قبل البدء:
إنَّ أهميَّة التعليم في حياة الشُّعوب والأمم يُدركها الجميع تمامًا، كما يُدركون المكانةَ التي لا يُحسَد عليها التعليمُ ببلدان العالَم العربي، الذي تكشف أهوالَه التقاريرُ الدوليَّة التي تُصنِّفنا في ذيل قوائمها، الجميع يُقرُّ بوجود أزمة خانقة ومعقَّدة تنخر في تعليمنا، الجميع يُنادي بتفادي غرق السفينة، والانخراط في مسلسل إصلاح الأزمات المتعاقبة بتعاقُب اللَّيل والنَّهار، وأمامَ الإقرار بهذا الداء، ما يمنعنا من تشخيص طبيعته وتحديد أسبابه، من أجْلِ وصْف الدواء بدقَّة وتقديم العلاج المناسب؟!

هنا تَبرز زوايا النظر المختلفة، ونوع القِيم والمبادئ المرجعيَّة، وربَّما أيضًا المصالح المختلفة، فتأتي الإجابات متباينة، بل ومتضاربة، ومنها التي تَسعى إلى تأمين مكانةِ مَن هو في مكانه، وليس الاستجابة لحاجيات المجتمع وتلبية انتظاراته، ومِن ثَمَّ تكمُن صعوبةُ معالجة هذا الموضوع، وتُصبح متعذِّرة إذا لم نستحضرْ ثلاث معطيات:
أولاً: أنَّ أزمة التعليم ذات جذور تاريخيَّة عميقة تعود لعشرات السِّنين؛ بل ومئات السِّنين، ممَّا يتطلَّب إعادةَ تقليب وقراءة فترات طويلة من تاريخنا، وإزالة ما لطَّخها من أدران والكشْف عن كثير من جوانبها المظلِمة، مع بعْث ما طُمر أو انطَمر من لآلئها.

ثانيًا: أنَّ أزمة التعليم مركَّبة، ولا يمكن وضْعُ حدٍّ لها إلاَّ بإصلاح البيئة التي انبثقت منها؛ أي: إنَّ مشاكل التعليم لن تنتهيَ إلاَّ بحلِّ باقي المشاكل التي تتخبَّط فيها الأمَّة على مستويات عدَّة: السياسيَّة والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة وغيرها.

ثالثًا:أنَّ أغلب مكوِّنات المجتمعات العربيَّة لم تتجاوزْ بعدُ التصفُّحَ السطحيَّ، والاقتراحات التجزيئيَّة للقضايا، وتتجاهل المعالجةَ الشموليَّة عنادًا، أو استثقالاً لتبعات التغيير الجذري.

ولن ندَّعيَ من خلال هذه المقاربة المتواضعة أنَّنا سنقدِّم وصفة سحريَّة لكلِّ الأمراض التي تعتري جسمَنا التعليمي، أو أنَّنا سنأتي بأجوبة قطعية لكلِّ القضايا ذات الصِّلة، ولكن بحسبنا الإشارة إلى المبادئ الكُبرى والمؤطَّرة التي نبني عليها تصوُّرًا للتعليم المجْدِي النافع، والتي يُمكن أن تكون قنطرةً لصياغة البرامج التفصيليَّة، والاجتهاد في اختيار الوسائل المساعدة لتنزيلها على أرض الواقع.

يختلف إذًا الدواء الموصوفُ، وطرقُ العِلاج المقترَحة، وإنَّنا لا نتصوَّر دواءً شافيًا أو حلاًّ ناجعًا ما لم ينبثق من رَحِم دِيننا الحنيف، ويتلاءم مع خصوصيتنا وأصولنا، ويسعى إلى النُّهوض بأمَّتنا من كبوتها التاريخيَّة؛ لتستعيدَ سابق مجْدِها، وما اندرس من عزِّها.

فما الروافدُ الكبرى الأشدُّ ارتباطًا بالتعليم والحاملة لأهدافه، والمؤثِّرة في نجاحه أو فشله؟

وما معالم التعليم الكفيل بتحقيق هذه المَهمَّة، والقادر على وضْع قطارنا التائه في سِكَّتِه الصحيحة، ووجهته السليمة؟

التعليم والارتباطات المتعددة الأبعاد

التعليم والتربية والعَلاقة الحميمية:
إنَّ نجاح التعليم لا يَقتصر على حشْد الأذهان بالمعارف والمعلومات، وتطوير الكفاءات والمهارات، وإنَّما يتجاوز ذلك إلى بناء شخصية الفرْد والتأثير في إحساسه، ووجدانه وسلوكه، وتصرُّفاته ومعاملاته؛ أي: إنَّه يُنمِّي في المتلقِّي بشكل مباشر، وغير مباشر - سلبًا وإيجابًا - مجموعةً من الآداب والقِيم، كما يُودِع في خلجات نفسه بعضَ المشاعر، ويُسرِّب إلى فِكره جملةً من المبادئ والتصوُّرات تعدُّه لانتحال بعضِ الصفات، واتِّخاذ بعض المواقف، ومِن ثَمَّ يساهم في إعداد أفراد المجتمع وَفْق مواصفات معيَّنة.

