التفكير هو أن يهتدي المرء إلى ما سيفعله
الغريزة - التعلم – الفهم
• الغريزة.
• التعلم.
• الفهم.
• استخدام التفكير في الحياة العملية.
• عمليات التفكير الأساسية.
• • • • • • •التفكير هو ما يحدث في الفاصل الزمني بين أن يرى المرء شيئًا ما، وأن يهتدي إلى ما سيفعله تجاهه، وخلال هذا الفاصل تتتابع الأفكار، في محاولة لتحويل موقف جديد وغريب إلى موقف مألوف اعتدنا على التعامل معه، وفيما بعد يتعلم المرء هواية اللعب بالأفكار من قبيل التسلية، ولكن الهدف البيولوجي من التفكير هو تمكن الكائن الحي من الاقتراب مما يفيد بقاءه والابتعاد عن المخاطر، إذًا التفكير في النهاية هو أن يعرف الكائن المفكِّر ما عليه عمله: هل يقترب طمعًا، أم يهرب خوفًا؟
وتُوجَد ثلاث عمليات أساسية تتيح للكائن الحي الإلمام بقدر كاف من المعرفة التي تساعد على التصرف السليم في كل المواقف، وهي الغريزة، والتعلم، والفهم.
1 - الغريزةوهي رد فعل فطري يحدد تلقائيًّا التصرف المناسب في الموقف القائم، وهو رد فعل تمليه تركيبة الكائن، وهو مباشر وثابت وتلقائي تمامًا مثلما يضيء المصباح إذا ضغطت على الزر، فكما تملي توصيلات ومفاتيح الكهرباء استجابة المصباح، تملي تركيبة الكائن استجابة الغريزة، ولا يحتاج الأمر إلى تعلم، فالحيوانات ترد بشكل غريزي حتى على مواقف لم تصادفها من قبل، إن تحريك خيال مآتة أسود فوق عش طيور وديعة يبعث الرعب في أوصالها، حيث يمثل بالنسبة لها صورة طائر جارح، غير أن رد الفعل يتبدل إذا أعيدت الكرة مع تغيير الشكل ليبدو كظل بجعة أليفة، وتعد الغرائز استجابات محددة مبنية على مواقف محددة أيضًا، فأفراخ النورس الصغيرة تفتح مناقيرها استعدادًا للأكل إذا رأت شكلاً مدببًا كالمنقار، به بقعة حمراء يقترب منها، فهي تظنه منقار الطائر الأم.
وهذا النمط من الاستجابات المباشرة أبرزه بروعة العالم تنبرجن Tinbergen في أعماله.
المزايا
1 - الاستجابة بالغريزة هي استجابة فورية وجاهزة ولا تحتاج أي تعلم.
2 - الاستجابة الغريزية يُمكِنُ توقُّعها دائمًا، ومفهومها ثابت لا يتغيَّر، مِمَّا يَجعلها ذات فائدة في التواصل بين الكائنات.
العيوب
1 - الاستجابة الغريزية ثابتة لا يُمكِنُ تعديلَها لِمُلاءَمَةِ المواقف الجديدة، ولا يمكن كبحها إن كانت غير ملائمة.
2 - لأن عدد الاستجابات الغريزية ثابت ومحدود، فلا يمكن إضافة استجابات غريزية جديدة لملاءمة مواقف جديدة.
2 - التعلمالتعلم بالاحتكاك المباشر:
وتلك عملية بطيئة من التلمس، والمحاولة، والخطأ، تَهتدي بِها الكائنات الحيَّة إلى ردود الأفعال المُلائِمة، فالسكرتيرة تتعلَّم بالتَّجرِبة الطريقة التي يُفضِّلها رئيسُها لكتابة مراسلاته، كما يتعلَّم الحصان المروَّض كيف يقف على ساقيه الخلفيتين، وتتعلَّم بها القطة كيف تعود إلى المنزل إن خرجت منه، وبالمحاولة والخطأ يتعلم لاعب التنس ضربات الإرسال.
إن التعلم يتضمن الإتيان بتصرف ما تجاه موقف محدد ثم ملاحظة ما يحدث، فقد تكون نتيجة هذا التصرف ملائمة أو غير ملائمة أو عديمة الجدوى، فإذا أكلت فاكهة غير ناضجة، فقد لا يعجبك طعمها، وإذا وقف حصان السيرك على ساقيه الخلفيتين؛ فإنه يحصل على مكافأة - تفاحة مثلاً - لتترسخ الاستجابة لديه، وبالتدريج يتعلم المرء ردود الأفعال التي توفر له المتعة وتبعده عن الألم، وبعد أن يتشكل رد الفعل فإنه يتكرر في المواقف المتشابهة، ويصبح هذا الأسلوب المكتسب للاستجابة الغريزية.
المزايا:
1- يتميز التعلم على الغريزة بإمكانية اكتساب خبرات جديدة لتلائم المواقف المستجدة.
