تعتبر قضية تعريب التعليم العالي إحدى القضايا التي تسبب كثيرا من الصداع نتيجة الاختلافات الحادة بين متناوليها ونظرا لتعدد وجهات النظر حولها ، فهذا يدعو إلى التعريب الكامل لكل المناهج والمواد في الكليات والمعاهد وهذا يدعو إلى تدريس كافة المقررات باللغة الإنجليزية وهذا يأخذ رأيا وسطا بين متناقضين وهذا يعرض وجهة نظر بين الرأي الأول والرأي الوسط ...........وهي من ذلك النوع من القضايا الذي يفتر ويفتر حتى لا يكاد يناقشه أحد ثم تتصاعد وتيرته شيئا فشيئا حتى يصبح الشاغل الأول والأخير للمهتمين بشئون التعليم ليس فقط لأن التعليم يمثل القاعدة الراسخة للتنمية والحضارة والتقدم ولكن أيضا لاعتبارات أيديولوجية واهتمامات قومية ومحاولات مستميتة للحفاظ على الهوية العربية التي تبهت يوما بعد يوم والتي يتهددها الغزو الثقافي والعولمة التي تبشرنا فيما تبشر به بسيادة ثقافة واحدة هي الثقافة الغربية ولغة واحدة هي اللغة الإنجليزية .
والحقيقة التي يجب أن نتذكرها هي أن التعليم بدأ في مصر في العصر الحديث بلغة عربية وكانت أول كلية طب أنشأها محمد على باشا الكبير(الرجل الأمي) عام 1826 تدرس الطب باللغة العربية ومن ثم فقد نشطت حركة ترجمة الكتب العلمية إلى العربية ونهجا على ذلك ألف الكثير من العلماء المراجع العلمية في علوم الحيوان والنبات والصيدلة والفيزياء والرياضيات.....إلخ. ثم خضعت مصر للضغوط السياسية فتحولت لغة التعليم إلى الإنجليزية في الجامعات ولولا وقفة سعد زغلول فيما بعد لتحولت لغة التعليم في مراحله الأولى إلى الإنجليزية مما كان سيترك أثرا سلبيا أكبر على اللغة العربية في مصر.
ولنناقش الآن أهمية تعريب التعليم الجامعي وعوائق التعريب وكيفية التغلب على هذه العوائق.
(أ) أهمية التعريب
(1) بالنسبة للعملية التعليمية ذاتها.
(2)اعتبارات الهوية .
(3)سهولة انتشار العلم في المجتمع.
(ب) عوائق التعريب
(1) عدم كفاية المادة العلمية العربية (المؤلفة والمترجمة).
(2) افتراض قصور اللغة العربية عن استيعاب العلوم الحديثة.
(3) التخلف العلمي والتعليمي في مصر.
(4) عقدة الخواجة!!!!
(ج) كيفية التغلب على عوائق التعريب.
(1) تنشيط حركة ترجمة المادة العلمية.
(2) إنعاش المجمع اللغوي المصري واستعادة دوره.
(3) الارتقاء بالمنظومة العلمية والتعليمية في مصر.
(4) غرس الحس الوطني والقومي والاعتزاز بالهوية المصرية العربية.
_________________________ ______________
أولا: أهمية التعريب:
(1) بالنسبة للعملية التعليمية ذاتها:
لا شك طبعا أننا جميعا ندري سهولة التعليم والتعلم باللغة الأم فهذا يوفر جهدا على المدرس والمتلقي وهذا الجهد هو جهد الترجمة الذي لن نقضي عليه أبدا بتعويد الطلاب على التعليم باللغة الأجنبية .... والمعروف أيضا أن حاجز اللغة يقف عائقا أمام الإبداع وأمام ربط العلم بالحياة فالطالب أوالمتعلم يتحدث بلغته الأم مع أصدقائه وأسرته ويكتب باللغة الأم التي نشأ عليها ويقرأ الجرائد والكتب و المجلات باللغة الأم ويفكر باللغة الأم وهو حينما يحلم فلا يحلم حلما إنجليزيا أو فرنسيا ولكنه يحلم بلغته التي يعيش بها!!!!!!