أمَّا ما يرتبط بالتعليم الراشد المنشود، فإنَّ العالِم أو الواعظ، والمدرِّس أو الخبير، هُمَا محور العملية التربويَّة الأخلاقيَّة، والتعليميَّة التَّعلُّميَّة بكلِّ أبعادها، فالعالِم يدلُّ الناس، كبيرَهم وصغيرَهم، على الأحكام الشرعيَّة، ويُنير العقول بأوامر الوحي ونواهيه، كما يوجِّه سلوك الأفراد لأنبلِ الأخلاق، ويغرس في القُلوب بواعثَ التربية الإيمانيَّة، ومعانيَ السُّلوك إلى الله والجِهاد في سبيله، ويُعتبر المسجدُ مركزَ هذه المهام النبيلة، وبالمقابل يتدرَّج المدرِّس بالناشئة من أدنى مراتبِ التعلم باكتساب أوَّليات القراءة والكتابة، إلى أرقى درجاتِ الفَهْم والتعمُّق، والبحث في أحد العلوم التخصُّصيَّة، أو إلى ذروة المهارة المهنيَّة، والخبرة العمليَّة، والتدريب التقني، ويمرُّ هذا الاكتساب عبرَ حجرات المدارس، ومُدرَّجات الجامعات، والمختبرات العلميَّة، والمحترفات التقنية، والورش الصناعيَّة، وغيرها.

وليس في وظيفة العالِم والمدرِّس ما يدعو إلى التعارُض، فهُما مَهمَّتان متكاملتان، وتلتقيانِ في أسمى مرامي التعليم، وهي صقْل العُقول، وتزويدها بالمعارف الضروريَّة، وتعبئتُها على الجِدِّ والنبوغ والعطاء، وتحريرها من الانقياد والتقليد والجُمود، ثُمَّ تزكية القُلوب، وتهذيب النفوس بتربية إيمانيَّة إحسانيَّة، تنهض بالإنسان من حضيض اهتماماتِه الأرضيَّة، إلى طلب وجهِ الله - تعالى - والتنافُس في مرضاته، فما مسؤولية العالِم والمعلِّم من جهة، والمتعلِّم من جهة ثانية داخلَ حلقة التربية والتعليم هاتِه؟

ليس كلُّ مُطَّلِع على أحكام الشريعة ومتقمِّص لصفة العالِم يَصلُح لتربية الأمَّة، فالنموذج المطلوب هو العالِم الرَّباني، الذي يدلُّ الناس على الله بحاله وقُدوته وفِعاله قبلَ مَقاله، يتطوَّع لمجالس الذِّكر والعِلم في المساجد، يحمل المسلمين على الخير، ويُرشدهم إلى وسائله، وإذا نجح في استقطاب كلِّ الفِئات والشَّرائح، بغضِّ النظر عن مستواها التعليميِّ إلى حلقاته، فإنَّه سيُشكِّل أحدَ دعائم التربية والتوجيه داخلَ المجتمع الإسلامي، وتلك وظيفتُه التي ينبغي أن يُنجزها؛ أي: إنَّه يُصبح مرجعًا لكافَّة أفراد الأمَّة على مستوى السلوك، واستقاء الأحكام لِمَا يستجد من أقضية الناس، ويشغل اهتمامَهم، فضلاً عن انخراطه إلى جانبهم في تحمُّل أعباء الدَّعوة والجِهاد والبناء، والحضِّ على ذلك.

كما أنَّ المجتمع الإسلاميَّ الحالي بحاجة إلى إرجاع المكانة الحقيقيَّة للعالِم، مربيًّا ومعلِّمًا ومشارِكًا في شؤون الناس، ومجاهدًا عند الاقتضاء، فالتحرُّر من آفة التدجين والركون وتكسير طوق التقليد الأعمى، وتجاوز ركود الأفهام عندَ حدود اجتهادات السَّلف الصالح - رضي الله عنهم - ثم مخالطة الناسِ، ومعايشة همومِهم، كلُّ ذلك من مقتضيات التجديد اللاَّزمة في حقِّ العلماء تُجاهَ محيطهم.

ويتبوَّأ المدرِّس مكانةً سامية في نجاح أو فشل العملية التعليميَّة التربويَّة؛ لكنَّه لن يقوم بمهمَّته على أكملِ وجه إذا انتفتْ عنه الكفاءة العلميَّة الكفيلة بتدريب المتعلِّم، وشَحْذِ قُدراته العقليَّة ومواهبه، أو خارتْ لديه الهمَّة الباعثة على التفاني في العمل، أو افتقد الخِصال المحمودة التي يُفترض أن يُلقِّنها للأجيال؛ لذلك يتعيَّن على الدولة والمجتمع أن يوفرا له الشروطَ الضروريَّة لأداء رسالته، سواء منها الماديَّة أو البيداغوجيَّة؛ حتى لا يتحوَّل إلى مصدر للكسل، ودليل على الانحراف، بدلَ أن يغرس بالناشئة بذورَ الإيمان والأخلاق الفاضلة، ويَبُثُّ فيها رُوحَ المثابرة والاجتهاد.

