+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1
    ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute الصورة الرمزية ابو مالك
    تاريخ التسجيل
    20 / 03 / 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    50
    المشاركات
    6,574
    معدل تقييم المستوى
    7059

    افتراضي والقصد القصد تبلغوا

    بسم الله الرحمن الرحيم

    لعلَّ مِن أزمات الخِطاب الدعوي المعاصِر في إطاره التأصيلي: توسيعَ دائرة القطعيَّات، وحتى يمكننا فَهْمُ هذا الموضوع، نحتاج إلى فَهْم دلالات النصوص الشرعية في الكتاب والسُّنة بصورة توضِّح لنا جوانبَ هذه الأزمة، التي يعانيها خِطابُنا، وتؤكِّد - بلا أدْنى شك لدَيْنا -: أنَّ مرجعَ ما تعيشه الأمة اليوم من أزمات إنَّما هو النُّخبةُ الفِكرية الموجِّهة للعامة.

    من المقرَّر أصلاً وشرعًا: أنَّ مرجع الاستدلال عند العلماء إنما هو الكتاب والسُّنة، وهما المصدران الأصليان للمستدِلِّ عند استنباطه للأحكام الشرعية، وما سواهما من الأدلة إنما تُعتبر أدلَّةً فرعيَّة تابعة، فهي لا تخرج عن مقتضى النصِّ الشرعي، ولا خلافَ بين العلماء في هذا الأصل.

    والنظر في الكتاب إنَّما يكون من جهة صِحَّة الاستدلال على المسألة المُرادِ استنباطُها، وليس من جهة السَّنَد، على اعتبار أنَّ القرآن مقطوعٌ بصحته؛ لأنَّه منقول بالتواتُر القطعيّ، فهو قطعيُّ الثبوت.

    أمَّا النظر في السُّنة فإنَّما يكون من جِهتين:
    الأولى: صِحَّة السَّنَد.
    والثانية: صحَّة الاستدلال، على اعتبار أنَّ السُّنة فيها الصحيح والحسن، والضعيف والموضوع، فلا بدَّ إذًا من النظرَيْن عند الاستدلال بالسُّنة.

    ومن جهة أخرى، فإنَّ النص الشرعي - كتابًا وسُنَّة - يتراوح بين ما هو قطعيُّ الدلالة، وظنيُّ الدلالة، وقطعي الدلالة يُعبِّر عنه الأصوليُّون بـ(النص): "وهو اللفظ الذي يُفيد معنى لا يحتمل غيرَه"
    [1]، فيكون الحكم المستفاد من النص قطعيًّا؛ لكون عِلَّته مؤثِّرة فيه من غير احتمال لغيره؛ كما في قوله – تعالى -: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، فهذا نصٌّ صريح في إيجاب الصَّوْم عشرة أيَّام لِمَن لم يجد الهَدْيَ من غير حاضري المسجد الحرام؛ أي: من غير ساكنيه، وقوله – تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ففي هذه الآية التصريحُ بحُرْمة الرِّبا، وإباحة البيع، فلا احتمال لغيره.

    وأما الظَّنِّي الدلالة فيدخل فيه (مبحث الظاهر والمؤول)، أما الظاهر فهو: "اللفظ الذي يُفيد المعنى الذي وُضِع له، مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحًا"
    [2]، فيكون أحدهما أظهرَ في المعنى من غيره، كقولنا: رأيتُ أسدًا، فإنَّه ظاهر في الحيوان المفترس، ويبعد أن يُراد به الرجل الشجاع، مع احتمال اللفظ له؛ لكون الدليل ظاهرًا في إرادة المعنى الأول.