فإذا جاء بعد هذا كله ليدرس بلغة أجنبية واجهته مشقة حقيقية وحدثت عملية قتل للخيال والإبداع وربط العلم ولو وجدانيا بالواقع من حوله كما إن جهد الترجمة (وهو موجود برغم أنف الجميع) جهد عقلي لا يمكن إهماله وقد كان يمكن استغلال هذه الطاقة المستهلكة في فهم المادة العلمية نفسها وتوفير العناء على الطالب.
وحتى إذا عودنا الطالب على الفهم بلغة أجنبية فإنه تواجهنا مشكلة أن الفهم ( وإن صار حلما في نظام التعليم) ليس هو كل شئ فهناك عدة درجات لتلقي المادة المدرسة:
(1) الحفظ: وهو ما يتبع في مراحل التعليم المختلفة حيث يصير مدى استيعاب الطالب للمادة هو مقدار حفظه لهذه المادة....وتتميز هذه الدرجة بتواجد الموضوع الواحد في ذهن الطالب كأجزاء متفرقة لا علاقة لبعضها ببعض تماما كما توجد لديك أجزاء آلة متراكمة فوق بعضها البعض ولا يمكنك تجميع هذه الآلة.
(2) الفهم: وهو استيعاب حقيقة المادة المقررة والمتلقاة وتتميز هذه الدرجة بارتباط الحقائق ببعضها البعض وتكون الآلة موجودة ومتراكبة ولكنها لا تجد من يشغلها ويستفيد منها.
(3) التذوق : حيث تعمل الآلة !!!! تتميز هذه الدرجة باختمار المادة العلمية في ذهن المتلقي وتفاعله الذهني والعاطفي معها وقدرة المتلقي على أن يكون (مدرسا) لهذا الموضوع وقادرا على إيصاله إلى الآخرين كما تتميز هذه الدرجة بأن المتلقي تكون له وجهة نظر شخصية في الموضوع العلمي ويمكنه إيصال الموضوع إلى الآخرين من خلال وجهة نظره الشخصية تلك ..... وطبعا هذه الدرجة لا يمكن الوصول إليها في ظل التلقي بلغة أجنبية أو بالتحديد بغير اللغة التي يتذوق ويشعر بها الطالب!!!!
والمشكلة أن هذه الدرجة تقود للدرجة الأهم والأعظم......
(4) الإبداع والابتكار: بعد تشغيل الآلة يطمح الطالب في هذه المرحلة إلى إضافة إمكانيات أخرى إلى الآلة وتجديدها وربما يحولها إلى آلة جديدة من خلا ل فهمه لطريقة عملها و (عشرته) الطويلة لها في مرحلتي الفهم والتذوق...... وطبعا هذه الدرجة لا يمكن الوصول إليها إلا بالمرور بالدرجة السابقة التي تحتم استخدام اللغة الأم.
انتهت النقطة الأولى في جزء أهمية التعريب وأرجو من المهتمين بهذا الأمر مناقشة الموضوع وإثراءه لانني __ ولأعترف بذلك__
لست أهلا لتناول هذا الموضوع الشائك والمعقد سواء على المستوى الفكري أو على مستوى المعلومات....
(2) تعريب التعليم لاعتبارات الهوية
أهمية تعريب التعليم لاعتبارات الهوية:
والثقافة في أية أمة هي روح هويتها ، واللغة هي إحدى أركان الثقافة
الهامة ، بل لعل اللغة هي أهم أركان الثقافة فهي الناطق باسم الثقافة
وهي التي تصوغ المحتوى الوجداني الموحد للمجتمع صيغا فكرية
وتحول الصيغ الفكرية إلى أصوات وحروف وكلمات وجمل وقصائد
وأمثال و مقالات ومسرحيات وقصص وروايات و....و.....و.....