ولن تكتملَ صورة العملية التربويَّة إلاَّ برصْد مكانة المتعلِّم ضمنَها؛ ذلك أنَّ اختلال المعايير في واقعنا التعليميِّ اليوم أفرز صورةً مشوَّهة لطبيعة العَلاقة السليمة، التي ينبغي أن تجمعَ الناشئ أو الطالب بالمعلِّم أو الأستاذ، فأوساطُنا التعليميَّة تعجُّ بمظاهر التطاحُن والتلاعُن، والتباغض المتبادل، بدلاً من علاقة المحبَّة والوئِام المفترضة، فالمتعلِّم ينبغي أن يحترم مَن يُسدي إليه معروفًا، يخرجه بموجبه من ظلمات الجَهْل إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومَن يُرشده في سلوكه وأعماله، ومَن يعود لاستفساره عن كلِّ ما أَشكل عليه، والمدرِّس يجب أن يُقدِّر من جانبه مسؤوليتَه، ويخفض الجناح إلى ما دونه من المتعلِّمين موجِّهًا ومدرِّبًا، ومصلحًا للعقول والقِيم.

إنَّ مواصفاتِ البيئة التعليميَّة التي ذكرناها - مجملة في حقِّ كلٍّ مِن العالِم والمعلِّم والمتعلِّم - شرْطٌ أساسي لتعليم إسلامي راشد وناجح؛ لكن يصعُب الحديث عنها خارجَ سياق عام لتغيير شامل لكلِّ مناحي الحياة، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا وغير ذلك، حيث تكون الأهداف السامية للتعليم مرتبطةً بمجتمع العُمران الأُخوي، خادمةً لها، ومتكاملةً معها.

مِن هنا تُصبح التربية أهمَّ رافد يصبُّ في نهر التعليم، ومِن دونها يجفُّ ماؤه، وتغور ينابيعُه، فلن يُنبتَ، أو يثمرَ أو يُزهرَ غيرَ الأحراش والأشواك.

التعليم والتنمية والعلاقة المصيرية:
من أكبر المهامِّ المُلقاة على عاتق التعليم الإسلاميِّ الراشد: إعداد المهارات القادرة على خَوْض الواقع المعيش، واقتحام عالَم الآلة والتصنيع والإنتاج، وتدبير الثرْوات، ولأنَّ العلوم في المجتمع الإسلاميِّ مطيةٌ لتسخير المادة من أجْل تحقيق المقاصد الإسلاميَّة العُليا في العمران، الذي لن يستمدَّ قوَّتَه من درجات تطوُّره مهما ارتقتْ في سُلم النَّماء، ما لم يُعضِّض بتمتِين وشائج المحبَّة والتكافُل والتضامُن بينَ أفراد الأمَّة، انطلاقًا من نواة المجتمع الصُّلبة التي هي الأُسرة، وهذه المصلحة لا يُمكن تحقيقُها إلاَّ بواسطة تعليم يكون شديدَ الصِّلة بالاقتصاد، يمدُّه بحاجاته من الكفاءات، ويضع رهْنَ إشارته نتائجَ البحوث والدِّراسات المساعدة على تطوير الإنتاج ووسائله، ويستمدُّ منه الدَّعمَ والتمويل، وتحديد مواطنِ التخصص وسُلم الأولويات.

ولقد كان شِعارُ ربْط التعليم بمحيطه الخارجي - وما يزال - مطلبًا عزيزًا، يتغنَّى به تعليمُنا الفاشل على أبواب اقتصاد مشلول، وفساد يُغطِّي كلَّ القطاعات.

إنَّ الأساس المتين الذي ينبغي للتعليم الإسلامي الاستنادُ إليه في خدمة مجتمع العمران الأُخوي - هو تأهيلُ الاقتصاد؛ ليُصبحَ فاعلاً ومتفاعلاً مع حقل التعليم، في غِياب ذلك لن يكون للأمَّة الإسلاميَّة وجودٌ وازنٌ في السُّوق الاقتصاديَّة الدولية، ومَن لَم يتحرَّر من ربقة التبعيَّة الاقتصاديَّة، فلن يطمحَ إلى التحرُّر من التبعية السياسيَّة والثقافيَّة وغيرها، ومن ثَمَّ تبرز أهميةُ واستعجالية فرز النوابغ والكفاءات المتفوِّقة؛ لتتصدَّر تأصيلَ العلوم، وترويضَها لخدمة الأهداف الإسلاميَّة والمقاصد الإيمانيَّة، كمقدِّمة ضروريَّة لاغتنام تقنيات التصنيع مزاحِمةً للمتنافسين في الدنيا على قوام الكسْب والقوَّة الماديَّة.

