من روائع ومقالات الدكتور ميسرة طاهر
قال محدثنا: لم يمض على دفن أختهم الكبرى إلا أيام قلائل،
حتى بدأت الأخت الوسطى تشتكي من أختها الصغرى، وعادت لدارها وهي متحاملة عليها،
وكأنها لم تسمع ما رواه عمار عن النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: «كفى بالموت واعظا
وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلا»، ولشدة تأثر عمر بن الخطاب بهذا الكلام يقال إنه
نقش على خاتمه: «كفى بالموت واعظا»،
وبدأ الفصل الثاني من القصة حين قدمت الأخت الصغرى التي تجاوزت الخمسين من عمرها لزيارة
والدتها التي تقيم مع أختها الوسطى التي قاربت الستين عاما في عمارة واحدة،
وبدل أن تلتزم الوسطى بالقاعدة المعروفة: «القادم يزار» شغلت نفسها وشغلت من حولها
بالقيل والقال،
وأبلغت أمها أنها قد سمعت على لسان أختها الصغرى كلاما، فأجابتها أمها وما هو هذا الكلام؟
قالت: أنا لا أريد أن أتكلم به ولكني على يقين من أنها قالت ذلك،
فعقبت والدتها: يا ابنتي أحضري من نقل لك الكلام وواجهي أختك قبل أن تصدري حكما عليها
وتقاطعيها، فلم ترد، وزاد الطين بلة أنها منعت أبناءها الأربعة من رؤية خالتهم،
ولطالما تشدقت هي وزوجها في المجالس بما ينبغي أن يكون عليه المسلم وما ينبغي
أن يتحلى به من
أخلاقيات، ولطالما وقفوا وخصوصا زوجها عند أقوال النبي المصطفى يعظون بها من يكون
في مجالسهم ويحثون الناس على حسن الخلق وصلة الرحم، ومع أن والدتهم كانت
قد تجاوزت التسعين من عمرها وعانت من هذا الخلاف إلا أن الوسطى لم ترحمها
ولم تتراجع عن موقفها وازدادت في غيها وأخذتها العزة بالخطأ والإثم من خلال قولها لأمها،
إن كنت أنا لم أصعد للسلام عليها، فلم لم تنزل هي لي؟ وتساءلت ألم تسمع هذه المرأة قوله
عز وجل: «يـا أيـها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهـالة فتصبحوا
على ما فعلتم نـادمين»، والفاسق هنا كما يؤكد المفسرون هو الكاذب،
أنهى محدثي قصته متألما من حال بعض الناس، ومؤكدا وأنا معه على أنها قصة لطالما
تكررت بين الأخوة والأخوات في العائلة نفسها في مجتمعاتنا العربية،
والمؤسف أننا نسمعها تتكرر بين الجهلة والمتعلمين على حد سواء، وسأل أحد من كان في
المجلس عن القواعد التي ينبغي أن نعلمها لأبنائنا وهم أطفال حتى لا تتكرر مثل هذه القصص
في حياتهم وهم كبار؟
ويبدو لي أن أهم قاعدة تكمن في التأكيد على عدم تصديق كل ما ينقل لنا إلا إذا كان بالدليل والبرهان،
لأن التصديق السريع ربما كان وراء الكثير من المشاكل، ووراء الكثير من الشائعات
التي تفتك بمجتمعاتنا وتؤثر فينا سلبا،
والقاعدة الثانية أن لا يناقش الكبار مشكلاتهم أمام الصغار حتى لا تمتلئ صدورهم بخلافات الكبار،
وتتشوه بالتالي في نفوسهم صورة من نختلف معهم من أقاربنا أو أصدقائنا،
فالمصطفى عليه الصلاة والسلام كان يقول لأصحابه: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا
فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر»، فإن كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يكره
أن يسمع عن أصحابه ما يوغر صدره عليهم فما بالنا نحن البشر العاديين؟
نحن الذين لن نصل بحال من الأحوال إلى ورعه وحكمته وصفاء سريرته،
وحين نتحدث أمام أبنائنا وبناتنا عن إخواننا وأخواتنا بما يسيء لصورتهم،
فمن يضمن عندئذ أن تبقى صدورهم سليمة تجاه أخوالهم أو أعمامهم أو خالاتهم أو عماتهم؟
وعليه فمن كان بينه وبين أخيه أو أخته مشكلة، فليسارع لمواجهة صاحب المشكلة وحلها معه مباشرة،
بدل غيبة سيسأل عنها يوم الدين، وهي بمثابة أكل لحمه ميتا، أما من يدفع أبناءه
وبناته لقطيعة أخوالهم وخالاتهم أو أعمامهم وعماتهم،
فعليه أن يقرأ هذا الحديث «أنا الرحمن الرحيم، وإني شققت للرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته،
ومن بتكها بتكته»، أي قطعته، وما من شك في أن كل أب وأم يحبون أبناءهم ويتمنون لهم
الخير في الدنيا والآخرة، وهم يملكون القدرة على تعليمهم وحضهم على وصل أرحامهم،
أو قطعهم، ولكن هل يملكون القدرة على تحمل قطع الرحمن لهم في الدنيا والآخرة حينيدفعون أبناءهم لقطع أرحامهم؟
من فوائد ما توصلت إليه لكم أحبتي
أدام الله المحبة بين الجميع
ودمتم بسعادة ومحبة
مواقع النشر (المفضلة)