الحلقة الواحدة والاربعون
أخرج الشيخان أنه عليه السلام قال " الرؤيا ثلاث : رؤيا صالحة من الله يبشر بها عبده ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث المرء نفسه ".
ــــــــــــــــ
موضوعه : من أعظم مكارم الايمان الامن النفسي ومن أعظم محاسن التوحيد قوة الارادة : دعني في البداية أقص عليك ماجرى لي بالامس ورب الكعبة إذ رن جرس الهاتف في بيتي فإذا المتكلم جارة كريمة لنا تربطنا بها روابط الدين والوطنية تطلب مني تدارك أمر قريبتها المفزوعة في إثر رؤياها في نومها لجارتها الميتة منذ سنوات بعيدة تزورها في بيتها لتأخذها معها ومما قالته الجارة أن الرائية تحولت حياتها إلى جحيم لا يطاق منذ هذه الحادثة فهي تبكي صباح مساء وهي تفكر في أمر جنينها وقد أزفت ساعة نزوله من يكفله من بعدها فهي ميتة لا محالة . ومن أقداره سبحانه أني كنت أنوي الحديث في أمر الرؤى ضمن هذه السلسلة فكانت تلك الحادثة مبعث تعجيل من ناحية ومصدر حزن عميق من ناحية أخرى حتى أني لم أزد جوابا لجارتي المكلفة من لدن قريبتها بالبحث عن " رجل دين " يؤخر هذا القدر المحتوم بالموت المشؤوم إلى حين نزول الجنين بقولي " لاتزيدي على قولك لها آمني بالله سبحانه " والحقيقة أني كنت أنوي إضافة شئ لم أقله وهو " لاشك أن إيمانك به مدخول إلى درجة سافلة لا تصدق ". وليست هذه هي المرة الاولى التي أتعرض فيها إلى مثل هذه المضحكات المبكيات وخاصة من لدن النساء في مسألة الرؤى ولو كانت دنيانا على غير النظام السائد اليوم لعقدت لمثل هذه الفاجعات مؤتمرات وطنية ولعدها الناس في برنامجهم اليومي القضية الوطنية الاولى وليس ذلك سوى لفرط ما تشتت به الاسر وتحطم بها الانسان وتؤخر به العمل وتهدد به الطفولة وقضايا التعليم والتربية غير أن الذي لايجعلها كذلك هو تأخر ما يسميه الملحدون إستهزاء بالميتافيزيقيا ويرتبون على ذلك إلغاء الاهتمام العقلي بالجانب النفسي والغيبي والروحي والعاطفي من الانسان فيتحول الانسان في إمبراطوريتهم إلى بغل قوي العضلات يلهث صباح مساء من أجل دكتاتورية البروليطاريا والصراع الطبقي أما أحاسيسه ومشاعره وعواطفه ونفسه وهمومه الداخلية وأشواقه المداسة فليس له سوى معالجتها بالفرار منها إن إستطاع أو تكذيب نداء الاديان جملة أو التردد على العيادات النفسية التي لا يؤمن أهلها بالله أصلا وفاقد الشئ لا يعطيه كما تقول العرب واليوم أحتكرت تلك العيادات من لدن طبقة العرافة والكهانة والدجل فلا تزيد العائذ إليها سوى وهنا.