التنمية إذًا تعدُّ رافدًا مهمًّا يمدُّ التعليم بالرأسمال المادي، ويستمدُّ منه الرأسمال البشري، عنصران لا غِنى لأحدهما عن الآخر، غيرَ أنَّ المفهوم الحقيقي للتنمية في الإسلام سيفقد توازنَه إذا وقف على رِجْل واحدة؛ أي: الجوانب الاقتصاديَّة بمَعْزل عن الإنسان الذي تأبَى فطرتُه أن يتحوَّل إلى آلة صمَّاء للإنتاج، أو "حيوان اقتصادي" أقصى ما يطلب منه المهارة، والرَّفع من مستوى المردوديَّة؛ لأنَّ هذا شِقٌّ مادي فقط في إنسان خَلَقه الله - تعالى - من جسد ورُوح؛ أي: إنَّ التنمية لن تستقيمَ إلاَّ برِجل ثانية، تتعلَّق برصيد المجتمع من الأخلاق، ووازع القِيم التي توجه السُّلوك، وتضبط المعاملات بين الناس، سواء كانوا أفرادًا أم مؤسَّساتٍ، ونصيب المجتمع من التماسُك، وحظ أفراده من التكافُل والتعاون فيما بينهم.

التنمية عندهم تُصبح عمرانًا أخويًّا عندنا، عمرانًا يتطلَّب تشميرَ السواعد لبناء قواعد الاستخلاف (استغلال فلاحي - صناعة - بنيات تحتية...)، وأخويًّا تنسج المحبَّةُ والرحمة والإيمان خيوطَ الأواصر الناظمة لأفراد المجتمع فيه، وتتضافَر الجهودُ لكَنْس الظلم والتظالُم، وتوحيد الوجهة لتحقيق العبودية الكاملة لله - تعالى - بإقامة شعائره وحدودِه.

العمران الأُخوي مصيرُ أمَّة، وأولويَّة تفرضها غثائيةُ المسلمين اليومَ، وتكالُب الأُمم على ديارهم وثرواتهم، وتبذير السُّفهاء من القائمين على أمورهم لأموال الأمَّة في تشييد القُصور، وليالي المجون، ومواسم الفولكلور.... والسواد الأعظم يَسْبح في البؤس، ويتلهَّى بالتقارير الإعلاميَّة، والوعود الانتخابيَّة.

التعليم والإعلام والعلاقة التكاملية:
للتعليم هدفٌ أصليٌّ ثابتٌ هو الهدف المعرفي، وما يتطلَّبه من وسائل، ثم هدفٌ مهاراتي ومنهجي، لا بدَّ من بعض الشروط لإنجازه، فقد بلغتِ التراكماتُ المعرفيَّة حدًّا لا يُقاس، وتطوَّرت الوسائل المساعدة على التكوين والتلقين بشكل لم تَعدْ معه الوسائل البسيطة مجديةً، وهنا بالضبط يمكن أن يحصل صِراعٌ أو تجاذبٌ بين المادة التي تُقدِّمها المؤسَّسات التعليميَّة، وبالكيفية التي تُقدِّمها بها، وبين نفس المادة المقدَّمة في وسائل الإعلام، والطُّرق المتاحة لتقديمها؛ لذلك أصبح من اللاَّزم الالتفاتُ إلى الدَّور المتزايد لوسائل الاتِّصال الحديثة، و"المعلوميات" والإعلام كمصدر للمعلومات، وأدوات للتأثير في المخاطب.

إنَّ الرسالة المنوطة بالتعليم هي نفسها رسالةُ الإعلام، ويختلفانِ فقط من حيثُ تباينُ الأساليب والإمكانيات، وطبيعة الفِئات المقصودة كمًّا ونوعًا، فالأهداف الكبرى للإعلام يمكن إجمالُها في: الإخبار - التعبئة – الترفيه؛ لذلك ينعت اليوم بالسُّلطة الرابعة؛ لِمَا له من واسع الأثر في توجيه السلوك والفِعْل الإنسانيين، وصناعة الرأي العام، بحيث أصبح يشغل وقتَ المتتبع كاملاً، ورغم تعدُّد أدواته بين المسموع والمرئي والمكتوب، فإنَّها تشترك في كونها إملاءً من جهة واحدة، كما تمتاز بالقُدرة الهائلة على التعبِئة التي تسع جُلَّ أفراد المجتمع، وهذا التمايز لا يفصله بتاتًا عن التعليم الذي يُعدُّ سُلطة سابقة عنه في التأثير، هذا الأثر ربَّما هو الأقوى، والأكثر نفاذًا وعمقًا في وجدان وعقل الشَّخص المنفعل، يصل إلى درجةِ صياغة نوْع السُّلوك، ونمط التفكير لديه؛ بل إفراز نوعِ المواقف التي يتَّخذها، فالتعليم إذًا مسؤول عن حجم التأثُّر بالمادة الإعلاميَّة، ويمكنه أن يغطِّي مساحة العقل بالتلقين المعرفي، كَمَا يمكن أن يؤثِّر في المواقف عبرَ التوجيه السلوكي، ويتعدَّى ذلك ليسعَ الجانب المهاريَّ بتمكين المتعلِّم، كلٌّ في دائرة تخصُّصه، بما يلزمه من مناهجَ وتقنيات، غير أنَّ ما يَبنيه التعليم في ظرْف عشر سنوات أو أكثر، يمكن أن يَهدِمَه الإعلام في لَمْح البصر، ومن ثَمَّ تبرز أهمية التنسيق والتكامُل في وظائفهما.