    وأما المؤول فهو: "حَمْل اللفظ على غير مدلوله الظاهِر منه، مع احتماله له بدليل يُعضِّده"
    [3]، فيؤخذ بالاحتمال المرجوح على حساب الراجح لدليل يقتضي ذلك، ومثالُه قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فإنَّ القيام إلى الصلاة قد صُرِف عن معناه الظاهر إلى معنًى قريب محتمل، وهو العَزْم على أداء الصلاة، والمراد: إذا عزمتُم على أداء الصلاة، والذي رجَّح هذا الاحتمالَ دليلٌ، وهو: أنَّ الشارع لا يَطلب الوضوء من المكلَّفين بعد الشروع في الصلاة[4].

    فإذًا؛ النصُّ الشرعي - كتابًا وسُنة - دائرٌ بين ما هو قطعيُّ الدلالة، وظنِّيُّ الدلالة، وقد ذهب بعضُ العلماء إلى القوْل بأنَّ النصوص ذات الدلالة القطعية عزيزةٌ وقليلة، كما ذكر ذلك الزركشيّ
    [5]، والراجح أنَّها كثيرة، فكلُّ نص أفاد معنى على القطْع، مع انحسام التأويل، فهو نصّ، وقد كان الشافعيُّ يُسمِّي الظاهر نصًّا[6]، ولكن يمكن أن ينضبطَ المستدِلُّ بالحد الذي ذَكَره العلماء في التفريق بين النصِّ والظاهر - كما تبيَّن لنا فيما مضى.

    فإذا كان الأمرُ كذلك، فما الذي نقصده بتوسيع دائرة القطعيات في الخِطاب الدعوي المعاصر؟ إنَّه باختصار جَعْل الظنيِّ قطعيًّا، وجعل الظاهر نصًّا، وجعل المؤول نصًّا، وهذا له أثرُه السلبي في باب الأسماء والأحكام، فإنَّ بعض الاختيارات والاجتهادات أصبحتْ سُنَّة ثابتة عند أصحابها، مَن خالفها يدخل في باب البِدعة، ومَن دخل في باب البِدعة أصبح خارجًا من إطار أهل السُّنة والجماعة، ومِن جهة أخرى أُلْصِقت بعضُ الفتاوى المستندة على باب الاجتهاد بمنهج أهل السُّنة والجماعة، وجُعِلت أصلاً من أصوله، فمَن لم يأخذْ بمقتضى هذه الفتاوى فإنَّ مصيرَه الخروج عن منهج أهل السُّنة والجماعة، وهذا بابٌ من الإلْزامات لو فُتِح على مصراعيه لَمَا بقي مَن ينتسب إلى منهج أهل السُّنة والجماعة، وما هذا التهارُجُ بين المنتسبين إلى الدعوة السلفية إلاَّ دليلٌ ظاهر على عِظَم وخطر ما تمرُّ به هذه الدعوة من أزْمة فِكرية ومنهجية.

    إنَّ هذه الظاهرة إنَّما هي تعبير عن سيادة جانب الغُلو والتشدُّد، الذي ذمَّه الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلماءُ الأمَّة وفقهاؤها المتَّصفون بالوسطية، فالقرآن ذمَّ أهلَ الكتاب حين غَلوا في الدِّين؛ فقال - سبحانه -: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، فنهيُه - سبحانه - لأهل الكتاب عن الغُلوِّ دليلٌ على اتِّصافهم به، وقال - عليه الصلاة والسلام - : ((إيَّاكم والغلوَّ في الدِّين، فإنَّه أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين))
    [7]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ هذا الدين يُسرٌ، ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبه))[8]، وما أحسنَ عبارةَ سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرُّخْصة مِن ثقة، فأما التشديد فيُحسنه كلُّ أحد"[9].

