الكهولة.. اكتمال نصاب العمر
وحده الكهل أكثر قابلية للنظر في جهاته قاطبة، وتلك بداية أخرى في إمعان النظر عما حقق أو تحقق له، ومساءلة حركية الزمان بإيقاع مغاير، واستقصاء نبض المكان بعد معايشته حيناً من الدهر.
لا أحد منا يريد أن يكون كهلاً أو يضرب به المثل وهو كهل حتى على صعيد التصور، ولو لبعض الوقت. إن الكهولة تستشرف بالمرء وضعاً جسدياً لا يسره، حيث يعيش حركية قواه الحيوية وقد انسحبت إلى الداخل.
إنها الطريق السالك والذي يظهر للوهلة الأولى انحدارياً إلى درجة أن النقطة التي يتوقف عندها، في حالة الكهولة، تضع المرء في مواجهة ذاته اللاحقة، وقد ضاقت به الأرض، حتى بالنسبة لأفق الرؤية يكون ارتدادياً.
في الوسع الحديث بلغة شعرية عن الكهولة، عن الأرض وقد تقلصت مساحة، والسماء قد تجلت بعيدة عن محيط النظر، والشعور بالعالم وقد تضعضع داخلياً، إنها قيامة اللحظة المخيفة للكثيرين، حيث لا يُسمع إلا صوت وحيد يأتي من عالم يتضاعف الشعور به في الحالة هذه، بقدر ما تتداخل الصور المركَّبة وهي تشير إليه: الموت!
وربما في وسع أحدهم أن يبرز بنوع من التحدي أو التباري على أن المشار إليه ليس صحيحاً، ولكن الوضع هذا لا يمكن كيل المديح له، إذ القوة تصبح يوتوبيا، مثلما أن الرغبة وإمكانية تحقيقها من جنس اليوتوبيا: الاستحالة، كون الشعور الداخلي ينطوي على ما هو مأسوي. الكهولة لا تحثنا على ما هو إقدامي وإنما على ملازمة المكان.
هل يمكن البحث في جماليات الكهولة؟ عندما يتم النظر في العمر على أنه كل واحد كاسم، عندما تكون الكهولة حداً من حدودها وليس النقطة التي يتم تحديدها في طريق نسلكه، وأن ما نقطعه يغدو في عداد الماضي. ثمة خطأ في القياس أو التمثيل عندما نتحدث عن الطريق الذي يقطع بنا محيطاً جغرافياً مختلف التضاريس ونحن ننتقل من ـ إلى، ونحن نمنح لكل مرحلة قيمة مستقلة عن سواها وكأننا نمارس تجزيئاً لجسدنا الإنسي، لقوانا في الداخل، دون أخذ كلّية الجسد بعين الاعتبار، وما يترتب على هذه القراءة المغلوطة للجسد المجزَّا من مأساة مؤلمة.
الكهولة: اكتمال نصاب العمر، ممارسة عمرية من الداخل، عندما يكون في مقدور الكهل أن يقتفي أثرَ ما عاشه، أو سلكه، أن ينفتح على تاريخه، تبعاً لموقعه ولما أنجزه زمنياً، وهو ما لم يقم به عندما كان طفلاً، وهو يروم تقدماً، وصبياً وهو يتوسل شبوبية أكثر حيوية، وناضجاً بجلاء وهو يؤكد شخصيته في محيطه. إنها حصيلة مرحلية له، خاصية الجسد وقد تعتَّق، أو قد تنوع أرشيفه الحيوي الرمزي. إنها الوجه الآخر من الحياة التي تتجاوز ما هو ظاهري، ما لم يكن في حسبان المرء في البدايات.
وحده الكهل أكثر قابلية للنظر في جهاته قاطبة وتلك بداية أخرى في إمعان النظر عما حقق أو تحقق له، ومساءلة حركية الزمان بإيقاع مغاير، واستقصاء نبض المكان بعد معايشته حيناً من الدهر. إنها مغامرة تتبصر جوانب العمر المختلفة، مواجهة للذات وربما استئناس بالمنجز من العمر، لكأن المنجز العمري استرداد المتوخى مما فات، باعتباره الرصيد الروحي للمرغوب فيه!
الحياة في الحالة هذه أكثر قدرة على تنويع مباهجها أو تفريعها، على إبراز محاسنها في الذين يعيشونها، وتكمن الحكمة الكبرى فيها من خلال هذا المسار المتعدد الأبعاد، في دائرة مفتوحة هي العمر الفعلي الذي يعني كلاً منا، وليس العمر بالمعنى الحسابي: الكمي، إنما الهندسي عندما ينفتح الجسد على خلاصة العالم الذي عاشه، العالم الذي بات يتشكل وفق مقياس العائد إليه في موقع معين.
ومن خلال عطاء معين، ليكون في وسع الآخر مكاشفة المختلف بين عمر وخلافه، بين ما تعنيه الكهولة باعتبارها انحداراً بقوى الجسد وضموراً في فاعليتها، وخوفاً من مواجهة سافرة لما يستحيل تجنبه واللقاء به: الموت، وما تمثّله من لحظة مقاربة واقع جسد انشغل بمهام حياتية مثلى، وأن الذي تم باسمه يضمن له توافر صحة نفسية من نوع مستجد، ربما الأكثر شبوبية يحسده عليها، عدا اختلاف الشعور الفعلي ومن الداخل، ذاك الذي يلازم المهاد الروحي ويكون عصياً على الترجمة بالمقابل، لتكون الكهولة رغم المرئي والمشدَّد على علامات فارقة وظاهرة فيها، ضرباً من التأويل، أو وجوهاً تتشكل باستمرار.
إزاء هذين النموذجين يمكن رسم عمودين كبيرين يغطيان تاريخاً كاملاً، وتأمل الذين يتموضعون فيهما، وكيف يكون تذوق الحياة في مختلف مراحلها وفي جملتها، كيف يكون إعراب مفهوم الكهل قيمياً في كل حالة، وأي شعور بالبقاء لزمن أطول أجلب للسعادة وأكثر مجلبة لعزاء لا يُرى في الجسد إلا ما تأصَّل فيه خبراتياً واعتبارياً.
نعم، لا أحد يرضى أن يعيش كهلاً، ولكن الكهولة المخيفة هي تلك التي يكون رصيدها الحياتي صفراً ودونه!
موضوع اعجبني
مواقع النشر (المفضلة)