لا شكَّ أنَّ لكلٍّ من التعليم والإعلام أهميتَه الخاصَّة، غير أنَّ وظائفهما تبدو متكاملة، فإذا كان التعليم ينصبُّ على شريحة بعينها يتَّصل بها غالبًا بشكل مباشر، ويؤثِّر فيها على الأمَدِ القريب والبعيد، فإنَّ كليهما يمكن أن يؤثِّر في المخاطَب سلبًا وإيجابًا.

لذلك؛ فلا نجاحَ يُرجَى للتعليم إن لم يكن الإعلام خادمًا لأهدافه، ومكمِّلاً لأدواره، ومهما بدَا الفرق بين الأسلوبين - التعليمي والإعلامي - واضحًا، فإنَّه لا بدَّ أن يصبَّان في غاية واحدة، كما يمكن للتعليم أن يستفيدَ من الفرص الواسعة للتواصُل عن بُعدٍ، التي تتيحها أجهزة الإعلام، والاستفادة مِن مزايا الوسائل المعلوماتيَّة الحديثة في إنجاح الرِّسالة التعليميَّة؛ تكوينًا وإشعاعًا وتواصلاً.

ثم مطلب الحرية:
يبقى المطلب العزيزُ في الجانب المعرفي من العملية التعليميَّة، وهو رفْع القيود التي تُكبِّل العقل البشري، وتقتُل فيه بذرةَ الإبداع، وعلى رأسها القيود السياسيَّة التي تحدِّد لائحة المواضيع القابلة للنِّقاش من المحظورة، والتي تَحْبِس أنفاس الاجتهاد.

إنَّ الحريَّة في ظلِّ العبودية لله - عزَّ وجلَّ - وحدَها الكفيلة باستثمار ما أودع الله - تعالى - في عقول عبادِه من أسرار، ولا يمكن تَكْرار مشكلة مأساة الجُمود، والاقتيات على أفكار مظروفة بظرفها.

تحريرُ عقول المسلمين من قيود التقليد الأعمى، والاعتصام الأصم باجتهادات مَن سبقونا بالإيمان، ثُمَّ التحرُّر من الأغلال والإكراهات السياسيَّة، كلُّ ذلك من المهامِّ الجليلة التي ينبغي أن ينهضَ بها التعليم الإسلامي الراشد المرشد - بحول الله.

الأسس المتميزة للتعليم الراشد

لقدِ احتدم النِّقاش طويلاً حولَ أُسس تعليم عربيٍّ إسلامي ناجح منذ نهاية الحِقبة الاستعماريَّة، وأُثيرت العديدُ من المبادئ كالتعريب، والتخلُّص من الأطر الأجنبية، والتعميم للقضاء على شبح الأُميَّة والمجَّانية وغيرها، لكن بقي قسم كبيرٌ منها على شكل آمالٍ ومطالبَ، تنتظر اليدَ الحازمة للمباشَرة والتطبيق، وظلتْ تلك المطالب عقودًا تنتظر إرادة سياسيَّة تُترجِمها على أرض الواقع، واستمرَّ مركب التعليم تتلاطَمُه أمواجُ المطالب الشعبيَّة، وإملاءات دوائر الاستكبار العالمي، ومخطَّطات مراكز القرار ذات الولاء اللامشروط للثقافة الغازية، إلاَّ أنَّ المبادئ المذكورة رغم أهميتها وتردُّد الحكومات في تحقيقها، فإنَّها لم تلامس جوهرَ هذا التعليم؛ حتى لا ينسلخ عن دِين الأمَّة ومنعتها ومقوماتها.

إنَّ التعليم المأمول يجب أن تكونَ معالمه واضحةً، وأهدافه محدَّدة، ووسائله ناجعة، بعدَ ذلك يسهُل تحديد البرامج على ضوئِها، وصياغة المناهج الملائِمة لتنفيذها.

ولأنَّ تنزيل مثل هذا الطُّموح مرتبط بطبيعة القرار السياسيِّ السائد، فإنَّ ترسيخ مبادئ تعليم راشد رهينٌ بنظام عام، تنتظم شؤونُه على منهاج الرشد، وهذا الأمر متوقِّف على درجةِ تمسُّكنا بمصادر الرُّشد والرَّشاد المطلق: كتاب الله وسنة نبيِّه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - فما معالم التعليم الإسلامي الراشد ورسالته وأدواته؟

ماهية التعليم الإسلامي الراشد:
لقد شرَّف الله - تعالى - العِلم، ونوَّه بالعلماء وفضلِهم درجاتٍ على الجاهلين؛ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الذي رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم))
[1].