    قال النووي - تعليقًا على قول سفيان -: "وأما مَن صحَّ قصدُه، فاحتسب في طَلَب حِيلة لا شُبهة فيها؛ لتخليص من ورْطةِ يَمينٍ ونحوها، فذلك حسنٌ جميل، وعليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف مِن نحو هذا"
    [10]، وسأضع بين يدي القارئ الكريم ثلاثةَ أمثلة توضِّح الخَلَل في توسيع دائرة القطعيات:
    المثال الأول: في كيفية اختيار الحاكم:
    عرف المنهج الإسلامي في عَقْد الإمامة عِدَّة طرق لإقامتها، قال النووي: "وتنعقد الإمامة بثلاثة طرق:
    إحداها:البيعة؛ كما بايعتِ الصحابة أبا بكر - رضي الله عنه - وفي العدد الذي تنعقد الإمامة ببيعتهم ستَّة أوجه... والسادس - وهو الأصحُّ -: أنَّ المعتبر بيعةُ أهل الحَلِّ والعَقْد من العلماء والرؤساء، وسائر وجوه الناس الذين يتيسَّر حضورُهم...
    الطريق الثاني:استخلاف الإمام مِن قَبْل، وعهده إليه، كما عَهِد أبو بكر إلى عمر - رضي الله عنهما - وانعقد الإجماعُ على جوازه..
    وأما الطريق الثالث:فهو القَهْر والاستيلاء..."
    [11].

    والسؤال هنا: هل هذه الطُّرق في اختيار الحاكم توقيفِيَّة مبنيَّة على النصوص الشرعية، أم أنَّها اجتهادية توفيقية؟ بمعنى لا يلجأ المسلِمون إلى اختيار الحاكم المسلِم إلاَّ بموجب هذه الطرق المنقولة إلينا بفِعْل الصحابة، أم أنَّ الأمر يتجاوز ذلك؛ ليتسعَ لطرق أخرى في اختياره، طالَما أنها مضبوطةٌ بالصِّفة الشرعية؟
    الذي يظهر - والله تعالى أعلم -: أنَّ هذه الطرق لا تَعْدو أن تكونَ ممارساتٍ اجتهد الصحابة في اتِّباعها؛ استنادًا إلى المصلحة الشرعية التي أملتْها اعتباراتُ الواقع الإسلامي في ذلك الوقت.

    وإجماعُ الفقهاء والعلماء على هذه الطُّرق - كما نقل ذلك النوويُّ - لا يُخرجها في حقيقة الأمر عن كونها اجتهاداتٍ واختياراتٍ داخلةً في إطار الزمان والمكان، بمعنى أنها يمكن أن تتغيَّر بتغيُّر المصالح، والأزمنة والأمكنة، والأشخاص والأحوال، ولا يُشكل هذا القول مع قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين مِن بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ))
    [12] ؛ لكون الحديث متعلقًا بباب المقاصِد التي لا يجوز الاجتهادُ فيها، وأمرها موقوف على النصِّ الشرعي، كالعبادات مثلاً، بينما اختيار الحاكم يدخل في باب الوسائل، وباب الوسائل أمرُه واسعٌ، كما هو المعلوم عند العلماء.

    وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ الفتوى بأنَّ هذه الممارسات إنما هي مسألةُ مبدأ ومنهاج، وليس خيارًا للمسلمين، وربْط هذه الفتوى بمنهج أهل السُّنة والجماعة، وجعلها أصلاً من أصوله يُعتبر في اعتقادنا خروجًا عن القصْد، خاصَّة وأنَّ الأدلة المستدل بها إنَّما هي أدلَّة عامة، لا تدلُّ صراحةً على هذه الممارسات، ولا تدلُّ على كونها موقوفةً يجب اتباعها، مع العلم بأنَّ الفعل السياسي - كما هو معروف لدى المتخصِّصين في السياسة الشرعية - دائرٌ مع المصلحة المرسلة التي لم يأتِ في الشَّرْع اعتبار لها ولا إلغاء، أكثرَ من دورانه مع بقية الأدلة.