وبذلك يختزن القاموس اللغوي لأية أمة من الأمم بطريقة مباشرة أو
غير مباشرة المحتوى الوجداني الجماعي للأمة ولهذا وجب الحفاظ
على اللغة للحفاظ على روح الشعب وحضارته وتاريخه الموروث.
وأعتقد أننا لن نختلف حول طبيعة الهوية المصرية ونقيم مناظرات
ومحاورات ونتجادل حول ما إذا كانت هوية مصر عربية أم هي غير
ذلك!!!!!!! فكون فئة قليلة تحاول الالتفاف حول الهوية العربية لمصر
تحت شعارات الهوية القبطية المسلوبة__ كون هذه الفئة القليلة موجودة
لاينفي التوجهات الوجدانية والفكرية للأغلبية الساحقة من المصريين
ودوران هذه الأغلبية حول شمس الهوية العربية!!!
ولنحاول الآن بسط بعض الآثار السلبية للتدريس بالأجنبية على اللغة العربية:
(1) عزل اللغة العربية عن الحياة العلمية:
فالمصطلحات العلمية اللاتينية والإنجليزية تقتحم حياتنا يوما بعد آخر دون أن يكون
لها بديل في اللغة العربية و إذا وجد البديل فإنه يكون باهتا غير مقنع ليس لأنه باهت
في حد ذاته ولكن لعدم استخدامه أصلا ولو كان مستخدما لاعتادت عليه
الآذان وأصبح مستساغا في الأفواه والأسماع.
(2) تهميش دور المجمع اللغوي :
فكثير من المقابِلات العربية للمصطلحات الأجنبية تظل حبيسة جدران المجمع
وبالتالي فوجود البديل العربي كعدمه لعدم استخدامه في الأوساط العلمية أو حتى
على المستوى الشعبي.
(3) إقصاء المجتمع عن اللغة العربية:
فالتدريس باللغة الإنجليزية على سبيل المثال يؤثر فكريا في المعلم والطالب
الذي لن يلقي بالا للغته وسينصب اهتمامه على اللغة الأجنبية التي يدرس بها.
(3)تعميق عقدة الخواجة :
فالتعليم باللغة الأجنبية يؤدي إلى اقتران العلم نفوس الناس باللغة الأجنبية
وهكذا تصير اللغة الإنجليزية هي لغة العلم والحضارة وكلما زاد تمكن
الشخص منها أدى هذا إلى تجميل صورته العلمية والثقافية لدرجة أننا
نتعمد كثيرا استخدام المصطلحات الإنجليزية في حياتنا لا لأنها تعبر عن
المقصود أكثر ولكنها تظهرنا بمظهر الإنسان الراقي والمثقف المتحضر!!
بل حتى أسماء الأشخاص والبلاد والحيوانات .... إلخ __ هذه الأسماء كلما
كانت أقرب إلى الإنجليزية أعطت طابعا راقيا ومتحضرا في نفوسنا التي
تعاني من عقدة الخواجة!!!
وعلى الجانب المقابل تصير اللغة العربية لغة التخلف والجهل والانغلاق
والجمود ،،،، حتى لقد أصبح مستخدمها يجلب على نفسه سخرية الآخرين
حتى وإن كان قادرا على التعامل بلغات أخرى!!!
وأصبح التدقيق الإملائي بعض فروع الجمود!!!! والإعراب نوعا أصيلا
من التحذلق!!!! حتى دعا البعض ( وأتذكر شريف الشوباشي) إلى إلغاء
الإعراب وبعض خصائص اللغة العربية الأخرى التي تميزها عن باقي
اللغات إفراطا في عقدة الخواجة وإمعانا في جلد الذات (المجلودة أصلا!).
وهكذا بدلا من أن نعود إلى هويتنا العربية ونحاول استعادة ثقتنا بأنفسنا وإيماننا
بحضارتنا ____ نذهب شيئا فشيئا أبعد فأبعد فأبعد عن ثقافتنا وهويتنا ونفقد
ثقتنا بأنفسنا وإيماننا بحضارتنا.
طبعا منقول
مواقع النشر (المفضلة)