إنَّ العلم المفروض فرْضَ عَينٍ هو العلم بما فَرَض الله - تعالى - وسنَّ نبيُّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأجلُّه العِلم بالله - عز وجل - فالعِلم بشرع الله يسعُ الأحكام التي ينبغي للمسلم معرفتُها في دينه بالضرورة، ويَشمل القرآنَ الكريم وتفسيرَه وعلومه، والحديثَ النبويَّ الشريف وعلومَه والفِقهَ وأصوله، ومقاصدَ الشريعة، وأصولَ الدِّين، والسِّيرة النبويَّة وغيرها، أمَّا العلم بالله فيتعلَّق بمعرفة الوسائل المؤدِّية لمحبته - عزَّ وجلَّ - ومحبَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكيفية الترقِّي في مدارج الإيمان، ومقامات السُّلوك إليه، ومعارج القُرْب منه - جلَّ شأنُه - وطَلب وجهه الكريم.

ثمَّ هناك صِنفٌ ثانٍ من العلوم تستوجبه قاعدة: "ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب"، فيصبح فرْضَ كفاية في حقِّ الأمة، ويشمل العلومَ الكونيَّة، أو علوم الآلة مِن طبٍّ وفيزياء وكيمياء وهندسة ورياضيات، وعلوم الأرض والحياة، وغيرها لما تكتسبه من أهمية في تجاوُز واقع الغثائية والمهانة الذي تتردَّى فيه الأمَّة الإسلاميَّة بين الشُّعوب والأمم.

إنَّ الأخذ بزِمام هذه العلوم يتطلَّب من المسلمين ثنيَها عن منهج الاستهلاك العبثي، وحافز العُدوانية ضدَّ الآخر، وتكييفها مع الغايات الإحسانيَّة للمؤمن السالك إلى ربِّه، ومع المقاصد الاستخلافيَّة للمسلمين، وهذا شرْطٌ ضروري كي لا تكونَ مزاحمةُ المسلمين للجاهليِّين غير ذات وجهة، ومنافسة على دَرْب الاستهلاك الدَّوابِّي.

هناك أيضًا ما يُسمَّى بالعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة التي ينبغي التعامُل معها بحذر شديد، وإعادة النظر في مناهجها الأكثر ارتباطًا بمدارس فلسفيَّة تُعادي الدِّين - أي دين - ولا يُمكن أبدًا الاتفاق مع كلِّ نتائجها.

يضاف إلى ما سبق العِلمُ بالواقع كي تكونَ كلُّ حركة فيه على هُدًى وبصيرة، وهو ما يقتضي الإحاطة بالنُّظم السياسيَّة والقانونيَّة، والأوضاع الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة للبلدان والشُّعوب، والتعرُّف على أحوالها، وطبائع أهلها، ومواكبة ما يستجدُّ في العالَم بعَينٍ فاحصة.

وباعتبار المعرفة ملكًا كونيًّا، فإن استفادة التعليم الإسلامي ممَّن سبقه في شتَّى العلوم لن يقودَه إلى محاكاة النموذج الغربي؛ لأنَّهما مختلفان من حيثُ البواعثُ والمرامي، فأين تَكْمُن خصوصية التعليم الإسلامي؟

رسالة التعليم الإسلامي:
نعني برسالة التعليم أهدافَه الكبرى التي تؤطِّر العملية التربويَّة التعليميَّة برمَّتها، وتتحكَّم في نوع البرامج والمناهج المتبَعة.

إذا نظرْنا إلى الحضارة الغربيَّة الجاهلية في جانب تحصيل العُلوم، فلن نستغربَ من توجُّهها الأرْضي الصِّرف، بحيث لا تلتفتْ لغير ما هو دُنيوي؛ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، وهذا منسجمٌ مع رؤية أهلها للحياة والكوْن والإنسان، إلاَّ أنَّ خطورة هذا الموقِف تكمُن في كونه متعديًا إلى الغير؛ لأنَّ قصدَها الكافر وتسخيرَها للعلوِّ في الأرض بغير حقٍّ، واستعمالها الظالِم في الصدِّ عن سبيل الله، والتصدِّي لعباد الله استكبارًا على الله، وعنفًا على عباده - تجعل آثارَ هذه المواقف تطول المسلمين، وتستدعي منهم تحصُّنًا ضدَّها، وقدرة على مدافعتها، وتبعًا لذلك تسعى برامج التعليم بتلك الرُّبوع إلى ترسيخ مبدأ الولاء لصنمٍ طاغوتي، قد يكون وطنًا قوميًّا، أو إيديولوجيَّة مقدسة، أو حاكمًا مستبِدًّا، بينما تكمن رسالة التعليم الإسلامي في وصْل الفئات التعليميَّة بكتاب الله – تعالى - وسُنة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - معرفةً وعملاً وسلوكًا، وإيقاظ القلوب والعقول ليكونَ الولاء المطلق لله - تعالى - ولرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وللمؤمنين، وهو ما يستوجب التوصُّلَ إلى نظام تعليمي مرتبط بقِيَمِنا الإسلاميَّة، ومنسجم معها، بل خادم لها.