    ومن هذه الأدلة التي استدلَّ بها القائلون بالتوقيف: قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وهي لا تُسعفهم، فغاية ما يَدلُّ عليه هذا النص إلْزام الأمَّة بطاعة أولياء الأمر طالَمَا أطاعوا الله ورسوله، ولا أعلم إلى متى يبقى منهجُ أهل السُّنة والجماعة مرتعًا لاجتهادات واختيارات، يدخُلُ بها المرء إلى رِحاب هذا المنهج، ويخرج منه بحسب اتِّباعه أو مخالفته لها.

    وكان يَسعُ صاحبَ هذا القول جعلُه في إطار الاجتهاد، الذي يسوغ الخلاف فيه بين العلماء، ويكون دائرًا بين الراجح والمرجوح، والصواب والخطأ، وليس بيْن الحق والباطل، والهُدى والضلال، والسُّنة والبدعة، والواقع أنَّ كِلاَ القولين رائدُه الدليل، طالَمَا كان محتملاً للمعنيَيْن، فجَعْلُ أحدهما قطعيًّا لا شكَّ يعتبر خروجًا عن القصْد، وتوسيعًا لدائرة القطعيات في الشريعة.

    المثال الثاني: التثويب في أذان الفجر:
    التثويب هو قول المؤذن: (الصلاة خيرٌ من النوم)، قال النووي: "وأما التثويب فمأخوذٌ من "ثاب" إذا رجع، كأنَّه رجع إلى الدعاء إلى الصلاة مَرَّة أخرى؛ لأنَّه دعا إليها بقوله: (حي على الصلاة)، ثم دَعَا إليها بقوله: (الصلاة خيرٌ من النوم)"
    [13]، ومن المعلوم أنَّ هناك أذانين للفجْر: أذان قَبْلَه، وأذان بَعْدَه.

    والسؤال هنا: هل يكون التثويب في الأذان الذي قبل الفَجْر، أم الأذان الذي يكون بعده؟

    هناك خلافٌ بين العلماء حولَ هذه المسألة،
    والذي يبدو أنَّ الخلاف متأخِّر وليس متقدمًا، أما القول الأول، فهو مذهب جمهور العلماء: أنَّ التثويب يكون في الأذان الذي يكون بعدَ دخول وقت الفَجْر، وليس قبلَه، وأما القول الثاني: فإنه يقرر أنَّ التثويب إنما يكون في الأذان الذي قَبْل الفجر، وبَنَى أصحاب هذا القول رأيهم على بعض الأدلة الصحيحة، منها حديث أبي محذورة - كما روى ذلك الإمام أحمد وغيرُه - وفيه قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإذا أذَّنْتَ بالأول من الصبح، فقُل: الصلاة خيرٌ من النوم، الصلاة خير من النوم))، وحديث ابن عمر - رضي الله عنه - الذي رواه البيهقيُّ وغيره، حيث قال: "كان في الأذان الأوَّل بعد الفلاح (الصلاة خيرٌ من النوم) مرَّتين"[14].

    ومقتضى هذه الأدلَّة - كما يراه أصحاب هذا القول -: أنَّ التثويب إنما يكون في الأذان الأول، والأذان الأول إنَّما هو الذي قَبْل دخول وقْت الفجر، فلذلك هو متعيِّن في هذا الوقت، وقد ذَهَب إلى هذا القول الصنعانيُّ في "سبل السلام"، والألبانيُّ في "تمام المنة"
    [15].