الحل واحد وهو فقه رسالة الاسلام النفسية ثم تمثلها إرادة : لوجاز لنا أن نقول ما أصدق هذه الاية بما لا يفيد نفي ذلك عن غيرها أو التهوين منه لقلت ألا ما أصدق قوله سبحانه " ياحسرة على العباد " فهي حسرة وزفرة وشعور عميق والله بالحزن يغشاني كلما إستحضرت حالة ملايين مملينة من النساء خاصة اللائي يحملن الاسلام رسما كابرا عن كابر غير أن فعله فيهم تغييرا إلى الاحسن أمنا وسعادة وقوة وثقة ويقينا وأملا كمتدثر بثوبي زور أو كمتشبع بما لم يعط كما قال التعبير النبوي في مواضع أخرى ولو جاز لنا أن نقول ما أروع هذا الجانب في الاسلام بما لا يفيد نفي ذلك عن غيره لقلت لو لم يأت الاسلام بسوى تعمير النفس البشرية بالامن النفسي الذي يغمرها بالشكر في السراء والصبر في الضراء والايمان تسليما بالقضاء لكفاه فخرا بين الاديان وبين النظريات البشرية التي تحاول إلغاءه أو التهوين من شأنه وياحسرة على العباد الذين لا يوقنون بأن الامن والسلام والسعادة والرخاء والهناء والعيشة الطيبة الكريمة الحسنة والامل وكل ما ينتمي إلى تلك العائلة إنما ينبع منهم هم أولا فإن فقدوا ذلك فيهم فلن والذي نفسي بيده يجدوا له ريحا وياحسرة على العباد حقا حين لا يفهمون الاسلام على أنه مرفأ دافئ تحن إليه النفس المتعبة المنهوكة المكدودة المهدودة الشقية المحاصرة المطاردة وياحسرة على العباد الذين تجمع أفئدتهم ـ رغم أن القانون الطبيعي يقول بأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ـ بين الايمان وبين الخوف والفزع والجزع والهلع والتمزق إربا إربا بسبب رؤيا ليلا أو حادثة يوما فهل يصلح هؤلاء للدنيا أم أن الدنيا تصلح لهم وهل يرتقب منهم حسن سفارة عنه عليه السلام وهل يهابهم عدو وهل يحررون وطنا وهل ينشؤون أسرة ويربون ولدا ويبعثون أمة ؟
أهم ما جاء به الوحي الكريم في شأن الرؤى : أما القرآن الكريم فلم يتناول الشأن إلا قليلا وذلك في معرض القصة فحسب وأكبر ما جاء ذلك في قصة يوسف وهو يمتن عليه بتعليمه تأويل الاحلام وقد قام بتأويل ثلاثة رؤى إثنتين لصاحبيه في السجن وواحدة للملك ثم ما جاء في رؤيا إبراهيم في ذبح إسماعيل ومعلوم أن رؤيا الانبياء حق فهو إما أمر أو واقع لا محالة فهي جزء من الغيب الصحيح والقضاء المقدور. أما السنة فقد ورد فيها بضعة أحاديث في ذلك منها ما يفصل مستويات الرؤيا كما هو الحال اليوم ومنها ما يعلمنا الادب حيال كل نوع منها كما أخرج البخاري عن أبي قتادة " الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين يستيقظ ثلاث مرات ويتعوذ من شرها فإنها لا تضره " ومنها ما يميز بين رؤى المؤمن وغيره كما أخرج البخاري عن أبي هريرة " إذا إقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن وهي جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة " وتعدد رواته فمنهم عبادة بن الصامت وأنس ومنها ما يختص برؤياه هو عليه السلام كما أخرج البخاري عن أبي هريرة " من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي " ومنها ما يخص العلاقة بين صدق الرؤيا وبين سلوك المؤمن " أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا " وسماها مبشرات لم يعد بعد النبوة سواها للمؤمن ومنها ما يرهبنا من الكذب في الرؤيا " من حدث بما لم يركلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ".