وتكمن بليةُ تعليمنا الحالي في السَّعي إلى التعلُّق بأهداب "الحداثة"، واستيراد مناهج لا عَلاقة لها بهُويَّة الأمَّة، ولا بدِينها وأصولها، تتجرَّعها ناشئتُنا، فتفقد جزءًا كبيرًا من مقوِّمات أصولها دون أن تستسيغَ النموذج الغربي المعروض، فيُشَلُّ عطاؤها، ويرتبك أداؤها، وتنحطُّ عزائمها، فَلِمَ نتساءل في النهاية عن أسباب الفشل، وعوامل السقوط والتردِّي؟!

إنَّ التعليم الإسلامي ينبغي أن يتصدَّى لثلاث وظائفَ أساسيَّة:
- تربية النُّفوس وتهذيب الأخلاق وتقويم السُّلوك: (تنوير القلوب وربطها بخالقها، وتعهُّد غرْس الإيمان بها، والسمو بنظرها إلى مقامات الإحسان، والقُرْب من المولى المنَّان).

- شَحْذ العقول وتزويدها بالمعارف اللاَّزمة في شتَّى العلوم، الشرعيَّة منها والكونيَّة، وفتح باب الاجتهاد بدون قيود غير ضابط العبودية لله - عزَّ وجلَّ -: (تحرير العقول، وتنمية رُوح الإبداع والابتكار لَدَيها، ونَفْض غُبار الكسل والخمول الذي عَمَّر لقرون طويلة، ورَفْع قيود الرقابة على الأفكار، أو وضْعها في قالب نمطي لا يَستقيم وحياةَ العقول).

- تطوير البحث العِلميِّ والتقني والتنموي، والنهوض بالاقتصاد والصناعة، واكتساب التقنيات الحديثة، وتجاوُز مَنْطق الاستهلاك الدَّوابِّي عبرَ مواءمة تلك المنجزات مع مقاصدِ الشريعة الإسلاميَّة: (بناء مجتمع العُمران الأُخوي، بما يَعنيه من تنمية اقتصاديَّة واجتماعيَّة، تسعى إلى تمكين الأمَّة من أسباب القوَّة الماديَّة الكفيلة بضمان الاستمرار وسطَ أُمم ليس لها سوى هذا الهمِّ، تصل من أجله اللَّيل بالنهار كدًّا وجِدًّا).

لغة التعليم الإسلامي:
إنَّ وظيفة اللُّغة تُعتبر خادمةً لرِسالة التعليم، فهي الوعاء الذي تُقدَّم فيه هذه الرِّسالة، واللغة كما هو معلوم تختزن المعاني، والقِيم وتعكس هُويَّة الناطقين بها.
إنَّ ممَّا تفرضه أهداف التعليم الإسلامي في ربط الناشئة بدين الله - تعالى - قرآنًا وسُنَّة: تعليمَ اللُّغة العربية، واكتساب سليقتها وبيانها، حتَّى يتسنَّى فَهْم كتاب الله - تعالى - وسُنَّة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهْمًا سليمًا يُوافق البيان القُرآني والنبوي، فاستيعاب اللُّغة العربية شرْطٌ في فَهْم أحكام الشَّرع ومقاصده، ومن ثَمَّ يصبح تعليم اللُّغة العربية من الأولويات، ومن الوسائل الحتميَّة لأداء الرِّسالة التربويَّة للتعليم الإسلامي، وإرساء أهدافه ومضمونه؛ بل إنَّها تعمل على توحيد الإحساس والشُّعور، وتقريبِ الأفهام لَدَى أفراد الأمَّة الإسلاميَّة جمعاءَ باختلاف أعراق المنتسبين إليها وأجناسهم، خاصَّة إذا لُقِّنت في سنٍّ يافعة.

أمَّا اللُّغات المحليَّة لمختلف الشعوب الإسلاميَّة، فلا يمكن إقصاؤها، أو تجاهلُها في استكمال هُويَّة الناطقين بها، مع إغنائها بمعاني الخُضوع لله - تعالى - والارتباط بأحكامه.

أمَّا اللُّغات الأجنبية، فإنَّ سيادتها الواقعية واحتواءَها لعلومٍ أحوج ما يكون المسلمون إليها اليومَ - يفرضُ على المؤهَّلين منهم التعامُلَ معها وإتقانَها، والجِدَّ في نقل وترجمة ما هو نافع عنها، شريطةَ أن يتمَّ تجنُّب تلقينها لليافعين إلاَّ بعد سنِّ النضج، واستكمال بناء الشخصية.