    وأجاب الجمهور عن أدلَّة القول الآخَر: بأنَّها أدلَّة تُظهر كون التثويب في الأذان الذي بعدَ دخول وقت الفَجْر، وليس قبلَه، والدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - كما في حديث أبي محذورة: ((وإذا أَذَّنْتَ بالأوَّل من الصُّبْح))، وقول ابن عمر: "كان في الأذان الأوَّل بعدَ الفلاح"، والأذان الذي قبل الفجْر ليس من الصُّبح، بل هو من اللَّيْل، فالدليل إذًا لا يسعف أصحابَ هذا القول، بل الدليل مع الجمهور، مع احتماله - ولا شكَّ - لمقتضى القول الآخر على ضعْفه، ولو توقَّف الأمر عندَ هذا الحدِّ، الذي يجعل الخلافَ بين القولين خلافًا سائغًا بين العلماء، طالما أنَّ الدليل يحتمل القولين، فيكون دائرًا بين الخطأ والصواب، والراجح والمرجوح، لكان مقبولاً، ولكنَّ الأمر تجاوز ذلك، ودخل في دائرة توسيع القطعيات، حينما وُصِف قول الجمهور بأنَّه بِدعة مخالِفة للسُّنة - كما هو إطلاق الشيخ الألباني، رحمه الله تعالى - في "تمام المنة": "وممَّا سبق يتبيَّن أنَّ جعْل التثويب في الأذان الثاني بدعةٌ مخالِفة للسُّنة"
    [16].

    ومقتضى هذا القول: أنَّ التثويب الذي يكون في الأذان قبلَ الفجر - كما رجَّحه رحمه الله - مبنيٌّ على دليل قطعي، لا يحتمل إلاَّ معنى واحدًا، وليس الأمر كذلك، فقد ثبت لدينا أنَّ الدليل محتملٌ للقولين، وقول الجمهور أظهرُ بلا شك، فعلى ذلك يكون دائرًا في إطار الاجتهاد، الذي يسوغ فيه الخلاف، فلا إنكار على المخالِف فيه، ويكون عندئذٍ وصف القوْل الآخر بأنَّه بدعة مخالِفة للسُّنة، خروجًا عن القصْد، وتوسيعًا لدائرة القطعيات
    [17].

    المثال الثالث: القنوت في الفجر:
    وهو مِن المسائل التي اختلف فيها أهلُ العلم، والواقع أنَّ أصْل القنوت في الفجر متَّفق عليه بين جماهير العلماء؛ كما نقل ذلك الإمام النووي في "المجموع"
    [18]، وإنَّما الخلاف في المداومة عليه - كما هو مذهب الشافعية وغيرهم - ومرجِع الخلاف بين العلماء اختلافُ الأدلَّة وتعارضُها، فمِن الأدلة التي تُظهر عدمَ مداومة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على القنوت في الفجر حديثُ أنس: "قنت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد الرُّكوع شهرًا، يدعو على رِعْل وذَكْوان"[19]، وحديث سعد بن طارق الأشجعيّ: "قلت لأبي: يا أَبَت، إنَّك قد صليتَ خلف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي بن أبي طالب ها هنا وبالكوفة نحوًا من خمس سِنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بُني، مُحْدَث"[20].

    وهناك مَن استدلَّ بأحاديثَ أُخرَ تُظهر - حسب رأيه - جوازَ المداومة على قنوت الفجر، ومنها: حديث البراء بن عازب: "أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقنت في الصبح والمغرب"
    [21]، ويشهد له حديثُ أبي هريرة: "والله لأنا أقربُكم صلاةً برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر، وعشاء الآخِرة، وصلاة الصبح بعدَما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكُفَّار"[22].

    فهذه الأحاديث ظاهرُها التعارض، والذي يهمُّنا هنا في هذه المسألة - فلسنا بصدد الترجيح فيها -: أن نقرِّر أنَّ المسألة ليس فيها ما يقطع صحَّة أحد القولين؛ وذلك لعدم وجود النصِّ القطعي فيها؛ لذلك فهي داخلةٌ في الخلاف السائغ بين العلماء، فتكون متردِّدة - كما قررْنا في مثيلاتها السابقة - بين الراجح والمرجوح، والخطأ والصواب، وعلى هذا الأساس فلا إنكارَ على مَن تبنَّى أحد هذين القولين، طالَما أنَّ المسألة مختلَفٌ فيها، ومبنية على أدلة صحيحة، فلا إنكارَ في مسائل الخلاف، كما قرَّر ذلك العلماء.