2- يمكن تعديل رد الفعل لينطبق تَمامًا مع متطلبات الموقف، كما يمكن تحسين ردود الأفعال الرديئة أو الكف عنها.
العيوب:
1- التعلم بالمحاولة والخطأ أسلوب بطيء، لا سيما فيما يتعلق بالنتائج المرتقبة على المدى الطويل؛ حيث لا تأتي النتيجة إلا بعد تتابع طويل من ردود الأفعال (فلا يمكن للمرء أن يعرف في التَّوِّ إن كان على طريق الصواب أم لا).
2- التعلُّم بالاحتكاكِ المُباشِر قد يكون مَحفوفًا بِالمَخاطر، كأنْ يَلْجَأ الناس إلى البحث عن مصادر التيار الكهربائي بوضع أصابعهم فيها.
التعلم بالتلقين والمحاكاة:
وهذا نوع من الغريزة الاصطناعية، فهو يتضمن اكتساب خبرة تتيح الإتيان بردود أفعال فورية لمواقفَ جديدة، بدون التورُّط في المحاولة والخطأ، وتستمد هذه الخبرة من الكتب، والتليفزيون، والمدرسة، والأبوين، وسائر البشر، وغير ذلك، فبهذا الأسلوب يتعلَّمُ الطفل الابتعاد عن طريق السيارات بدون أن يخوض التجربة، ويتعلَّم طالب الطب أن فيتامين ب 12 قد يشفي نوعًا معينًا من الأنيميا من خلال القراءة في المراجع الطبية، وقد يعرف مستثمر أن نوعًا من المضاربة يحمل مجازفة ما؛ لأنَّ أحد خبراء البورصة أخبره بهذا؛ فيدرأ بذلك خسارة كان من الممكن أن يتعرض لها.
المزايا:
1- التعلم بالتلقين والمحاكاة أسرع وأكثر أمانًا من التعلم بالاحتكاك المباشر.
2- يمكن سبق الأحداث بإعداد ردود أفعال جاهزة لمواقف متوقعة في المستقبل.
3- كما يمكن أيضًا فهم مواقف قد لا تحدث لك أبدًا (مثل دراسة تضاريس سطح القمر).
4- يتيح هذا الأسلوب اختزان المعلومات والمعارف ونقلها وتداولها، وهكذا تنمو حصيلة الإنسان وتزداد يومًا بعد يوم.
5- إن عددًا كبيرًا من العقول (بعضها أفضل كثيرًا من عقل المتعلم المستفيد) قد تجتمع على دراسة موقف معين، فتخرج برد فعل أفضل بكثير مما يمكن أن يصل إليه عقل منفرد.
العيوب:
1- أنك تعتمد تمامًا على ثقتك في المصدر الذي تتعلم منه؛ لأنك لا تواجه الموقف بنفسك؛ وإنما من خلال عيني الشخص الذي تتعلم منه ومن خلال أفكاره المختزنة.
2- أن ردود الأفعال التي تتعلمها من الغير تتسم بنوع من الوسطية بما يجعلها تلائم كل الناس؛ بدلاً من أن تكون محددة بدقة لتناسب فكر الشخص ذاته.
3- يمكن بكل سهولة أن تكون ردود الأفعال التي يتعلمها المرء عن مصادر مختلفة؛ كالآباء، والمدرسين، والأقارب متضاربة؛ وربما أدى ذلك إلى نوع من الارتباك.
4- بِما أنَّ الثواب أو العقاب لا يأتِي على النَّحو المباشر مثل حالة الخبرة الشخصية، فإنَّ الدافع للتعلُّم يكون أقلَّ والانتباه يتشتَّت.
3 - الفهمإنَّ ردَّ الفعل الغريزي هو استجابة ملائمة لموقف معين، فمثلاً تجذب رائحة أنثى العتة الذكر من نوعها من مسافة أميال، وتعدُّ أيضًا ردود الأفعال الناجمة عن التعلم سواء المباشر أو غير المباشر، تصرفات تلائم مواقف محددة، وهي تلك المواقف المألوفة التي اعتدنا التعامل معها، ولكن ماذا عن المواقف الجديدة؟ ماذا عن تلك المواقف غير المعتادة التي ليست لدينا إجابات جاهزة لها؟ فإذا وجدت فجأة امرأة لا تعرفها على عتبة دارك مثلاً فإنك تحاول على التَّوِّ ردَّ الموقف إلى موقف آخر اعتدت التعامل معه، فتدور في ذهنك عدة تساؤلات: هل هي مندوبة دعاية تُحاول بيع شيء ما؟ أم أنها تجمع التبرعات؟ هل تعطلت سيارتها ودقت بابك طلبًا للمساعدة؟ هل هي ضلت الطريق؟ أم أنك تعرفها ولكنك نسيت عبر السنين وجهها؟
الفهم هو تحويل موقف غير مألوف إلى موقف معتاد تعرف كيف تتصرف فيه، وتتم هذه العملية في العقل بأن تنتقل من فكرة إلى أخرى، حتى تنتهي إلى رؤية الموقف المستجد شبيهًا أو منحدرًا من مواقف أخرى معتادة.