السلوك الاسلامي حيال الرؤى وقاية وعلاجا : أما وقاية فلابد من تحقيق الايمان في النفس تحقيقا يعسر معه تسلل الشيطان إلى حصونه بغير الوسوسة التي لا يتخلص منها كائن من كان من غير المعصومين لانها ضربة لازب للابتلاء مقصد الخلق ومادة الامتحان وليس كوسيلة النظر شئ لتحقيق الايمان العاصم من الاهتزاز النفسي الكفيل بجعل أكبر وأول عدو للانسان أي الشيطان يسرح ويركض حرا طليقا ومما يوطد عرى تلك القوة الايمانية الاقبال على العبادات المفروضة وخاصة منها التلاوة والذكر والتفكر وبوجه أخص أدعية المناسبات كالدخول والخروج ومباشرة الامر والانتهاء منه وإستصحاب مقاطع قرآنية معلومة وخاصة أية الكرسي وخوايتم البقرة والاخلاص والمعوذتين وليس كالاخلاص عدوا لدودا للشيطان فهو لايبرح يفسده ومن وسائله إفساد الاخلاص بالاخلاص ولا نتكلم الان فيه لضيق المجال وأما علاجا فلابد من تحقيق أصح الفهم بداية وبخاصة أن الاسلام الذي تقلدته ليس له من وظيفة سوى عداوة الجهل والمرض ومنه النفسي والفقر ومنه فقر الارادة الكفيلة بإذنه سبحانه بدفع الفقر المادي وتلك الوظائف تتحقق عبر تقوية النفس وتأهلها للامل واليقين والثقة والامن الداخلي الذي يوفر التوكل والعزم والمضاء ومعافسة المصاعب وليس أصدق من قولة الامام علي " إذا هبت أمرا فقع فيه فإن الوقوع فيه أهون عليك من الخوف منه " فالاسلام يعمر الدنيا بتعمير النفس الداخلية للانسان فإذا فشل مشروعه في محطته الاولى فلن يثمر بعد ذلك شيئا وبعد المعالجة بحسن الفهم يكون حسن التنزيل ومنه أن صدق الكلام في النهار يؤدي إلى صدق الرؤيا في الليل وهو معيار صحيح دقيق لصدق الرؤيا ثم يحدث الرائي برؤياه التي إستحسنها من يحبه ويثق فيه ولايكون ذلك بالضرورة لتعبيرها أو تأويلها فذلك فن وموهبة وعلم تخصص فيه رجال من مثل إبن سيرين ولايكون الرجل صادق التعبير في الرؤيا له ولغيره حتى يكون من أقرب الناس إلى الله لانه يتكلم بإسمه ويحدق في غيبه ويستلهم من علمه وهو قضاء لما يقدر أي لما يقع فهو غيب لا يطلعه سبحانه سوى على من أحب وليس هو دنيا يصيب بها من آمن وكفر سواء بسواء وبعد تأويل الرؤيا يجب أن يعتقد الناس أن ذلك لا يعدو أن يكون إجتهادا من الرائي في صحة النقل وإجتهادا من المعبر في صحة التأويل فإن جزم بذلك فقد قدم بين يدي الله وقال عليه بغير علم وتعدى حدوده كما عليه أن يؤمن دوما أن ذلك حتى على فرض صحته نقلا وتعبيرا غيب مقضي عنده سبحانه مالم يصبح قدرا مقدورا بين الناس فإن ألف صارف وصارف مأذون له منه سبحانه في إبطاله ومنه الدعاء ومنه قوله " يمحوالله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب "أما حال تحزين الشيطان فالواجب العمل بسنته عليه السلام في ذلك أي التفل والاستعاذة أي ضمان عدم الضرر بإذنه سبحانه .
فالخلاصة هي إذن أن الرؤيا سواء كانت صالحة أو تحزين شيطان أو حديث نفس لا تصلح أن تكون في عقيدة المؤمن المتيقن من ربه والواثق برسالته والمملوء أملا وتوكلا وقوة بربه مصدر غيب شرا كان أو خيرا محققا لايطاله شك كأنه قضاء مقدور أو حياة معيشة ولامصدر تشريع فهي إذن محطة إبتلاء سواء بالبشارة التي قد تتحقق لو لم يمحها سبحانه بسبب لا نعلمه أو بالتحزين الشيطاني الذي يلاحق الانسان حتى في نومه ليزداد إيمانا بأن أعدى الاعداء ليس هو سوى الشيطان أو بحديث الاماني رغبا ورهبا وهو الجزء الذي توصل إليه العلم الحديث في شأن الرؤى المنامية كما قال بذلك فرويد وغيره وذلك هو مبلغهم من العلم ظاهرا من القول أما ساحة الحرب الحقيقية فهي ساحة اليقظة بسائر مسؤولياتها .
مواقع النشر (المفضلة)