    وإذا تقرَّر ذلك، فإنَّ جعْلَ أحد هذين القولين مقطوعًا به، وردَّ الآخر لكونه بدعةً مخالِفة للسُّنة، فإنَّه يُعتبر خروجًا عن القصْد، وتوسيعًا لدائرة القطعيات، ولعلَّ نقْل كلام ابن القيِّم في هذه المسألة يزيد الأمر رسوخًا، فقد قال - رحمه الله -: "صحَّ عن أبي هريرة أنه قال: "واللهِ لأنا أقربُكم صلاةً برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكان أبو هريرة يقنُت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدَما يقول: سَمِع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار"، ولا ريب أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَعَل ذلك، ثم تَرَكه، فأحبَّ أبو هريرة أن يُعلمهم أنَّ مثل هذا القنوت سُنة، وأنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَعَله، وهذا ردٌّ على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوتَ في الفجر مطلقًا عندَ النوازل وغيرها، ويقولون: هو منسوخ، وفِعْله بدعة، فأهلُ الحديث متوسِّطون بين هؤلاء، وبين مَن استحبَّه عند النوازل وغيرها، وهم أسعدُ بالحديث من الطائفتَين، فإنَّهم يقنتون حيث قَنَت رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتركونه حيث تَرَكه، فيَقْتدون به في فِعْله وترْكه، ويقولون: فعلُه سُنَّة، وترْكُه سُنَّة، ومع هذا، فلا ينكرون على مَن داوم عليه، ولا يكرهون فِعلَه، ولا يرونه بِدعة، ولا فاعله مخالفًا للسُّنة، كما لا ينكرون على مَن أنكره عندَ النوازل، ولا يرون ترْكَه بدعة، ولا تارِكَه مخالفًا للسُّنة، بل مَن قنت فقد أحسن، ومَن تَرَكه فقد أحسن"، ثم قال - رحمه الله -: "وليس مقصودُنا إلاَّ ذِكْر هَديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي كان يفعله هو، فإنَّه قِبلةُ القصْد، وإليه التوجُّه في هذا الكتاب، وعليه مدارُ التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا يُنكر فعلُه وتَرْكه شيء، فنحن لم نتعرَّض في هذا الكتاب لِمَا يجوز، ولِمَا لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هَديُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي كان يختاره لنفسه، فإنَّه أكمل الهَدي وأفضله، فإذا قلْنا: لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر، ولا الجهر بالبسملة، لم يدلَّ ذلك على كراهية غيره، ولا أنَّه بدعة، ولكن هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكملُ الهدي وأفضله، والله المستعان"
    [23].

    فهذه ثلاثة أمثلة، تقرِّر وتُدلِّل على عِظم الخَلَل الذي يواجهه خِطَابنا الدعوي، فتوسيع دائرةِ القطعيات شأنُه أن يُفضي إلى نقْل الخلاف من ساحة الخلاف السائغ إلى ساحة الخِلاف المذموم، من خلاف التنوُّع إلى خِلاف التضاد، وما نشاهده اليومَ من تراشق وتهارج وإسقاط، وتفسيق وتبديع، خيرُ مثال على ما قرَّرْناه هنا، فما أحوجَنا إلى قواعد الفَهْم التي جرى عليها سلفُنا الصالح، فكانوا أمَّةً واحدة، وجماعةً واحدة!

    وما أحوجَنا لتعلُّم وتلمُّس أدب التعامل مع المخالِف! وحريٌّ بنا أن نتعلَّم هدي الاعتذار، وتجاوز الأخطاء، وعدم تلمُّس العثرات؛ طالَمَا أنَّ المخالِف سبيلُه السُّنة والاتباع، وليس المخالفة والابتداع.

