دكتور / أحمد يوسف سليمان
من أخطر الأمور التي تسبب لكثير من الناس القلق والفزع ، والخوف على مستقبل أولادهم ، فينغص عليهم حياتهم ، ويحرمهم نعمة الأمن والاستقرار...
ذلك أن الخوف على أولادنا نوعان : نوع طبيعي وهو الخوف الذي يحفزنا على المحافظة عليهم وحسن تنشئتهم ، ونوع مرضي وهو الخوف المبالغ فيه الذي يقلق الآباء على مستقبل أبنائهم .
والنوع الأول مفيد ، لأن الأب الذي يخاف على أولاده هذا النوع من الخوف يعمل بجد ليحقق لهم بقدر الإمكان حياة كريمة ، ويحاول أن يستشف لهم مستقبلا يرضاه لهم ، كما أنه ملتزم بالسلوك الطاهر النظيف ، ليقتدوا به فيه من جهة وليكون موضع اعتزازهم من جهة أخرى ، وهذا ولا شك أمر مفيد له ولأولاده وللحياة بوجه عام .
أما النوع الثاني فضار لأنه مرض يدفع الآباء إلى القلق والفزع على حياة أبنائهم ومستقبلهم ، فيعملوا على تحقيق حياة فوق قدرتهم ، فينزلق بعضهم إلى مهاوي الخطر المدمر لحياتهم وحياة أبنائهم ، فيسرق بعضهم أو يرتشي أو يختلس أو يضرب في الأرض على غير هدى ، لجمع المال لهم من حله ومن حرامه في الوقت الذي يحرمهم فيه عطفه ورعايته فيضيعهم ، وهذا أمر يأباه الشرع فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول " [1] ولعل سبب هذا الخطأ هو اعتقاد هؤلاء أننا نحن الذين نصنع مستقبل أولادنا ، وهو اعتقاد فاسد لأننا لا نستطيع ذلك ، ولا كلفنا الشرع به ، إنما كلف الشرع الآباء بتنشئة أبنائهم النشأة الإسلامية الصالحة التي تتفق مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ، والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة " [2] وأن نكون لهم قدوة حسنة ، وأن ننفق عليهم من الحلال ، وأن نعلمهم العلم النافع بقدر ما لديهم من استعداد ، أما بناء مستقبلهم فليس مطلوبا منا ، لأنه ليس في إمكاننا ولأننا أعجز من أن نضع مستقبلنا نحن فضلا عن مستقبل أولادنا .
إننا لو تأملنا حياة كثير من الأنبياء والمرسلين لوجدنا بعضهم نشأ يتيما ، كموسى و محمد ، أو بلا أب ولا أم كآدم ، أو انتزعه الله انتزاعا من بين يدي أبيه ، وفرق بينه وبين أبيه الذي أحوج ما يكون إليه بمقاييسنا كإسماعيل و يوسف عليهما السلام ، ولعل من حكمة هذا الصنيع أن يلفت الله أنظارنا إلى أننا لا نصنع مستقبل أولادنا ، ولا نشكل غدهم حسب رغبتنا وآمالنا فهم غيرنا رغم ما يرثونه عنا من صفات ، وما يحملونه عنا من أسماء ، وما يتأثروا به من ميولنا وأهوائنا ، وعاداتنا وتقاليدنا . ثم لنا أن نتساءل ، وإذا خفنا عليهم هذا الخوف المرضي فما جدواه ؟
الحقيقة أنه لا جدوى من هذا الخوف بل فيه المضار التالية :
1- هذا الخوف المرضي ضار بنا لأنه يوتر أعصابنا ويقلقنا و يحرمنا نعمة الأمن .
2- يضر الأبناء ، إذ قد يدفعنا الخوف عليهم إلى تدليلهم ، فينشأون ضعافا لا يستطيعون مغالبة أحداث الحياة ، فإذا كنا بجوارهم فقد نستطيع معاونتهم ، ولكن بعد رحيلنا ماذا يصنعون ؟ وهكذا نحيط أنفسنا بالقلق عليهم أثناء حياتنا كلها خوف على حياتهم الحاضرة ، وخوفا على مستقبلهم المخبوء في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .
3- يؤدي هذا الخوف بنا إلى الجبن في مواطن تستدعي الشجاعة ، والبخل في مواطن تستوجب الكرم ، وفي مثل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الولد مبخلة مجبنة " [3] . وقال الله تعالى : ] إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [ [4] .
إن هذا الخوف المرضي لن يمنع شيئا من قدر الله ، بل قد يكون على العكس من مصلحتهم الحقيقية كما هي مقدرة في علم الله ، بل قد يكون مجرد خوفنا عليهم ولو من النوع الأول الذي هو خوف طبعي على العكس من مصلحتهم ، ومن الأمثلة الواضحة في هذا المقام موقف نبي الله يعقوب من ولده نبي الله ورسوله يوسف عليه السلام ، فقد قال : ] وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [ [5] هل كان خوفه عليه في مصلحته أو في مصلحة من هداهم الله على يديه ، ومن أنقذهم الله به من القحط والحرمان ؟ والدليل على أن خوف يعقوب عليه السلام كان مجرد خوف طبعي مبعثه الشفقة على يوسف لما يعلم من شعور إخوانهم نحوه ، وأنه قدم إليهم أخاهم الآخر أكثر ما يكون تسليما لأمر الله ، لأن الحافظ في الحقيقة هو الله ، قال الله تعالى على لسان يعقوب : ] فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ [6] .
وإن أحداث التاريخ وأحداث الواقع المشاهد ، لترينا بوضوح كيف أن بعض الآباء أفنوا أعمارهم ليجمعوا الثروات الهائلة بغية إسعاد أولادهم في مستقبل حياتهم فكان مستقبل حياة الأبناء على النقيض فيم خطط لهم الآباء .
وقد وضع الإسلام لنا عدة مبادئ يمكن بها أن ندفع بها عن أنفسنا نحن الآباء الخوف والقلق على مستقبل أبنائنا ، وأهم هذه المبادئ :
1- ترك الشيء من المال لهم يرثونه عنا ، شريطة أن نكون قد جمعناه لهم من الحلال ، وأدينا حق الله فيه وحق الناس ، وفي هذا الصدد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : " لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " [7] .
2- التزامنا نحن الآباء في حياتنا بمراقبة الله ، والالتزام بكل ما هو سديد في أقوالنا وأفعالنا ، والسديد ما كان خالصا لوجه الله وأتى بنفس الطريقة التي أمر بها الشرع وفي هذا يقول الله تعالى : ] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [ [8] .
3- التربية الصالحة التي تتفيأ تربية العقيدة والوجدان والذوق والعقل والفكر والجسم على أساس من مبادئ الدين الإسلامي الحنيف ، فإن هذه التربية هي خير زاد يمكن أن تقدمه إليهم ، وهو الذي يطمئننا على مستقبلهم ويجعلنا نتركهم يوم نتركهم ونحن عنهم راضون واثقون أن الله سيكون معهم ، ومن كان الله معه فلا خوف عليه ، فالله تعالى قال : ] إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [ [9] . وقال الله تعالى : ] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [ [10] .
4- القدوة الحسنة بحيث لا تقع أعينهم منا إلا على كل موافقة للتسرع ، محاذرين أن نأمرهم بالمعروف ولا نفعله ، وننهاهم عن المنكر ونفعله ، ونحيي أمامهم بصورة عملية تطبيقية النموذج الكامل للمثل الأعلى المتمثل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى في شأنه : ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [ [11]والله المستعان
مواقع النشر (المفضلة)