هذا الانتقال من فكرة لأخرى هو التفكير، أي أن الفهم هو التفكير، فربما انتابك الخوف إذا رأيت ملاءة بيضاء ترفرف وسط ظلمة الليل؛ لأن هذا شيء غير معتاد، ولكن مجرد أن تفكر وتفهم أنها ملاءة منشورة فوق حبل غسيل، فستعرف ماذا تفعل: لا شيء، وإذا دخلت مطعمًا يقدم وجبات أجنبية، فإنَّك تُحاول الربط بين الأسماء العجيبة في قائمة الأكلات، وبين الكلمات التي تعرفها لكي تقف على ما هو موجود من أطباق، وفي النهاية قد تكتشف أن أغرب الأسماء التي قرأتَها ليست إلا أسماء أجنبية لأطباق معروفة تمامًا.
ويعد الفهم عملية بالغة الفائدة، لأنه يمكن الإنسان من مضاعفة معارفه، فليس عليه إلا أن يتعلَّم بضعة تصرُّفات إزاءَ مواقفَ مُعَيَّنة، ثم من خلال الفهم سيحول أي عدد من المواقف الجديدة إلى مواقف مُعتادة، ويتعامل معها على الفَوْرِ (وبدون الحاجة إلى التَّفكير في ردِّ فعل سواء بالخبرة المباشرة، أو بالاستعانة بخبرة الغير).
المزايا:
1 - الفهم يسمح للإنسان بمضاعفة ما تعلمه باستخدام ردود الأفعال القديمة في مواجهة مواقف جديدة.
2 - أنَّ الفهم يتيح لك شرح وتفسير المواقف الجديدة للآخرين، بِما يُمكنهم من اختيار استجاباتهم الخاصة بدلاً من أن يضطروا للاستعانة - بشكل عشوائي - بردود أفعال جاهزة من غيرهم.
العيوب:
1 - أن محدودية عدد الاستجابات (أو الأفكار) المكونة سلفًا، تحد إمكانية فهم المواقف الجديدة.
2- أثناء محاولة فهم موقف جديد غريب من خلال الأفكار القديمة، قد يهمل المرء جزءًا من التفاصيل، أو يحرف الموقف بحيث يجعله ملائمًا لرصيده من الأفكار.
3- عادة يمكن فهم المواقف غير المألوفة بعدة طرائق، ولكن غالبًا ما يأخذ المرء بأول بديل يظهر منها، ويقنع بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لرؤية الموقف.
4- أن الناس على اختلاف أفكارهم يتصرفون إزاء موقف واحد كل بطريقته، ويتصرف كل إنسان تبعًا لرؤيته الذاتية.
استخدام التفكير في الحياة العملية:
في الحياة العملية لا يستخدم الإنسان العصري فكره الفطري كثيرًا، كما أنه لا يملك الكثير من الوقت حتى يتعلم الأشياء بالخبرة المباشرة، ولذلك فهو يعتمد أغلب الوقت على التعلم بالطريقة غير المباشرة (التلقين والمحاكاة) وعلى الفهم، وتأتي أفكاره ومعارفه الأساسية مما يتلقاه من تعليم نظامي، أو مما يختاره ويهتم به، أو يتعلمه بالصدفة، ثم يستخدم الفهم في تحليل المواقف الجديدة غير المعتادة وردها إلى ما يعرفه ليطبق معارفه الأساسية عليها.
ولكن لماذا يتعب الإنسان نفسه بمحاولة فهم الأشياء؟
1- حتى يتصرف بالطريقة الملائمة تبعًا للموقف: فهو يتجنب، أو يتجاهل، أو يغير، أو يستمتع، أو يستعمل، أو يفحص، وهلم جرًّا.
2- حتى يحصل على نتائج: يعالج الأمراض، يزرع محصولات أفضل، يحارب الفقر، يطير أسرع من الصوت، أو يمنع الجريمة... وهكذا.
3- حتى يتوقع ما يحدث في المستقبل: لطفل يعاني من الحمى، أو لسوق الأوراق المالية، أو للطقس، أو للبيئة الملوثة... وهكذا.
4- لحب الاستطلاع.
عمليات التفكير الأساسية:
الفهم هو تحويل المجهول إلى معلوم من خلال التفكير؛ وربما كان من قبيل أن يتعرف المرء على طبيعة شيء ما، أو على الطريقة التي يحصل بها على تأثير ما، وما عملية البحث والتعرف هذه إلا التفكير.
خلاصة القول: الفهم هو التفكير.
إدوارد دو بونو ترجمة د.إيهاب محمد
المصدر كتاب التفكير العلمي
مواقع النشر (المفضلة)