تعميم التعليم وبذله:
تعميمُ التعليم شعارٌ كبير طالَما ردَّدته بعضُ الحكومات في بلاد الإسلام، وعَجَزت عن تجسيده والوفاء بعهدها، لما كانت أرقام ونِسب الأُميَّة ما تزال مخجلة لحدِّ الذُّهول، وتحدِّي العصر ينطق بأنَّ التعليم أصبح سلاحًا هامًّا من بين أدوات الصِّراع والتدافُع في العالَم، لا غنى عنه لأمَّةٍ تريد أن تستنهض الهِمم، وتتبوَّأ مراكزَ الصدارة بين الأمم.

إنَّ تعميم المعارف الضروريَّة أمرٌ ملحٌّ باعتباره وسيلةً لنشر القراءة والكتابة - أي: محو الأمية الأبجديَّة - كمدخل حتمي لمحو الأميَّة الدِّينية، والسياسيَّة، والتقنية وغيرها، وهو أيضًا وسيلة مهمَّة لفرز الكفاءات، وتوظيفها لصالح مجتمع العُمران الأخوي (التنمية).

وتجدُر الإشارة إلى أنَّ التعليم في تاريخ المسلمين كان قضيَّةَ أمَّة، ورغم تدخُّل الدولة أحيانًا لتأسيس المدارس، وتنصيب العلماء، فقد كان البذلُ العام والتطوُّع من جانب أفراد الأمَّة هو القاعدةَ الصُّلبة التي انبنى عليها هذا التعليم، وكانتِ البواعث في ذلك هي المسارعةَ إلى الخيرات، والتنافُس في المعروف؛ تقديرًا لمكانة العِلم والعلماء في نفوس المسلمين، تلك المكانة جعلتِ المجتمعَ الإسلامي لا يُوكِل أمرَ العلماء والمدرِّسين إلى أنفسهم؛ بل كان المسلمون يهرعون للإنفاق عليهم ومدِّ يدِ العون لهم، ولكي يقومَ هذا الإنفاق بدوره كاملاً ولا يتأثَّر بالطوارئ، فقد اتَّخذ صورةَ أوقاف دائمة، وصدقات جارية لحساب المساجد والمؤسَّسات التعليميَّة، وكان طالب العلم بدَوره مبجَّلاً تصله نفقتُه من صدقات محسني الأمَّة وأوقافهم، وأحيانًا أخرى من الزكوات الشَّرعيَّة، وكانت هذه النفقات تهدف إلى تأمين حاجة تلك الفِئات من حيث المأوى والملبسُ والمطعم في حدِّها الأدنى، وتتعدَّى ذلك أحيانًا إلى توفير كلِّ شروط الرفاهية والاطمئنان.

ومِن جهتهم لم يكن معظمُ العلماء ينتظرون أجرًا على أعمالهم؛ بل كانوا يَعتبرون العِلم وديعةً ينبغي بذلُها في سبيل الله تقرُّبًا إلى الله - تعالى - وادِّخارًا ليوم الحساب، مدركِين أنَّ العلم يزكو مع الإنفاق، وينقص بالشُّح، فيصرفون جُلَّ أوقاتهم، ويُسخِّرون قُصارى جهودهم؛ لبذل معارفهم، وتبليغ العلوم التي حصَّلوها إلى أكبر فئة من الناس، وكان جزءٌ كبير منهم يحترِف مهنًا خاصَّة للكسب، ويُنفق من ماله الخاصِّ على طلبته المُعْوِزين.

إنَّ هذا المسلكَ يعكس تجرِبةً رائدة، وجب أن يُعاد لها الاعتبارُ دون إسقاط مسؤولية الدولة في التنظيم والتخطيط، والتوجيه والسهر على تأمين متطلَّبات التعليم، بإنشاء محاضِنه من مدارسَ ومعاهدَ وجامعات، ثم ضمان كفاية الطُّلاَّب والمدرِّسين من الحاجات الضروريَّة، سواء الماديَّة أو المعنويَّة؛ كي لا يضلَّ أيٌّ منهما عن أداء الرِّسالة المنوطة به.

في الختام:
إنَّ التعليم ذخيرةُ كلِّ مجتمع، وسِرُّ ارتقائه أو انحداره، ونِشْدان تعليم إسلامي راشد ينبني على قواعدِ الشَّرع الإسلامي وأصوله مَهمَّةٌ جسيمة، في مجتمع داؤه فِتَنٌ عارمة متعدِّدةُ المظاهر؛ من أخطرها: "الاستلاب الفِكري" بفعْل غزو الثقافة الماديَّة الجاهليَّة، والتبعية السياسيَّة والاقتصاديَّة، والثقافيَّة للحضارة الغربيَّة المستكبِرة، والمنسلخة عن العبودية لله - عزَّ وجلَّ - غير أنَّ السعي نحوَ تلك الأهداف بثبات ويقين في نصْر الله - تعالى - لدِينه ولعباده - خيرُ حافز لنا لمواصلة المسير، حتَّى نُحقِّقَها - بإذن الله تعالى.

وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.


ـــــــــــــــــــ
[1] أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) و(الأوسط) و(الكبير)، انظر كذلك: (شعب الإيمان) للبيهقي، (مسند أبي يعلى)، (مسند الشهاب) للقضاعي.

عبدالباسط المستعين