    واللهُ مِن وراء القصد، وصلَّى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
    [1] الوجيز في أصول التشريع الإسلامي؛ د. محمد حسن هيتو (ص: 120).
    [2] الوجيز في أصول التشريع الإسلامي (ص: 121).
    [3] الجامع لمسائل أصول الفقه؛ د. عبدالكريم النملة (ص:194).
    [4] الجامع لمسائل أصول الفقه (ص: 194).
    [5] انظر: البحر المحيط في أصول الفِقه؛ الزركشي (1/465).
    [6] المرجع السابق، (ص: 465).
    [7] أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدْر حصى الرمي، رقم (3029)، وابن حبَّان، كتاب الحج، باب ذكْر وصف الحصى التي تُرمى بها الجمار، رقم (3871).
    [8] أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدِّين يُسر، رقم (39).
    [9] المجموع شرح المهذب؛ النووي (1/651).
    [10] المرجع السابق (ص: 651).
    [11] روضة الطالبين، النووي، (ص: 1715 - 1717)، طبعة دار ابن حزم.
    [12] أخرجه الترمذي، أبواب العلم عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2816).
    [13] المجموع شرح المهذب (4/ 152).
    [14] انظر: شرح الزركشي على مختصر الخِرقي (1/505)، وبحوث علمية نادرة؛ فهد بن عبدالله بن عبدالعزيز الصقعبي، (ص: 127).
    [15] انظر: بحوث علمية نادرة (ص: 129).
    [16] تمام المنة (146).
    [17] هذا القول لا يغضُّ من مكانة الشيخ - رحمه الله - فهي محفوظة في قلوب وعقول طلاَّب العلم، فهو المحدِّث والعالِم والمجدِّد - نحسبه كذلك، والله حسيبه - ولكن هذا لا يمنع مِن بيان الحق وتقريره، فالحقُّ أحقُّ أن يُتبَّع، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويترك، إلاَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم.
    [18] المجموع شرح المهذب (4/666).
    [19] أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، رقم (3868).
    [20] أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة، باب في ترْك القنوت، رقم (400).
    [21] أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، رقم (305).
    [22] أخرجه البيهقي، كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلوات عند نزول نازلة، رقم (2910).
    [23] زاد المعاد في هدي خير العباد؛ ابن قيم الجوزية (1/265).

    فارس العزاوي

     
  2. #2
    كوووكب is a splendid one to behold كوووكب is a splendid one to behold كوووكب is a splendid one to behold كوووكب is a splendid one to behold كوووكب is a splendid one to behold كوووكب is a splendid one to behold كوووكب is a splendid one to behold كوووكب is a splendid one to behold الصورة الرمزية كوووكب
    تاريخ التسجيل
    19 / 08 / 2009
    الدولة
    السودان
    العمر
    40
    المشاركات
    1,289
    معدل تقييم المستوى
    1569

    افتراضي

    جزاك الله كل الخير على الطرح المفيد مشكوووور

     
  3. #3
    ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute الصورة الرمزية ابو مالك
    تاريخ التسجيل
    20 / 03 / 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    50
    المشاركات
    6,574
    معدل تقييم المستوى
    7059

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كوووكب مشاهدة المشاركة
    جزاك الله كل الخير على الطرح المفيد مشكوووور
    شكرا لمرورك العطر على مشاركتي

     
  4. #4
    صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute الصورة الرمزية صناع الحياة
    تاريخ التسجيل
    09 / 06 / 2005
    الدولة
    مصر
    العمر
    51
    المشاركات
    21,349
    معدل تقييم المستوى
    26549

    افتراضي

    بارك الله فيك وجزاك كل الخير
    مع الشكر والتقدير

     
  5. #5
    ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute الصورة الرمزية ابو مالك
    تاريخ التسجيل
    20 / 03 / 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    50
    المشاركات
    6,574
    معدل تقييم المستوى
    7059

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صناع الحياة مشاهدة المشاركة
    بارك الله فيك وجزاك كل الخير
    مع الشكر والتقدير
    شكرا لمرورك العطر على مشاركتي أخي الفاضل صناع الحياة

     

 
+ الرد على الموضوع

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك