكلون وهو من أعظم المنافع لكم {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي ولكم في هذه الأنعام والمواشي زينةٌ وجمالٌ حين رجوعها عشياً من المرعى، وحين غُدوّها صباحاً لترعى، جمال الاستمتاع بمنظرها صحيحةً سمينةً فارهة {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ} أي وتحمل أحمالكم الثقيلة وأمتعتكم التي تعجزون عن حملها إلى بلدٍ بعيد لم تكونوا لتصلوا إليه إلا بجهدٍ ومشقة {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي إنَّ ربكم أيها الناس الذي سخَّر لكم هذه الأنعام لعظيمُ الرأفة والرحمة بكم {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} أي وخلق الخيل والبغال والحمير للحمل والركوب وهي كذلك زينة وجمال {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي ويخلق في المستقبل ما لا تعلمونه الآن كوسائل النقل الحديث : القاطرات، والسيارات، والطائرات النفاثة وغيرها مما يجدُّ به الزمان وهو من تعليم الله للإِنسان {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي وعلى الله جل وعلا بيانُ الطريق المستقيم، الموصلِ لمن يسلكه إلى جنات النعيم {وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي ومن هذه السبيل طريقٌ مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه، لا يوصل سالكه إلى الله وهو طريق الضلال، كاليهودية والنصرانية والمجوسية {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولو شاء أن يهديكم إلى الإِيمان لهداكم جميعاً ولكنه تعالى اقتضت حكمته أن يدع للإِنسان حرية الاختيار {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ليترتب عليه الثواب والعقاب.

    نعم الله العظام وآياته المنبثة في الكائنات

    {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ(10)يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(11)وَسَخَّ رَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(13)وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(14)وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15)وَعَلامَات ٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16)}.

    ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام، شرع فيذكر سائر النعم العظام وآياته المنبثة في الكائنات فقال {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل المطر بقدرته القاهرة من السحاب {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} أي أنزله عذباً فراتاً لتشربوه فتسكن حرارة العطش {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} أي وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ} أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي ومن كل الفواكه والثمار يخرج لكم أطايب الطعام {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إن في إنزال الماء وإِخراج الثمار لدلالة واضحة على قدرة الله ووحدانيته لقومٍ يتدبرون في صنعه فيؤمنون قال أبو حيان: ختم الآية بقوله {يَتَفَكَّرُونَ} لأن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل، واستعمال فكر، ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وُضعت في الأرض ومرَّ عليها زمن معيَّن لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به فيُشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرةٌ أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، المشتملة على أجسامٍ مختلفة الطبائع والألوان والأشكال والمنافع وذلك بتقدير قادرٍ مختار وهو الله تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذلّل الليل والنهار يتعاقبان لمنامكم ومعاشكم، والشمس والقمر يدوران لمصالحكم ومنافعكم {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} أي والنجومُ تجري في فلكها بأمره لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن في ذلك الخلق والتسخير لدلائل باهرة عظيمة، لأصحاب العقول السليمة {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي وما خلق لكم في الأرض من الأمور العجيبة، من الحيوانات والنباتات، والمعاد والجمادات، على اختلاف ألوانها وأشكالها، وخواصها ومنافعها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي لعبرةً لقومٍ يتعظون {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} أي وهو تعالى - بقدرته ورحمته - ذلّل لكم البحر المتلاطم الأمواج للركوب فيه والغوص في أعماقه {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} أي لتأكلوا من البحر السمك الطريَّ الذي تصطادونه {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي وتستخرجوا منه الجواهر النفيسة كاللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} أي وترى السفن العظيمة تشق عُباب البحر جاريةً فيه وهي تحمل الأمتعة والأقوات {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي سخر لكم البحر لتنتفعوا بما ذُكر ولتطلبوا من فضل الله ورزقه سبل معايشكم بالتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا ربكم على عظيم إنعامه وجليل أفضاله {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي نصب فيها جبالاً ثوابت راسيات لئلا تضطرب بكم وتميل قال أبو السعود: إن الأرض كانت كرةً خفيفة قبل أن تُخلق فيها الجبال، وكان من حقها أن تتحرك كالأفلاك بأدنى سبب فلما خُلقت الجبال توجهت بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لها {وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي وجعل فيها أنهاراً وطرقاً ومسالك لكي تهتدوا إلى مقاصدكم {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} أي وعلامات يستدلون بها على الطرق كالجبال والأنهار، وبالنجوم يهتدون ليلاً في البراري والبحار قال ابن عباس: العلامات معالمُ الطرق بالنهار وبالنجم هم يهتدون بالليل.

    تفرد الله بالخلق، وعلمه السر

    {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(17)وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18)وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(19)وَالَّذِين َ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20)أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ(22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ(23)}.

    {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} الاستفهام إِنكاري أي أتسوّون بين الخالق لتلك الأشياء العظيمة والنعم الجليلة، وبين من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره؟ أتشركون هذا الصنم الحقير مع الخالق الجليل ؟ وهو تبكيت للكفرة وإِبطالٌ لعبادتهم الأصنام {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتذكرون فتعرفون خطأ ما أنتم فيه من عبادة غير الله؟ وهو توبيخٌ آخر {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} أي إن تعدوا نعم الله الفائضة عليكم لا تضبطوا عددها فضلاً عن أن تطيقوا شكرها {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي غفور لما صدر منكم من تقصير رحيم بالعباد حيث ينعم عليهم مع تقصيرهم وعصيانهم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي يعلم ما تخفونه وما تظهرونه من النوايا والأعمال وسيجازيكم عليها {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي والذين يعبدونهم من دون الله كالأوثان والأصنام لا يقدرون على خلق شيء أصلاً والحال أنهم مخلوقون صنعهم البشر بأيديهم، فكيف يكونون آلهة تعبد من دون الله؟ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أي وتلك الأصنام أمواتٌ لا أرواح فيها، لا تسمع ولا تبصر لأنها جمادات لا حياة فيها، فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها لما فيكم من الحياة؟ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي ما تشعر هذه الأصنام متى يبعث عابدوها، وفيه تهكم بالمشركين لأنهم عبدوا جماداً لا يحس ولا يشعر {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إلهكم المستحق للعبادة إله واحدٌ لا شريك له {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ} أي فالذين لا يصدّقون بالبعث والجزاء قلوبهم تنكر وحدانية الله عز وجل {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} أي متكبرون متعاظمون عن قبول الحق بعدما سطعت دلائله {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي حقاً إن الله تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوالهم يعلم ما يخفون وما يظهرون {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} أي المتكبرين عن التوحيد والإِيمان.

    إنكار المشركين الوحي وجزاؤهم يوم القيامة

    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(24)لِيَحْمِل ُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(25)قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(26)ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ(27)الَّذِين َ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(28)فَادْخُلُو ا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(29)}.

    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} أي وإِذا سئل هؤلاء الجاحدون أيَّ شيء أنزل ربكم على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ {قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي قالوا على سبيل الاستهزاء: ما أنزله ليس إلا خرافات وأباطيل الأمم السابقين ليس بكلام رب العالمين قال المفسرون: كان المشركون يجلسون على مداخل مكة يُنفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج ماذا أُنزل على محمد؟ قالوا أباطيل وأحاديث الأولين {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي قالوا ذلك البهتان ليحملوا ذنوبهم كاملةً من غير أن يُكفَّر منها شيء {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وليحملوا ذنوب الأتباع الذين أضلوهم بغير دليلٍ أو برهان، فقد كانوا رؤساء يُقتدى بهم في الضلالة ولذلك حملوا أوزارهم وأوزار من أضلوهم {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ألاَ للتنبيه أي فانتبهوا أيها القوم بئس الحمل الذي حملوه على ظهورهم، والمقصودُ المبالغة في الزجر {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مكر المجرمون بأنبيائهم وأردوا إطفاء نور الله من قبل كفار مكة، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} أي قلع بنيانهم من قواعده وأسسه، وهذا تمثيلٌ لإِفساد ما أبرموه من المكر بالرسل {فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} أي فسقط عليهم سقف بنيانهم فتهدّم البناء وماتوا {وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي جاءهم الهلاك والدمار من حيث لا يخطر على بالهم، والآية مشهد كاملٌ للدمار والهلاك، وللسخرية من مكر الماكرين، وتدبير المدبرين، الذين يقفون لدعوة الله ويحسبون مكرهم لا يُردّ، وتدبيرهم لا يخيب، والله من ورائهم محيط {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم ويهينهم {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي يقول تعالى لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : أين هؤلاء الشركاء الذين كنتم تخاصمون وتعادون من أجلهم الأنبياء ؟ أحضروهم ليشفعوا لكم، والأسلوب استهزاءٌوتهكم {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي يقول الدعاة والعلماء شماتةً بأولئك الأشقياء إن الذلَّ والهوان والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي تقبض الملائكة أرواحهم الخبيثة حال كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والإِشراك بالله {فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} أي استسلموا وانقادوا عند الموت على خلاف عادتهم في الدنيا من العناد والمكابرة، وقالوا ما أشركنا ولا عصينا كما يقولون يوم المعاد {والله ربنا ما كنا مشركين} {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يكذبهم الله ويقول: بلى قد كذبتم وعصيتم وكنتم مجرمين {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي أدخلوا جهنم ماكثين فيها أبداً {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي بئست جهنم مقراً ومقاماً للمتكبرين عن طاعة الله.

    حال المتقين مع الوحي وجزاؤهم

    وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ(31)الَّذِين َ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32)

    {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} أي قيل للفريق الثاني وهم أهل التقوى والإِيمان {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} أي ماذا أنزل ربكم على رسوله ؟ قالوا أنزل خيراً قال المفسرون: هذا كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون: إِنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وعن ما أنزل الله عليه فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى والقرآن، قال تعالى بياناً لجزائهم الكريم {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أي لهؤلاء المحسنين مكافأة في الدنيا بإِحسانهم {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} أي وما ينالونه في الآخرة من ثواب الجنة خيرٌ وأعظم من دار الدنيا لفنائها وبقاء الآخرة {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أي ولنعم دار المتقين دار الآخرة وهي {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جناتُ إِقامة {يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخلون تلك الجنان التي تجري من بين أشجارها وقصورها الأنهار {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي لهم في تلك الجنات ما يشتهون بدون كدٍّ ولا تعب، ولا انقطاعٍ ولا نَصب {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} أي مثل هذا الجزاء الكريم يجزي الله عباده المتقين لمحارمه، المتمسكين بأوامره {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} أي هم الذين تقبض الملائكةُ أرواحهم حال كونهم أبراراً، قد تطهروا من دنس الشرك والمعاصي، طيبةً نفوسهم بلقاء الله {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة قال ابن عباس: الملائكة يأتونهم بالسلام من قِبل الله، ويخبرونهم أنهم من أصحاب اليمين {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي هنيئاً لكم الجنة بما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال.

    تهديد المشركين على تماديهم في الباطل

    { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33)فَأَصَابَه ُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(34)}.

    {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} عاد الكلام إِلى تقريع المشركين وتوبيخهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا والمعنى ما ينتظر هؤلاء إِلا أحد أمرين: إِما نزول الموت بهم، أو حلول العذاب العاجل، أو ليس في مصير المكذبين قبلهم عبرةٌ وعظة؟.

    {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كذلك صنع من قبلهم من المجرمين حتى حلَّ بهم العذاب {وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم ولكنْ ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أي أصابهم عقوبات كفرهم وجزاء أعمالهم الخبيثة {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي أحاط ونزل بهم جزاء استهزائهم وهو العذاب الأليم في دركات الجحيم.

    تذرع الكفار بحجج واهية وإنكارهم البعث

    {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(35)وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(37)وَأَقْسَمُو ا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(38)لِيُبَيِّن َ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ(39)إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(40)}.

    سبب النزول :

    نزول الآية (38) :

    {وأقسموا بالله..} قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك لتبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

    {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي قال أهل الكفر والإِشراك وهم كفار قريش {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أي لو شاء الله ما عبدنا الأصنام لا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها، قالوا هذا على سبيل الاستهزاء لا على سبيل الاعتقاد، وغرضُهم أن إِشراكهم وتحريمهم لبعض الذبائح والأطعمة واقع بمشيئة الله، فهو راضٍ به وهو حقٌّ وصواب.

    {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من قبلهم من المجرمين، واحتجوا مثل احتجاجهم الباطل، وتناسوا كسبهم لكفرهم ومعاصيهم، وأن كل ذلك كان بمحض اختيارهم بعد أن أنذرتهم رسلهم عذاب النار وغضب الجبار {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس على الرسل إِلا التبليغ، وأمَّا أمر الهداية والإِيمان فهو إِلى الله جلَّ وعلا.

    {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي أرسلنا الرسل إِلى جميع الخلق يأمرونهم بعبادة الله وتوحيده ونترك كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إِلى الضلال {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} أي فمنهم من أرشده الله إِلى عبادته ودينه فآمن {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أي ومنهم من وجبت له الشقاوة والضلالة فكفر، أعْلمَ تعالى انه أرسل الرسل لتبليغ الناس دعوة الله فمنهم من استجاب فهداه الله، ومنهم من كفر فأضَّله الله.

    {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي سيروا يا معشر قريش في أكناف الأرض ثم انظروا ماذا حلَّ بالأمم المكذبين لعلكم تعتبرون !.

    {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي إِن تحرص يا محمد على هداية هؤلاء الكفار فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهداية جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم من ينقذهم من عذابه تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} أي حلف المشركون جاهدين في أيمانهم مبالغين في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت، استبعدوا البعث ورأوه أمراً عسيراً بعد البلى وتفرق الأشلاء والذرات.

    قال تعالى رداً عليهم {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي بلى ليبعثنَّهم، وعد بذلك وعداً قاطعاً لابدَّ منه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والنشور {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي سيبعثهم ليكشف ضلالهم في إِنكارهم البعث، وليظهر لهم الحق فيما اختلفوا فيه، وليحقق العدل وهو التمييز بين المطيع والعاصي، وبين المحق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم.

    {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} أي وليعلم الجاحدون للبعث، والمكذبون لوعد الله الحق أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي لا يحتاج الأمر إلى كبير جهد وعناء فإِنا نقول للشيء كنْ فيكون.

    قال المفسرون : هذا تقريبٌ للأذهان، والحقيقةُ أنه تعالى لو أراد شيئاً لكان بغير احتياج إِلى لفظ {كُنْ}.

    منزل المهاجرين، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تبيين كلام الله

    {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(41)الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(42)وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّ نَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(45)أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ(46)أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(47)أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ(48)وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(49)يَخَاف ُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(50)}.

    {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي تركوا الأوطان والأهل والقرابة في شأن الله وابتغاء رضوانه من بعد ما عُذّبوا في الله قال القرطبي: هم صهيب وبلال وخَبَّاب وعمّار، عذّبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلّوهم هاجروا إِلى المدينة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي لنسكننهم داراً حسنة خيراً مما فقدوا.

    قال ابن عباس: بوأهم الله المدينة فجعلها لهم دار هجرة {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي ثواب الآخرة أعظم وأشرف وأكبر لو كان الناس يعلمون {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي هم الذين صبروا على الشدائد والمكاره، فهجروا الأوطان، وفارقوا الإِخوان، واعتمدوا على الله وحده يبتغون أجره ومثوبته.

    {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا من قبلك يا محمد إِلى الأمم الماضية إِلا بشراً نوحي إِليهم كما أوحينا إِليك.

    قال المفسرون: أنكر مشركو قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلاَّ بعث إِلينا ملكاً، فنزلت {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي اسألوا يا معشر قريش العلماء بالتوراة والإِنجيل يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً إِن كنتم لا تعلمون ذلك {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} أي أرسلناهم بالحجج والبراهين الساطعة الدالة على صدقهم وبالزبُر أي الكتب المقدسة.

    {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} أي القرآن المذّكِّر الموقظ للقلوب الغافلة {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي لتعرّف الناس الأحكام، والحلال والحرام {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي ولعلهم يتفكرون في هذا القرآن فيتعظون.

    {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ} أي هل أمن هؤلاء الكفار الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واحتالوا لقتله في دار الندوة، هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون؟ {أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي يأتيهم العذاب بغتةً في حال أمنهم واستقرارهم، من حيث لا يخطر ببالهم ومن جهةٍ لا يعلمون بها {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي يهلكهم في أثناء أسفارهم للتجارة واشتغالهم بالبيع والشراء فإِنهم على أي حال لا يعجزون الله {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي يهلكهم الله حال كونهم خائفين مترقبين لنزول العذاب.

    قال ابن كثير: فإِنه يكون أبلغ وأشد فإِن حصول ما يتوقع مع الخوف شديدٌ {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة.

    {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أي أولم يعتبر هؤلاء الكافرون ويروا آثار قدرة الله وأنه ما من شيء من الجبال والأشجار والأحجار ومن سائر ما خلق الله {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} أي تميل ظلالها من جانب إِلى جانب ساجدة للهِ سجود خضوعٍ لمشيئته تعالى وانقياد، لا تخرج عن إِرادته ومشيئته {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي خاضعون صاغرون فكل هذه الأشياء منقادة لقدرة الله وتدبيره فكيف يتعالى ويتكبر على طاعته أولئك الكافرون؟.

    {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي له تعالى وحده يخضع وينقاد جميع المخلوقات بما فيهم الملائكة فهم لا يستكبرون عن عبادته {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي يخافون جلال الله وعظمته، ويمتثلون أوامره على الدوام.

     
  5. #40
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    توجيه الله الكفار للتوحيد، وتذكيرهم بنعمه

    {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي(51)وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ(52)وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53)ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54)لِيَكْفُرُ وا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(55)وَيَجْعَلُ ونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ(56)وَيَجْعَلُ ونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ(57)وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58)يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(59)لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(60)وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(61)وَيَجْ عَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ(62)}.

    {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} أي لا تعبدوا إِلهين فإِن الإِله الحق لا يتعدد {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إِلهكم واحد أحد فردٌ صمد {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي} أي خافون دون سواي {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} أي له الطاعة والانقياد واجباً ثابتاً فهو الإِله الحق، وله الطاعة خالصة {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي كيف تتقون وتخافون غيره، ولا نفع ولا ضر إِلا بيده؟.

    {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} أي ما تفضَّل عليكم أيها الناس من رزقٍ ونعمةٍ وعافيةٍ ونصر فمن فضلِ اللهِ وإِحسانه {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أي ثم إِذا أصابكم الضُّرُ من فقرٍ ومرضٍ وبأساء فإِليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء، والغرض أنكم تلجأون إِليه وحده ساعة العسرة والضيق، ولا تتوجهون إِلا إِليه دون الشركاء {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي إِذا رفع عنكم البلاء رجع فريق منكم إِلى الإِشراك بالله قال القرطبي: ومعنى الكلام التعجيبُ من الإِشراك بعد النجاة من الهلاك {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي ليجحدوا نعمته تعالى من كشف الضر والبلاء {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي تمتعوا بدار الفناء فسوف تعلمون عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وهو أمرٌ للتهديد والوعيد.

    {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي يجعلون للأصنام التي لا يعلمون ربوبيتها ببرهان ولا بحجة نصيباً من الزرع والأنعام تقرباً إِليها {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أي والله أيها المشركون لتُسألنَّ عما كنتم تختلقونه من الكذب على الله، والمراد سؤال توبيخٍ وتقريع.

    {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} أي ومن جهل هؤلاء المشركين وسفاهتهم أن جعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إِلى الله البنات وجعلوا لهم البنين {سُبْحَانَهُ} أي تنزَّه الله وتعظَّم عن هذا الإِفك والبهتان {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي ويجعلون لأنفسهم ما يحبّون من البنين أما البنات اللواتي يكرهونهن فينسبونهم إلى الله تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى} أي إِذا أُخبر أحدهم بولادة بنت {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أي صار وجهه متغيراً من الغم والحزن قال القرطبي: وهو كناية عن الغم والحزن وليس يريد السواد، والعربُ تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسودَّ وجهه {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي مملوءٌ غيظاً وغماً {يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} أي يختفي من قومه خوفاً من العار الذي يلحقه بسبب البنت، كأنها بليَّة وليست هبةً إِلهية، ثم يفكر فيما يصنع {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي أيرضى بهذه الأنثى على ذلٍّ وهوان أم يدفنها في التراب حية؟ {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء صنيعهم وساء حكمهم، حيث نسبوا لخالقهم البنات - وهي عندهم بتلك الدرجة من الذل والحقارة - وأضافوا البنين إِليهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

    {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} أي لهؤلاء الذين لم يصدّقوا بالآخرة ونسبوا للهِ البنات سفهاً وجهلاً، صفةُ السوء القبيحة التي هي كالمثل في القبح، فالنقصُ إِنما ينسب إِليهم لا إِلى الله {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي له جل وعلا الوصف العالي الشأن، والكمال المطلق، والتنزه عن صفات المخلوقين {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي العزيزُ في ملكه، الحكيمُ في تدبيره.

    ثم أخبر تعالى عن حلمه بالعباد مع ظلمهم فقال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} أي لو يؤاخذهم بكفرهم ومعاصيهم ويعاجلهم بالعقوبة {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} أي ما ترك على الأرض أحداً يدبُّ على ظهرها من إِنسانٍ وحيوان {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ولكنْ يؤخرهم إِلى وقتٍ معيَّن تقتضيه الحكمة {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإِذا جاء الوقت المحدَّد لهلاكهم لا يتأخرون برهةً يسيرةً من الزمن ولا يتقدمون عليها كقوله {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}.

    {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي ينسبون إليه تعالى البنات مع كراهتهم لهنَّ، وهو تأكيد لما سبق للتقريع والتوبيخ {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى} أي يجعلون لله ما يجعلون ومع ذلك يزعمون أنَّ لهم العاقبة الحسنى عند الله وأنهم أهل الجنة {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ} أي حقاً إِنَّ لهم مكاناً في نار جهنم التي ليس وراء عذابها عذاب {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} أي معجَّلون إِليها ومُقدَّمون.

    إرسال الله الرسل، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تبيان القرآن

    {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(64)}.

    ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل ليتأسى صلوات الله عليه بهم في الصبر على تحمل الأذى فقال {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي والله لقد بعثنا قبلك يا محمد رسلاً إلى أقوامك فحسن الشيطان أعمالهم القبيحة حتى كذبوا الرسل وردوا عليهم ما جاؤوهم به من البينات {فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ} أي فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا وبئس الناصر {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ولهم في الآخرة عقابٌ مؤلم.

    {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي ما أنزلنا عليك القرآن يا محمد إلا لتبين للناس ما اختلفوا فيه من الدين والأحكام لتقوم الحجة عليهم {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي وأنزلنا القرآن هداية للقلوب، ورحمة وشفاء لمن آمن به.

    دلائل عظمته وقدرته الدالة على وحدانيته

    {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(65)وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ(66)وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(67)وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)}.

    ثم ذكر تعالى عظيم قدرته الدالة على وحدانيته فقال {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي أنزل بقدرته الماء من السحاب فأحيا بذلك الماء النبات والزرع بعد جدب الأرض ويُبسها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي إِن في هذا الإِحياء لدلالةً باهرة على عظيم قدرته لقوم يسمعون التذكير فيتدبرونه ويعقلونه.

    {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} أي وإِنَّ لكم أيها الناس في هذه الأنعام "الإِبل والبقر والضأن والمعز" لعظةً وعبرة يعتبر بها العقلاء، ففي خلقها وتسخيرها دلالة على قدرة الله وعظمته ووحدانيته {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} أي نسقيكم من بعض الذي في بطون هذه الأنعام {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} أي من بين الروث والدم ذلك الحليب الخالص واللبن النافع {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} أي سهل المرور في حلقهم، لذيذاً هيناً لا يغصُّ به من شربه.

    {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} أي ولكم مما أنعم الله به عليكم من ثمراتِ النخيل والأعناب ما تجعلون منه خمراً يسكر قال الطبري: وإِنما نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ثم حُرِّمتْ بعد ذلك {وَرِزْقًا حَسَنًا} كالتمر والزبيب قال ابن عباس: الرزق الحسن: ما أُحلَّ من ثمرتها، والسَّكر: ما حُرّم من ثمرتها.

    {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لآيةً باهرة، ودلالة قاهرة على وحدانيته سبحانه لقومٍ يتدبرون بعقولهم قال ابن كثير: وناسب ذكرُ العقل هنا لأنه أشرفُ ما في الإِنسان، ولهذا حرَّم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانةً لعقولها، ولما ذكر تعالى ما يدل على باهر قدرته،وعظيم حكمته من إِخراج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ، وإِخراج الرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، ذكر إِخراج العسل الذي جعله شفاءً للناس من النحل، وهي حشرةً ضعيفة وفيها عجائب بديعة وأمور غريبة، وكل هذا يدل على وحدانية الصانع وقدرته وعظمته فقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} المراد من الوحي: الإِلهامُ والهدايةُ أي ألهمها مصالحها وأرشدها إِلى بناء بيوتها المسدَّسة العجيبة تأوي إِليها في ثلاثة أمكنة:الجبال، والشجر والأوكار التي يبنيها الناس {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي كلي من كل الأزهار والثمار التي تشتهينها من الحلو، والمر، والحامض، فإِن الله بقدرته يحيلها إِلى عسلٍ {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} أي ادخلي الطرق في طلب المرعى حال كونها مسخرةً لك لا تضلين في الذهاب أو الإِياب.

    {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي يخرج من بطون النحل عسلٌ متنوعٌ منه أحمر، وأبيض، وأصفر، فيه شفاءٌ للناس من كثيرٍ من الأمراض قال الرازي فإِن قالوا: كيف يكون شفاءً للناس وهو يضر بالصفراء ؟ فالجواب أنه تعالى لم يقل : إِنه شفاءٌ لكل الناس، ولكل داء، وفي كل حال، بل لمّا كان شفاء للبعض ومن البعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنَّ فيه شفاء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي لعبرة لقومٍ يتفكرون في عظيم قدرة الله، وبديع صنعه.

    تفرده تعالى في التصرف في هذا الكون

    {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(70)وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ(72)وَيَعْبُدُ ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ(73)فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(74)}.

    {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} أي خلقكم بقدرته بعد أن لم تكونوا شيئاً ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي يُردُّ إِلى أردأ وأضعف العمر وهو الهَرم والخرف {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} أي لينسى ما يعلم فيشبه الطفل في نقصان القوة والعقل {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي عليمٌ بتدبير خلقه، قديرٌ على ما يريده، فكما قدر على نقل الإِنسان من العلم إِلى الجهل، فإِنه قادر على إِحيائه بعد إِماتته قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يُردَّ إِلى أرذل العمر.

    {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} أي فاوت بينكم في الأرزاق فهذا غنيٌّ وذاك فقير، وهذا مالكٌ وذاك مملوك {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي ليس هؤلاء الأغنياء بمشركين لعبيدهم المماليك فيما رزقهم الله من الأموال حتى يستووا في ذلك مع عبيدهم، وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى للمشركين قال ابن عباس: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الاستفهام للإِنكار أي أيشركون معه غيره وهو المنعم المتفضل عليهم ؟.

    {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي هو تعالى بقدرته خلق النساء من جنسكم وشكلكم ليحصل الائتلاف والمودة والرحمة بينكم {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} أي جعل لكم من هؤلاء الزوجات الأولاد وأولاد الأولاد، سمّوا حفدة لأنهم يخدمون أجدادهم ويسارعون في طاعتهم {وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ} أي رزقكم من أنواع اللذائذ من الثمار والحبوب والحيوان {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} أي أبعد تحقق ما ذُكر من نعم الله يؤمنون بالأوثان ويكفرون بالرحمن ؟ وهو استفهام للتوبيخ والتقريع.

    {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا} أي ويعبد هؤلاء المشركون أوثاناً لا تقدر على إِنزال مطر، ولا على إِخراج زرعٍ أو شجر، ولا تقدر أن ترزقهم قليلاً أو كثيراً {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} أي ليس لها ذلك ولا تقدر عليه لو أرادت {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} أي لا تمثّلوا لله الأمثال، ولا تشبّهوا له الأشباه، فإِنه تعالى لا مثل له ولا نظير ولا شبيه {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي يعلم كل الحقائق، وأنتم لا تعلمون قدر عظمة الخالق.

    ضربه تعالى الأمثال للعظة

    {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(75)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(76)}.

    {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام التي أشركوها مع الله جل وعلا أي مثلُ هؤلاء في إشراكهم مثلُ من سوَّى بين عبدٍ مملوكٍ عاجزٍ عن التصرف، وبين حرٍّ مالك يتصرف في أمره كيف يشاء، مع أنهما سيّان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى، فما الظنُّ بربِّ العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات؟ {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} أي ينفق ماله في الخفاء والعلانية ابتغاء وجه الله {هَلْ يَسْتَوُونَ}؟ أي هل يستوي العبيد والأحرار الذين ضُرب لهم المثل، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى له المُلك، وبيده الرزق، وهو المتصرف في الكون كيف يشاء، فكيف يُسوَّى بينه وبين الأصنام؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي شكراً للهِ على بيان هذا المثال ووضوح الحق فقد ظهرت الحجة مثل الشمس الساطعة، ولكنَّ المشركين بسفههم وجهلهم يسوّون بين الخالق والمخلوق، والمالكِ والمملوك.

    {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} هذا هو المثل الثاني للتفريق بين الإِله الحق والأصنام الباطلة. قال مجاهد: هذا مثلٌ مضروبٌ للوثن والحقّ تعالى، فالوثنُ أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير، ولا يقدر على شيء بالكلية لأنه إما حجرٌ أو شجر، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} أي ثقيل عالة على وليِّه أو سيده {أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي حيثما أرسله سيده لم ينجح في مسعاه لأنه أخرس، بليد، ضعيف {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي هل يتساوى هذا الأخرس، وذلك الرجل البليغ المتكلم بأفصح بيان، وهو على طريق الحق والاستقامة، مستنيرٌ بنور القرآن؟ وإِذا كان العاقل لا يسوّي بين هذين الرجلين، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه وهو القادر العليم، الهادي إلى الصراط المستقيم؟

    علمه تعالى الغيب وخلقه الإنسان وهدايته، وتسخير الطير

    {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(77)وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(79)}.

    {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو سبحانه المختص بعلم الغيب، يعلم ما غاب عن الأبصار في السماوات والأرض {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أي ما شأن الساعة في سرعة المجيء إلا كنظرة سريعة بطرف العين، بل هو أقرب لأنه تعالى يقول للشيء : كن فيكون، وهذا تمثيل لسرعة مجيئها ولذلك قال {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادرٌ على كل الأشياء ومن جملتها القيامة التي يكذب بها الكافرون.

    {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} أي أخرجكم من أرحام الأمهات لا تعرفون شيئاً أصلاً {وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي خلق لكم الحواس التي بها تسمعون وتبصرون وتعقلون لتشكروه على نعمه وتحمدوه على آلائه.

    {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} هذا من الأدلة على قدرة الله تعالى ووحدانيته والمعنى : ألم يشاهدوا الطيور مذلّلات للطيران في ذلك الفضاء الواسع بين السماء والأرض {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ} أي ما يمسكهن عن السقوط عند قبض أجنحتهنَّ وبسطها إلا هو سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إنَّ فيما ذُكر لآيات ظاهرة، وعلامات باهرة على وحدانيته تعالى لقوم يصدِّقون بما جاءت به رسل الله.

    نعمه تعالى على بني البشر

    {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(80)وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ(81)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(82)يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ(83)}.

    {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} هذا تعداد لنعم الله على العباد أي جعل لكم هذه البيوت من الحجر والمدر لتسكنوا فيها أيام مُقامكم في أوطانكم {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} أي وجعل لكم بيوتاً أُخرى وهي الخيام والقُباب المتخذة من الشعر والصوف والوبَر {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} أي تستخفون حملها ونقلها في أسفاركم، وهي خفيفةٌ عليكم في أوقات السفر والحضَر {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} أي وجعل لكم من صوف الغنم، ووبر الإِبل، وشعر المعز ما تلبسون وتفرشون به بيوتكم {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أي تنتفعون وتتمتعون بها إلى حين الموت.

    {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا} أي جعل لكم من الشجر والجبل والأبنية وغيرها ظلالاً تتقون بها حرَّ الشمس {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} أي وجعل لكم في الجبال مواضع تسكنون فيها كالكهوف والحصون.

    قال الرازي: لما كانت بلادُ العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة، فلهذا ذكر تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة.

    {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} أي جعل لكم الثياب من القطن والصوف والكتان لتحفظكم من الحر والبرد {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أي ودروعاً تشبه الثياب تتقون بها شر أعدائكم في الحرب {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإِنه يُتم نعمة الدنيا والدين عليكم {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي لتخلصوا للهِ الربوبية، وتعلموا أنه لا يقدر على هذه الإِنعامات أحدٌ سواه.

    {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان ولم يؤمنوا بما جئتهم به يا محمد فلا ضرر عليك لأن وظيفتك التبليغ وقد بلَّغت الرسالة وأديت الأمانة {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} أي يعرف هؤلاء المشركون نِعَم الله التي أنعم بها عليهم، ويعترفون بأنها من عند الله ثم ينكرونها بعبادتهم غير المنعم وقال السُّدي: نعمةُ الله هي محمد صلى الله عليه وسلم عرفوا نبوته، ثم جحدوها وكذّبوه {وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ} أي أكثرهم يموتون كفاراً وفيه إشارة إلى أن بعضهم يهتدي للإِسلام وأما أكثرهم فمصرّون على الكفر والضلال.

    وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة

    {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(84)وَإِذَ ا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ(85)وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ(86)وَأَلْقَو ْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ(88)وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(89)}.

    {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي ويوم القيامة نحشر الخلائق للحساب ونبعث في كل أمة نبيّها يشهد عليها بالإِيمان والكفر {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يُطلب منهم أن يسترضوا ربَّهم بقولٍ أو عمل، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء، وجاء وقت الحساب والعقاب قال القرطبي : العُتبى هي رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب، وأصل الكلمة من العتب وهي الموجدة فإِذا وجد عليه يقال: عَتَب، وإِذا رجع إلى مسرَّتك فقد أعتب.

    {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي وإِذا رأى المشركون عذاب جهنم فلا يُفتَّر عنهم ساعة واحدة {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي لا يُؤخرون ولا يُمهلون {وَإِذَا رَءا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} أي وإِذا أبصر المشركون شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويزعمون أنهم شركاء الله في الألوهية {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} أي هؤلاء الذين عبدناهم من دونك. قال البيضاوي: وهذا اعترافٌ بأنهم كانوا مخطئين في ذلك والتماس لتخفيف العذاب {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أي أجابوهم بالتكذيب فيما قالوا في تقرير وتوكيد، وذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أي استسلم أولئك الظالمون لحكم الله تعالى بعد الإِباء والاستكبار في الدنيا {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي بطل ما كانوا يؤملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله.

    ثم أخبر تعالى عن مآلهم بعد أن أخبر عن حالهم فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي كفروا بالله ومنعوا الناس من الدخول في دين الإِسلام {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} أي زدناهم عذاباً في جهنم فوق عذاب الكفر، لأنهم ارتكبوا جريمة صدّ الناس عن الهدى فوق جريمة الكفر، فضوعف لهم العذاب جزاءً وفاقاً {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} أي بسبب إفسادهم في الدنيا بالكفر والمعصية {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ} أي اذكر للناس ذلك اليوم وهوْله حين نبعث في كل أمةٍ نبيَّها ليشهد عليها {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء} أي وجئنا بك يا محمد شهيداً على أمتك {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أي وأوحينا إليك القرآن المنير بياناً شافياً بليغاً لكل ما يحتاج الناس إليه من أمور الدين فلا حجة لهم ولا معذرة. قال ابن مسعود: قد بُيّن لنا في هذا القرآن كلُّ علمٍ، وكل شيء {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} أي هداية للقلوب، ورحمة للعباد، وبشارةً للمسلمين المهتدين.

    أمره تعالى بالعدل ونهيه عن الفحشاء

    {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)وَأَوْفُو ا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(92)وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(94)وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(95)مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(96)}.

    سبب النزول :

    نزول الآية (91) :

    {وأوفوا} : أخرج ابن جرير عن بُرَيْدة قال : نزلت هذه الآية في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن مَزْيَدة بن جابر أن الآية نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم يبايع على الإسلام، فقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله ..} الآية، فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان في المسلمين قلة، وفي المشركين كثرة.

    نزول الآية (92) :

    {ولا تكونوا} : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص: كانت سعيدة الأسدية حمقاء، تجمع الشعر والليف، فنزلت هذه الآية: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها}.

    {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} أي يأمر بمكارم الأخلاق بالعدل بين الناس، والإِحسان إلى جميع الخلق {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} أي مواساة الأقرباء، وخصَّه بالذكر اهتماماً به {وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} أي ينهى عن كل قبيح من قولٍ، أو فعلٍ، أو عملٍ قال ابن مسعود: هذه أجمعُ آيةٍ في القرآن لخيرٍ يُمتثل، ولشرٍ يُجتنب، والفحشاء: كل ما تناهى قبحه كالزنى والشرك، والمنكر: كل ما تنكره الفطرة، والبغي: هو الظلم وتجاوز الحق والعدل {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي يؤدبكم بما شرع من الأمر والنهي لتتعظوا بكلام الله.

    {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} أي حافظوا على العهود التي عاهدتم عليها الرسول أو الناس وأدوها على الوفاء والتمام {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توثيقها بذكر الله تعالى {وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} أي جعلتم الله شاهداً ورقيباً على تلك البيعة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي عليم بأفعالكم وسيجازيكم عليها.

    {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} هذا مثلٌ ضربه الله لمن نكث عهده، شبَّهت الآية الذي يحلف ويعاهد ويُبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكماً ثم تحلُه أنكاثاً أي أنقاضاً. قال المفسرون: كان بمكة امرأة حمقاء تغزل غزلاً ثم تنقضه، وكان الناس يقولون: ما أحمق هذه! {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} أي تتخذون أيمانكم خديعة ومكراً تخدعون بها الناس {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي لأجل أن تكون أمة أكثر عدداً وأوفر مالاً من غيرها. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون من هو أكثر منهم وأعزَّ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك {إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ} أي إِنما يختبركم الله بما أمركم به من الوفاء بالعهد لينظر المطيع من العاصي {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي ليجازي كل عاملٍ بعمله من خير وشرّ.

    {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد، وجعلهم أهل ملةٍ واحدة، لا يختلفون ولا يفترقون {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي ولكنْ اقتضت حكمته أن يتركهم لاختيارهم، ناسٌ للسعادة وناس للشقاوة، فيضلُّ من يشاء بخذلانه إِياهم عدلاً، ويهدي من يشاء بتوفيقه إِياهم فضلاً {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازي على الفتيل والقطمير.

    {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} كرره تأكيداً ومبالغة في تعظيم شأن العهود أي لا تعقدوا الأيمان وتجعلوها خديعة ومكراً تغرون بها الناس لتحصلوا على بعض منافع الدنيا الفانية {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} أي فتزلَّ أقدامكم عن طريق الاستقامة وعن محجة الحق بعد رسوخها فيه. قال ابن كثير: هذا مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزلَّ عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة، المشتملة على الصدّ عن سبيل الله، لأن الكافر إِذا رأى المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوقٌ بالدين، فيصد بسببه عن الدخول بالإِسلام ولهذا قال {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يصيبكم العقاب الدنيوي العاجل الذي يسوؤكم لصدّكم غيركم عن اعتناق الإِسلام بسبب نقض العهود {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولكم في الآخرة عذاب كبير في نار جهنم.

    {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} أي لا تستبدلوا عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم بحطام الدنيا الفاني {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما عند الله من الأجر والثواب خير لكم من متاع الدنيا العاجل إِذا كنتم تعلمون الحقيقة، ثم علَّل ذلك بقوله {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} أي ما عندكم أيها الناس فإِنه فانٍ زائل، وما عند الله فإِنه باقٍ دائم، لا انقطاع له ولا نَفاد، فآثروا ما يبقى على ما يفنى {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنثيبنَّ الصابرين بأفضل الجزاء، ونعطيهم الأجر الوافي على أحسن الأعمال مع التجاوز عن السيئات، وهذا وعدٌ كريم بمنح أفضل الجزاء على أفضل العمل، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه، وكل ذلك بفضل الله.

    أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح

    {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)}

    {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من فعل الصالحات ذكراً كان أو أنثى بشرط الإِيمان {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} أي فلنحيينَّه في الدنيا حياة طيبة بالقناعة والرزق الحلال، والتوفيق لصالح الأعمال. وقال الحسن: لا تطيب الحياة لأحدٍ إِلا في الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وسعادة بلا شقاوة {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنثيبنّهم في الآخرة بجزاء أحسن أعمالهم، وما أكرمه من ثواب!

    ليس للشيطان سلطان على المؤمنين وتنزيل القرآن لتثبيت المؤمنين

    {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98)إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)إِنَّمَ ا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ(100)وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102)وَلَق َدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(103)إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104)إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ(105)}.

    سبب النزول :

    نزول الآية (101) :

    {وإذا بدّلنا ..} نزلت حين قال المشركون : إن محمداً عليه الصلاة والسلام سخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غداً، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفترٍ يقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.

    نزول الآية (103) :

    {ولقد نعلم أنهم يقولون ..} الآية : أخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له : يسار، والآخر جبر، وكانا صِقِلِّيين، فكانا يقرآن كتابهما، ويعلمان علمهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرّ بهما، فيستمع قراءتهما، فقالوا : إنما يتعلم منهما، فنزلت.

    {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي إِذا أردت تلاوة القرآن {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أي فاسأل الله أن يحفظك من وساوس الشيطان وخطراته، كي لا يوسوس لك عند القراءة فيصدَّك عن تدبر القرآن والعمل بما فيه {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليس له تسلطٌ وقدرة على المؤمنين بالإِغواء والكفر لأنهم في كنف الرحمن {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يعتمدون على الله فيما نابَهم من شدائد {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} أي إِنما تسلُّطه وسيطرته على الذين يطيعونه ويتخذونه لهم ولياً {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} أي بسبب إِغوائه أصبحوا مشركين في عبادتهم وذبائحهم، ومطاعمهم ومشاربهم.

    {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أي وإِذا أنزلنا آيةً مكان آية وجعلناها بدلاً منها بأن ننسخ تلاوتها أو حكمها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} جملةٌ اعتراضية سيقت للتوبيخ أي والله أعلم بما هو أصلح للعباد وبما فيه خيرهم، فإِنَّ مثل آياتِ هذا الكتاب كمثل الدواء يُعطى منه للمريض جرعات حتى يماثل الشفاء، ثم يستبدل بما يصلح له من أنواع أخرى من الأطعمة {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} أي قال الكفرة الجاهلون: إِنما أنت يا محمد متقوِّلٌ كاذبٌ على الله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي أكثرهم جهلة لا يعلمون حكمة الله فيقولون ذلك سفهاً وجهلاً قال ابن عباس: كان إِذا نزلت آية فيها شدة ثم نسخت قال كفار قريش: والله ما محمد إِلا يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمرٍ، وينهاهم غداً عنه، وإِنه لا يقول ذلك إِلا من عند نفسه فنزلت.

    {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي قل لهم يا محمد: إِنما نزَّله جبريل الأمين من عند أحكم الحاكمين بالصدق والعدل {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليثبّت المؤمنين بما فيه من الحجج والبراهين فيزدادوا إِيماناً ويقيناً {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} أي وهداية وبشارة لأهل الإِسلام الذين انقادوا لحكمه تعالى، وفيه تعريضٌ بالكفار الذين لم يستسلموا لله تعالى.

    {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} أي قد علمنا مقالة المشركين الشنيعة ودعواهم أن هذا القرآن من تعليم "جبْر الرومي" وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} أي لسان الذي يزعمون أنه علَّمه وينسبون إِليه التعليم أعجميٌ {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} أي وهذا القرآن عربيٌ في غاية الفصاحة، فكيف يمكن لمن لسانُه أعجمي أن يُعلم محمداً هذا الكتاب العربيَّ المبين ؟ ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه !!.

    {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ} أي إِن الذين لا يُصدّقون بهذا القرآن لا يوفقهم الله لإِصابة الحق، ولا يهديهم إِلى طريق النجاة والسعادة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لهم في الآخرة عذابٌ موجع مؤلم، وهذا تهديدٌ لهم ووعيد على كفرهم وافترائهم {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي لا يكذب على الله إِلا من لم يؤمن بالله ولا بآياته، لأنه لا يخاف عقاباً يردعه، فالكذب جريمةٌ فاحشة لا يُقدم عليها مؤمن، وهذا ردٌّ لقولهم {إِنما أنتَ مفتر} {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ} أي وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة لا محمد الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.

    المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعدما فتنوا

    {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(107)أُوْلَئ ِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(108)لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ(109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(110)يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(111)}.

    سبب النزول :

    نزول الآية (106) :

    {إلا من أكره} : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة، أخذ المشركون بلالاً، وخبَّاباً، وعمار بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تَقيَّة، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدَّثه فقال : كيف كان قلبك حين قلت: أكان منشرحاً بالذي قلت ؟ قال: لا، فأنزل الله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.

    نزول الآية (110) :

    {ثم إن ربك} : أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر بن الحَكَم قال : كان عمار بن ياسر يعذَّب، حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فُهَيْرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية : {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا}.

    {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} أي من تلفَّظ بكلمة الكفر وارتد عن الدين بعد ما دخل فيه {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} أي من تلفَّظ بكلمة الكفر مكرهاً والحال أن قلبه مملوءٌ إِيماناً ويقيناً، والآيةُ تغليظٌ لجريمة المرتد لأنه عرف الإِيمان وذاقه ثم ارتدَّ إِيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة.

    قال المفسرون: نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه حتى أعطاهم ما أرادوا مُكْرهاً فقال الناس: إِنَّ عماراً كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عماراً ملئ إِيماناً من فرقه إِلى قدمه، واختلط الإِيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإِيمان قال: إِن عادوا فعُدْ.

    {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي طابت نفسه بالكفر وانشرح صدره له {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم غضبٌ شديد مع عذاب جهنم، إِذْ لا جُرْمَ أعظم من جرمهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم آثروا الدنيا واختاروها على الآخرة {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي لا يوفقهم إِلى الإِيمان ولا يعصمهم من الزيغ والضلال.

    {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم فجعل عليها غلافاً بحيث لا تُذعن للحق ولا تسمعه ولا تبصره {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} أي الكاملون في الغفلة إِذْ أغفلتهم الدنيا عن تدبر العواقب {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ} أي حقاً ولا شك ولا ريب في أنهم الخاسرون في الآخرة لأنهم ضيَّعوا أعمارهم في غير منفعة تعود عليهم. قال المفسرون: وصفهم تعالى بست صفات هي: الغضب من الله، والعذاب العظيم، واختيارهم الدنيا على الآخرة، وحرمانهم من الهدى، والطبع على قلوبهم، وجعلهم من الغافلين.

    {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} أي ثم إِن ربك يا محمد للذين هاجروا في سبيل الله بعد ما فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب {ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} أي ثم جاهدوا في سبيل الله وصبروا على مشاقّ الجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إِن ربك بعد تلك الهجرة والجهاد والصبر سيغفر لهم ويرحمهم.

    {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} أي ذكِّرْهم يوم القيامة حين تخاصم كلُّ نفسٍ عن ذاتها سعياً في خلاصها، لا يهمها شأنُ غيرها {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أي تُعطى جزاءَ ما عملت من غير بخْسٍ ولا نقصان {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا ينقصون أجورهم بل يُعطونها كاملةً وافية.

    كفران النعمة وعاقبته في الدنيا

    {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(113)}.

    {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً} هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة وغيرهم، بقومٍ أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فعصوا وتمردوا، فبدَّل الله نعمتهم بنقمة {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} أي كان أهلها في أمنٍ واستقرار، وسعادة ونعيم {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي تأتيها الخيرات والأرزاق بسعةٍ وكثرةٍ من كل الجهات {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أي لم يشكروا الله على ما آتاهم من خير، وما وهبهم من رزق {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أي سلبهم اللهُ نعمة الأمن والاطمئنان، وأذاقهم آلام الخوف والجوع والحرمان {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أي بسبب كفرهم ومعاصيهم، قال الرازي: وهذا مثلُ أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخِصْب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، وبالغوا في إِيذائه، فعذبهم الله بالقحط والجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

    {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} أي ولقد جاءهم محمد بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة وهو رسولٌ منهم يعرفون أصله ونسبه فلم يصدقوه ولم يؤمنوا برسالته، والآية دالة على أن المراد بهم أهل مكة وهو قول ابن عباس {فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي فأصابتهم الشدائد والنكبات وهم ظالمون بارتكاب المعاصي والآثام.

    الحلال الطيب من المأكولات والحرام الخبيث

    {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(114)إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(115)وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ(116)مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(117)وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(118)ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(119)}.

    {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} أي كلوا من نِعَم الله التي أباحها لكم حال كونها حلالاً طيباً {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي واشكروا الله على نعمه الجليلة إِن كنتم مخلصين في إِيمانكم لا تعبدون أحداً سواه.

    ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم فقال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} أي لم يحرم ربكم عليكم أيها الناس إِلا ما فيه أذى لكم كالميتة والدم ولحم الخنزير {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي وما ذبح على اسم غير الله تعالى فإِنَّ فيه أذى للنفس والعقيدة {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فمن اضطر لأكل ما حرَّم الله من المذكورات من غير بغيٍ ولا عدوان فإِن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة لا يؤاخذ من كان مضطراً.

    ثم وبّخ تعالى المشركين الذين حلّلوا وحرّموا من تلقاء أنفسهم فقال {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} أي لا تقولوا أيها المشركون في شأن ما تصفه ألسنتكم من الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام من غير دليلٍ ولا برهان {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي لتكذبوا على الله بنسبة ذلك إِليه {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} أي إِن الذين يختلقون الكذبَ على الله لا يفوزون ولا يظفرون بمطلوبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي انتفاعهم واستمتاعهم في الدنيا قليل لأنه زائل، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم.

    ثم ذكر تعالى ما حرَّم على اليهود فقال {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي وعلى اليهود خاصة حرمنا عليهم ما قصصنا عليك يا محمد مما سبق ذكره في سورة الأنعام عقوبةً لهم وهي شحوم البقر والغنم وكل ذي ظفر {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي وما ظلمناهم بذلك التحريم ولكنْ ظلموا أنفسهم فاستحقوا ذلك كقوله {فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أُحلَّت لهم} {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أي ثم إِن ربك يا محمد للذين ارتكبوا تلك القبائح بجهلٍ وسفه {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} أي ثم رجعوا إِلى ربهم وأنابوا وأصلحوا العمل بعد ذلك الزلل {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إِنه تعالى واسع المغفرة عظيم الرحمة، والآية تأنيسٌ لجميع الناس وفتحٌ لباب التوبة.

    أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام

    {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)شَاكِر ًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(121)وَآتَيْنَ اهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(122)ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(123)إِنَّم َا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(124)ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)وَإِ نْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(126)وَاصْب ِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(127)إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(128)}.

    {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي إِنَّ إِبراهيم كان إِماماً قدوةً جامعاً لخصال الخير ولذلك اختاره الله {قَانِتًا لِلَّهِ} أي مطيعاً لربه قائماً بأمره {حَنِيفًا} أي مائلاً عن كل دين باطل إِلى الدين الحق، دين الإِسلام {وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيد لما سبق وردٌّ على اليهود والنصارى في زعمهم أن إِبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ} أي قائماً بشكر نعم الله {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي اختاره واصطفاه للنبوة وهداه إِلى الإِسلام وإِلى عبادة الواحد الأحد.

    {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي جعلنا له الذكر الجميل في الدنيا {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} أي وهو في الآخرة من أصحاب الدرجات الرفيعة، وفي أعلى مقامات الصالحين.

    {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} لما وصف تعالى إِبراهيم بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتَّبع ملته والمعنى ثم أمرناك يا محمد باتباع دين إِبراهيم وملته الحنيفية السمحة {وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} أي وما كان يهودياً أو نصرانياً، وإِنما كان حنيفاً مسلماً، وهو تأكيد آخر لردّ مزاعم اليهود والنصارى أنهم على دينه {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي لم يكن تعظيم يوم السبت وتركُ العمل فيه من شريعة إِبراهيم ولا من شعائر دينه، وإِنما جعل تغليظاً على اليهود لاختلافهم في الدين وعصيانهم أمر الله، حيث نهاهم عن الاصطياد فيه فاصطادوا فمسخهم قردةً وخنازير {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي وسيفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة، فيجازي كلاً بما يستحق من الثواب والعقاب {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أي أدع يا محمد الناس إلى دين الله وشريعته القدسية بالأسلوب الحكيم، واللطيف واللين، بما يؤثر فيهم وينجع، لا بالزجر والتأنيب والقسوة والشدة {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي جادل المخالفين بالطريقة التي هي أحسن من طرق المناظرة والمجادلة بالحجج والبراهين، والرفق واللين {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي إن ربك يا محمد هو العالم بحال الضالين وحال المهتدين، قال المفسرون: العطف بـ ثمَّ {ثم أوحينا إليك} فيه تعظيم منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلال محله فكأنه بعد أن عدَّد مناقب الخليل عليه السلام قال: وههنا ما هو أعلى من ذلك كله قدراً، وارفع رتبة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي هو سيد البشر متبعٌ لملة إبراهيم، مستمسك بشريعته وكفى بذلك فخراً.

    فعليك أن تسلك الطريق الحكيم في دعوتهم ومناظرتهم، وليس عليك هدايتهم، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} أي وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم فعاملوه بالمثل ولا تزيدوا. قال المفسرون: نزلت في شأن "حمزة بن عبد المطلب" لما بقر المشركون بطنه يوم أُحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن أظفرني الله بهم لأمثلنَّ بسبعين منهم {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} أي ولئن عفوتم وتركتم القصاص فهو خير لكم وأفضل، وهذا ندبٌ إلى الصبر، وترك عقوبة من أساء، فإن العقوبة مباحة وتركها أفضل {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} أي واصبر يا محمد على ما ينالك من الأذى في سبيل الله، فما تنال هذه المرتبة الرفيعة إلا بمعونة الله وتوفيقه {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تحزن على الكفار إن لم يؤمنوا {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} أي ولا يضقْ صدرك بما يقولون من السَّفه والجهل، ولا بما يدبرون من المكر والكيد {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي مع المتقين بمعونته ونصره، ومع المحسنين بالحفظ والرعاية، ومن كان الله معه فلن يضرَّه كيد الكائدين.

     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 8 من 33 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 18 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك