[align=justify]
تعدَّدت الدِّراسات والأبحاث - ولا تزال - حول مفهوم الذكاء، وأنواعه، ومظاهره، وما مدى إمكانيةِ استثارته، واستنباته، والنظر في جَدْوى التدرُّب والتدريب على تَجلِّياته، والإفادة مِن ثمارِه، ونتائجه، والتمَكُّن مِن تعْمِيمه وإشاعته.
تشكَّلت على إِثْر ذلك مذاهبُ كثيرةٌ،ومدارس تَتْرى، وفلسفات شتَّى، في مختلف عُلُوم النفس؛ (علم نفس الذكاء، النمُو، وعلم نفس الطفل)، وعلوم التربية؛ (المدرسي، التعليمي، والتعلُّمي)، وبرَزَت اختصاصات جديدةٌ، فيما سُمي بـ(العلوم العصَبيَّة)، وبيولوجيا المخ البشَري، والعلوم المعرفية.
أصبح منَ المتداول مصطلحات؛ مثل: الذكاء الإبداعي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء العاطفي والوجْداني، بل وحتى الذكاء الروحي؛ للتعبير على جُملة المهارات العقليَّة، والنفسيَّة، واللغَويَّة، في ميدان مُحدَّد مِن ميادِين الحياة، من هنا برَز مفهوم الذَّكاء المالي، وشاعَ استعمالُه في دوائر إدارة المال والأعمال، ودُنيا التجارة، وقيادة المشاريع الحرَّة.
ومُرادنا هنا بالذكاء المالي - تحديدًا -: مجموع الاستعدادات، والقُدرات، والمهارات النفسية والعقلية والاجتماعية اللازمة لتأسيس، وإدارة، وإنجاح، وتطوير المشاريع الرِّبحيَّة، من خلال توفير خدمة أو سلْعة؛ لتلبية حاجة في سُوق مُعينة.
لماذا الكلام عن الذكاء المالي؟ كيف يَتَشكَّل هذا الذكاء بهذا المفهوم؟ ما دَوْر المدرسة، والبيت، ومؤسَّسات التوْجيه، ورعاية الشباب، في رعاية هذه المَلَكة في النفوس والعقول؟ ما مدى مواءَمة واقِعِنا، وبيئتنا الاجتماعية والإدارية لإشاعةِ وتحفيز، وتفتيق الأذهان والطاقات عن هذه المهارة؟ ما العقبات؟ وما الحلول؟
هذا ما سنُحاول تقليب وجهات النظَر حَوْله في هذا المقال - بعَوْن الله وقُوَّته، ومنه الحول والطَّوْل.
لماذا الذكاء المالي؟
يشْهد واقعُنا المعاصرُ مزيدًا مِن تنامي التعقيد المتصاعِد، وصعوبة الحياة المُرْهِقة، وتكاثُر متطلَّبات العَيْش الكريم، مما جَعَل الطلَب على المال، وتحسين القدْرة الشرائية لمواطن اليوم يتزايَد طَرْدًا مع هذه التطوُّرات، ويشتد بحسب وتيرة تَلْبية تلك الحاجات، ويَتَعاظَم مع ميولات الاستهلاك الجديدة المتجَدِّدة، التي تصنعها آلةُ الإعلانات الرَّهيبة، التي تُلاحِقنا ليلَ نهار، وتأتينا مِن فَوْقنا، ومِن تحتنا، وعنْ أَيْماننا، وعنْ شمائِلنا، ومن أمامنا، ومن وَرَائنا، مِلْء أسماعنا وأبْصارنا، أنَّى حَلَلْنا، وحيثما ارْتَحَلْنا.
تَتَفَنَّن في مسْخِنا، وتخريب عُقُولنا، وعقول أبنائنا ونسائنا، بل وحتى عقول وأذواق أجْدادِنا وجدَّاتنا، تصنع لنا أذواقًا، وتغرس فينا حاجات، تَعِدُنا وتُمنِّينا، وما تعدُنا - في الغالب الساحق - إلا غرورًا.
غَدَونا بسبب ذلك كيانات هُلاميةً، لا تعرف معنًى لِوُجُودها، إلا مِن خلال إدمان الاستهلاك الدائم المتَجَدِّد، ولا تجد سبيلاً لتحقيق ذاتها إلاَّ الجري لاهثةً وراء تلك الوُعُود الكاذبة اللَّعُوب، التي تُؤَكِّد تلْكم الإعلاناتُ إمكانيةَ التحَصُّل عليها وراء ذلك الإدمان، والانغماس في جُنُون الشِّراء والاقتناء.
تستحكم حلقاتُ هذه الدورة الخبيثة، وتترسَّخ في دنيا الناس، من خلال الأموال المتدفِّقة المتنامِيَة، المحُصَّل عليها مِن وراء هذه العمَلية، فيزداد التحَكُّم، ويزداد التفنُّن في الغَواية، ويزداد الإحساس بالفَقْر، وتناقص قدرة الشِّراء لدى المواطن "الممسوخ"، وتَزْداد حاجتُه إلى المزيد منَ الاستهلاك، وتزْداد الأمْوال في أيدي المتنفِّذين، وهكذا دواليك.
بناء على ذلك؛ يغدو الكلامُ عن الذَّكاء المالي - بمفهومنا الذي حدَّدْناه آنفًا، والنَّظَر في مدى إمكانيةِ تحصيله وإشاعتِه - نوعًا من التأبِّي والتمَرُّد على هذا الواقع البَئِيس.
إنَّ تنمية الوَعْي، وإرهاف الحسِّ، تجاه طرُق جديدةٍ مستَحدَثة، مواكِبة موائِمة لحِيازة المال، وطَرْق أبواب توزيعه، وتوسيع دائرة الأَيْدي المستفيدة منه؛ حتى لا يكونَ دُولَةً بين عُتاة المعلنين المتلاعبين، وكبار الرأسماليين الجشعين - هي أهم الأسباب الداعية لتَنَاوُل هذا الموضوع؛ موضوع الذكاء المالي.
إنَّ تَوْسيع دائرة الفَهْم، ومناقَشة القناعات، ومُطارحة الأفكار هي - في نظرنا - المدْخلُ الصحيح، والمرحَلة المتقَدِّمة اللازِمة لتناوُل مثل هذا الموضوع، ومُحاولة إيجاد ثغْرة في هذا الطريق المسْدود، وإعمال شرْخٍ في حلقات الدورة الخبيثة المذكورةِ سابقًا؛ دورة ازدياد الغنيِّ غنًى على حساب زيادة فقْر الفقير.
إرثٌ مكتسب:
ما أشبه إرثًا باكتساب! وما أقرب ذاتيًّا باجتماعي! وما أكثر تداخُل بيولوجيٍّ ببيئي في موضوع مثْل تشكُّل وتنمية وتواصُل الذكاء المالي، بين الأفراد والجماعات والأجيال.
لقد أثْمَرَت الدراسات الكثيرةُ والطويلة والممْتَدَّة - فيما أثْمَرَتْ - مدرسةً، تَتَبَّعَتْ كيف تنشأ مفردات هذا الذكاء المالي، وتبَيَّن أنَّ البيت والوالدين والاحتكاك في ميدان العمَل - هي أكبر مصادر هذا التشكُّل والتواصُل.
تَظهر الاستعداداتُ، ويسهل بُروزُها، في هذه الأوساط الثلاثة: (البيت، الوالدين، العمل)، تَتَحَدَّد الاهتمامات، وتُشجَّع الميول، وتَتَقَوَّى الرغبات، وتُنمَّى القدرات، وتُصقل المواهِب، وتُكتسب المهارات، في مثل هذه الأجواء الراعية، إذا صادفتْ تجاوُبًا وتفاعُلاً، من طرف المَعْنِيِّ (ابنًا، مُلازِمًا، زميلاً، أجيرًا).
إنه ذكاء مَوْروث، أو اجتماعيٌّ، أو بيولوجي، باعتبار ضِيق الدائرة، التي ينشَأ فيها هذا الذكاءُ ويَبْرُز، فكأنَّ دور الوالدين، وبيئة البيت أو العمل، ينْحصر في استثارة شيء مَوْجُود سلَفًا في نفْس المتلقِّي أو المستفيد، ويبقى التحْفيزُ، والرِّعاية، والتَّوْجيه، هو غاية ما يُمكن أن يفعلَه المحيط.
لكن باعتبار كِبَر دَوْر المتدرِّب والمدرِّب، الحاسِمَيْن في بَلْوَرَة وارتياد آفاق ذلكم الذكاء، يُمكن النظَر إليه أنه اكتساب، ورغبة، ومهارة، قابلة للتعلُّم والتعليم، يظهر ذلك واضحًا في سِيَر الناجحين اللامِعِين في هذا الميدان، وما ضرَبُوه من أمثلة مثيرةٍ في التأبِّي على واقعِهِمْ، واستلهام طُمُوحهم في شقِّ طريقهم نحو القمَم، مهما كانتْ صعوبةُ ظروفهم، بل وما ضَرَبَهُ مَنْ وراءهم من الرُّعاة، والمشجِّعين، والمرافقين من دَعْم، وسَنَد، وكيف كان دَوْرُ البيئة حاسمًا في جميع مراحِل تَشَكُّل وتجلِّي هذا الذكاء.
إن مساحة ودور البيئة - في نظرنا - في بلْورة واستنبات، وتنمية وتفعيل وتطوير، هذا النوع من الذكاء - كبيران، بالقَدْر الذي يسمح لنا بشيءٍ من التفاؤل المشروع، بإمكانية التعْويل على جُهُود التوعية والتأهيل، والقدْرة على تأسيس منظومات برامج مُتَنَوِّعة، تستهدف تعليم وتدْريب أكبر قدْر منَ المواطنين، والشباب بالخصوص، الراغبين في الاستفادة مِن هذا الذكاء، وجَني ثماره.
المدرسة لا تجعلك غنيًّا يا وَلَدي:
"جِد واجتهدْ تَحصُل على نتائج جيدة، وعلامات ممتازة، تُؤَهِّلك لدخول كليات مَرْموقة، تضمن لك شهادةً معتَبَرةً، تفتكّ بها وظيفة سامية، في هذا الزمن الصعب: هذا مقال ولسان حال غالب الآباء والأمَّهات، وهم يوجِّهون، وينْصَحُون فلذات أكبادهم، ويحثونهم للتحصيل، والمواظَبة على الدروس، والتفَوُّق في مسارهم الدراسي.
هذه المقولة تُلخِّص - بصِدْقٍ كبيرٍ - فلْسَفَة ورسالة المدرسة الحديثة، التي تكاد تنْحصر في أحْسَن حالاتها ومآلاتها في تخريج أفواجٍ من حمَلَة الشهادات سنويًّا؛ لتُضاف إلى الجماهير الباحِثة عن فُرْصة توظيف في سوق عمَل، أقل ما يُقال عنها: إنها في أزمة هيكليَّة حقيقيَّةٍ، مما يزيد الطينة بِِلَّة ونَقْعًا.
عندنا في البلاد العربية قلَّةُ تواؤُم الشهادات الممنوحة مع مُتطلبات سُوق العمَل، فتَغْدُو المأْسَاةُ ماثلَةً في المزيد منَ الطلَب على وظائف وفُرَص عمل شحيحة، أكثر فأكثر، وتتوالَدُ البطالَةُ سرَطانيًّا من الآلاف إلى الملايين، بل وعشرات الملايين العاطلين.
إنه التأهيلُ للتوظيف والعمَل عند الآخر؛ سواء كان دائرةً حكوميةً، أو مؤسسة أهليَّة، أو شركة أجنبية، أو غيرها، إنها نفسيَّة الأجير، وعقليَّة الدَّوام، وتسلُّم الراتب دَوْريًّا، الذي يُسْتَهْلَكُ مُعْظمُه قبل قُدُومه، وانتظار التَّرقيات، حتى الإحالة على التقاعُد والمعاش، هي المآلاتُ التي يصبو ويؤُول إليها كلُّ محظوظٍ من هؤلاء المتخرِّجين.
وتدور الأفلاك، وتنقضي الأزمنة، ليجدَ هؤلاءِ أنفسهم آباءً ينْصَحُون، ويُوَجِّهون لأبنائِهم نفس النصيحة والتوجيه الذي تلقَّوه مِن آبائِهم وأمهاتهم: الجِد والاجتهاد، فالعلاماتُ والمجاميع، فالكليات والشهادات، فالوظيفة والاستهلاك، فالتقاعُد والمعاشات، وهكذا دواليك من جيلٍ إلى جيل، المدْرَسة إذًا لا تؤهِّل للغِنى، وتكوين الثروة، وليس هذا مِن واجبها، ولا مِن رسالتها، على ما يبدُو؛ إنها تُخرِّج - في أحسن حالاتِها - موظفينَ أُجَراء بنفسيَّة وعقلية الموظَّف الأجير، الذي يبيع وقْتَه وجهده ومهارته لأرباب الأعمال، مقابل راتبٍ شهريٍّ مُعين، وشيء منَ العلاوات، والرِّعاية الصحية والاجتماعية، حتى يُحال على التقاعُد.
الوظيفةُ - كما هو معْرُوف - هي مِن أضيق أبواب الرِّزْق، ومن النادر الشاذِّ حقًّا ما ترى مُوَظَّفًا أمينًا اغتنى، وحَسُنَت أحوالُه المالية، بصفةٍ مَحْسوسة، مِن مجرَّد إيرادات راتبِه، بل الشائع والمعلوم منَ الواقع ضرورة مرارة الشَّكْوى من غَلاء المعيشة، وقلة ذات اليد التي تصنع يَوْمِيَّات الموظفين والأُجَراء.
إن شِبْه الغياب الكاملِ للحدِّ الأدنى مِن تعليم وتعلُّم المهارات الأساسيَّة في التعامُل مع المال، تحصيلاً وصرفًا، وتوفيرًا واستثمارًا، وتنميةً ورعاية، مِن برامج ومناهج المدارس عمومًا - يُعتبَر من المفارقات الكبرى، والثغرات الواسعة في واقع التعليم المعاصر.
إنَّ وُجُودَ بعْضِ الاختصاصات المُحاسبيَّة، التي تَتَطَرَّق إلى المال وأحواله، واستحداث بعض الفُرُوع والأقسام، وحتى بعض الكليَّات المهتمَّة بفُنُون إدارة المال والأعمال في مختلف الجامعات، ومؤسسات التكوين - لا تكاد تفِي بالغرَض، ولا تسدُّ هذا الخَلَل؛ ذلك أنَّ الاتجاه التعليمي العامَّ - حتى في تلك التخصُّصات والكليات - لَم يسْتَطِع الانفكاك - إلا ما نَدَر - من الفلسفة الكبرى الطاغية التي تَبَنَّاها، وشبَّ وشَابَ عليها التعليمُ، والمتَمَثِّلة في استهداف تخْريج موظفين قبل كل شيء، فترى الطلاب الحائزين على شهادات كبْرى في إدارة الأعمال مثلاً، يتباهون - بدل التفكير في الدُّخول في مشاريع خاصَّةٍ بهم - أنهم لَم ولن يَجِدُوا صعوبةً في إيجاد وظيفة مغرية مُدِرَّة.
مِن تداعيات هذا الخَلَل اللافت أنَّ عامة المتخرِّجين المتوجِّهين إلى ميادين الأعمال الحرة، تجدهم في الغالب ممن يَئِس واستَيْئَس من إمكانية التوَظُّف، واضْطُرَّ إلى هذا الاتجاه؛ هرَبًا من البطالة، وليس بناء على قرار واعٍ، واختيار مسؤول، واستِعْداد كافٍ، ورغبة متمَكِّنة، مُدركة لأهمية وحيويَّة هذا الميدان وأبعاده ومُتطلباته، فلا عجبَ إذًا أن تكونَ النتائجُ هزيلةً ضحْلة، ونِسَب الفشَل والتعثُّر عالية، مما يعطي انطباعًا إضافيًّا لدى الشباب بصعوبةِ التعاطي مع هذا الميدان، وخُطُورة خَوض غِمَاره، وهذا بدَوْره يُكرِّس القناعات السائدة، ويُشوِّش الصورة أكثر، ويقدِّم مَزِيدًا منَ التبْرير والمشروعية والواقعية؛ لرُجُوع الفُلُول المحُبَطَة إلى جُمُوع وجماهير الباحثين؛ بل والمنتظرين في طوابير عنْ وظيفةٍ مُنقِذةٍ، واعِدة بأمْنٍ واستقرار مهنيٍّ ومالي مَوْهُوم.
إنَّ هذا الواقِع التعليمي والدراسي "الغريب" يفْرض استنفارًا عاجلاً، وتضافُرًا قويًّا لِجُهُود كافة الشركاء الاجتماعيين، والمهْتَمين بالشأن التربوي والاقتصادي للأمة؛ لإمعان النظر، وتقويم الوضْع، ووضع اليد على أصل الداء، وإعمال مبضع الجراحة لإزالة شأفته من خلال دراسةٍ جادَّة عميقة، متَخَصِّصَة متأنِّية، متعدِّدة الجوانب، مُنَوَّعة المنهَجِيَّات، متقابلة التقْييمات، متكامِلة الفرضيات، متَباينة التقْويمات، ثريَّة المشاهد، حافلة بالبدائل والاستدراكات؛ للخُرُوج بمنظومة متكامِلة، تتدَرَّجُ بجدية كافية لتأهيل وإقحام المدرسة في ميدان تنمية وإشاعة، وتمليك الأجيال القادمة أبجديات هذا الذكاء اللازم لتفتيق الأذهان والعقول والنفوس، عن عالم الأعمال الجالبة للمال، والثروة، والغنى.
قناعتان مُقَوِّضَتان:
لا تكتمل الصورة دون الإشارة إلى عامِلَيْن حاسِمَيْن، يقفان في وجْه أيَّة محاولةٍ جادَّة لإشاعة ثقافة الغِنى والاغتناء، وتحفيز كوامن طاقات الذَّكاء المالي لدى الأفراد والجماعات، يتَعَلَّق الأولُ بالثقافة الشعبيَّة الجماعية المَوْرُوثة والمشاعة بـ: أن طريقَ الغنى والرغبة في اليسار، وظهور بوادر أثر ذلك على مَن لَم يكن من وارثي الأموال، ولا سليلاً لبُيوتات الثراء - أمرٌ مَشْبوه، لا يُمكن تصوُّر حصولِه إلا مِن خلال أفانين الخداع، والغش، والرِّشوة، والاحتيال، والنصب، وبَيْع الذِّمَم.
إن معاني الغيرة والغبطة - وربما الحسَد - المبطنة والممزوجة بشيءٍ من الاحتقار والمؤاخَذة، والتشكيك والإشاعة، وتعميم التجريح، وربما حتى المكايدة، وحب الوقيعة بهؤلاء "الأغنياء الجُدُد" - هي بعْضُ ثِمار تلك الثقافة والنتائج الحتمية لِمِثْل هذه القناعة، التي لا تقبل ضمانًا ولا دليلاً على الأمانة والعفَّة، بل وحتى مجرد براءة الذمة، دون قلَّة ذات اليد، وضيق الحال، وشظَف العيش، وما أصدق ما أُثر عن أحد السلَف، وهو يوصي أحد أبنائِه، محذِّرًا من مثل هؤلاء: "إنهم لا يرضون منك إلا أن تكون فقيرًا مثلهم"!
العامل الثاني المتداخل والمتعاضد مع الأول: يَتَمَثَّل في قناعة متَّصلة بالدِّين والثقافة الشرعية المشاعَة أيضًا، (ثقافة العوام) مفادها: أنَّ الغنى وطلبه واستهدافه مُنافٍ للتقوى، وإيثار الآخرة عنِ الدنيا، إنَّ مُجَرَّد الكلام عن المال، وطُرُق تحصيله وصَرْفه وتنميته وتكثيره - يُعتبَر في ضَوْء هذه القناعة دليلاً صارخًا على رقَّة دين الرجُل، وشرهه وحبِّه الدنيا، وارتكاسًا كافيًا للتوَجُّس منه، وسقوطه من أعين المتدينين الزاهدين في الدنيا وأهلها.
لا شك أن هذا الأمر شاعَ مع موجات التديُّن المغْشوش، الوافدة علينا من ثقافات الزُّهد الأعجمي، الوارد من الشَّرق والغرب، لكن هذا لَم يَمْنَعْ مِن تَغَلْغُل هذه القناعة في أوساط أغلب الناس، وتَسَلُّلها إلى قناعاتهم الدِّينية العميقة، مِما كَرَّس ومَكَّن للعامل الأول أن يعملَ عمَله في نُفُوس الناس وواقعهم.
إن أيَّ جُهد إصلاحي في هذا السياق يَتَجاوَز ويغفل عن مُعالَجة هذَيْن العاملَيْن، لا يمكن في رأْينا أن يؤتِي ثماره، ولا أن يبلغَ مداه، أو يحقِّق شيئًا ذا بال.
مباضع الجراحة:
هل مِن سبيلٍ إلى استثمار ما توصَّلت إليه جُهُود الإنسان في علوم إدارة الأعمال والمال، وتثمين ما تملكه الأمةُ من طاقات بشرية شابَّة، هائلة ومتميزة، واستلهام مشاريع حُلُول لاستنبات واستثارة القدرات الكامنة لدى الأفراد والمجموعات، مما تَمَخضت عنه جهود المبدعين والرواد، من نماذجَ واعدةٍ على طريق ترويج وإشاعة مادة التربية الاستثمارية، والذكاء المالي، وإتاحة تعلُّم مبادئه وفنونه لأكبر عددٍ من المواطنين الراغبين في مَحْو أميَّتِهم في هذا المجال، والواعين بضَرُورة تطوير مهاراتهم في هذا المَيْدان؟
نزعم أنَّ هناك مجالاً للإجابة بالإيجاب، وإنَّ قدْحَ زناد الفِكْر الإبداعي الشجاع كفيلٌ بإقحام وإثارة الموضوعِ في دوائر الوعي والنقاش، وتقليب وجهات النظر لدى الأفراد والجماعات والمؤسسات، وكافة المعْنِيِّين في المجتمَع للتداوُل حول الموضوع.
والتفكير في مشروع منظومةٍ متكاملة تستهدف رعاية الاستعدادات الشابة والقابليات الواعِدة للتَّمَلُّك والتمَكُّن من هذا الذكاء المالي، ورفع مَرْدُوديته وثماره على المستوى الشخصي، وكذا الشأن العام.
من هنا، وفي ضوء ذلك، يُمكننا الإشارةُ إلى المفردات التالية:
1- بلْورة ومباشَرة عمَل عميق هادئ، ومتدَرج منوَّع، لا يكل ولا يمل لإزالة القناعات السلبية الخاطئة حول المال والاغتناء، وإرجاع الفَهْم الفرْدي والوعي الجماعي إلى المفهوم الصَّحيح المنضبط بالكتاب وصحيح السنَّة النبوية، في النظْرة إلى المال والثراء، الذي جعلتْ شريعتنا الغرَّاء مِن حفْظِه مقْصِدًا من مقاصدها الكبرى، إلى جانب حفْظ الدين والنفْس، والعقْل والعِرْض، واشترطتْ حصوله لوُجُوب تأدية ركنَيْن من أركانها الخمسة: الزكاة والحج، ولَم تَتَحَرَّج في وصْف صدَقة المؤمن إقراضًا حسنًا لله الغني، واعتبرتْ جهادَ المال بيعًا اشْتَراه الله مِنْ عبده، وتجارةً رابحة في الدنيا والآخرة، وسُمَّت الجنَّة - أسْمى مكان ومقام في الآخرة - سلعةَ الله الغالية، ووَصَف الحبيبُ الدنيا كلها بسوق قامتْ وانفضَّتْ، ربح فيها من ربح، وخسر فيها من خسر.
2- بلْوَرة وإشاعة ثَقافة المشْرُوعات المتوَسِّطة والصغيرة ومتناهية الصِّغَر، التي تدلُّ الدِّراسات المسحيَّة والاستشرافية على أنها ستكون المصدرَ الأول والأساس في توليد العمالة، وتحريك الاقتصاد.
3- ربْء صدْع منظومة التعليم والبرامج المدْرسية، ورتْق فتْقها بتوجيه الشباب إلى التفكير أثناء فترة الدراسة والتحصيل، بضرورة التزوُّد بكافة المستلْزَمات والتحضيرات اللازمة لتأسيس وإدارة مشاريع خاصة بهم قبيل التخرُّج، وبعده مباشرة، وتركيز الاهتمام حول ذلك، وجعل الوظيفة آخر اختيار وأدْناه، والانتقال بذلك من كونِه جزءًا منَ المشكلة - متَخرج لا بدَّ للمجتمع أن يبحثَ له عن منصب شغل - إلى أن يصبح جزءًا من الحل بمُحاولة تأسيس عمَل يفتح له - وربما لغَيْره - باب العمَل والنشاط.
يمكن الإشارة في هذا المقام إلى تَجْربة تركيا في جامعاتها التقنية؛ حيث تشترط إلى جانب الدراسة النظرية والتقنية مباشرَة مشروع الانطلاق في تأسيس عمل حر - تجاري، خدمي، إنتاجي، استثماري - ولا يُسلَّم الطالبُ شهادة مهندسٍ مثلاً، حتى يثبت أنه انطلق فعلاً في ميدان في التأسيس والمباشرة.
4- إطلاق المبادَرات، وتبنِّي التجارب، وتحفيز النشاطات الهادفة لصُنع أجواء مُوَاتية لتحريك واحتضان العقلية الاستثمارية والمقاولاتية، وتنْمية رُوح المخاطَرة المحسوبة والثِّقَة بالنَّفْس، والمُسَاهَمَة في تَرْقية المجتمع، وتوسيع خدماته ومنتوجاته الصالحة المُفِيدَة.
5- تنمية المهارات، وصقل القدرات، وتَمْكين الشباب منَ التَّقنيات والأدوات المسْتَحْدَثة واللازمة لتفعيل الذكاء المالي، والتربية الاستثمارية.
6- التَّفْكير الإبداعي صِنْو الذكاء المالي، ومنجمه الثري، التفكير الذي يتأبَّى على المألوف بقوَّة وحكمة، ويسبر أغوار المشكلات بعين جديدة، ويسيح في كون ومكنون الأفكار صائدًا شواردها، جامعًا شتاتها، غائصًا في أعماقها، مستلْهمًا أشباهها ونظائرها، يمتلك نظرًا جامعًا وتأثيرًا مَوْضعيًّا محددًا؛ تنمية هذا الفكر والتمَكُّن من ممارسته قَمين بتفتيق الأذهان عن طرُق متجَدِّدة ووسائل غير مسبوقة؛ لِجَمْع الثروة، واستثمار المال وتدويره في مشاريع وبرامج واعدة مفيدة ماليًّا واجتماعيًّا.
7- تنمية الحس الجماعي، والترغيب في التكافُل الاجتماعي، من خلال تَحْفيز الأغنياء وأهل اليسار نحو الجهاد المالي، وتحريك قوة المال في تنمية المجتمع.
إننا نكاد نجزم بأنَّ أكبر أنواع الجهاد المالي، وذروة سنامه، تكون أول ما تكون - وقبل أي شيء آخر - في رعاية وتدعيم كل المشاريع الخيرة الجادة - بدون منٍّ ولا أذى - الهادفة لتنمية الذكاء المالي والتربية الاستثمارية، لدى أكبر قطاع من الناس والشباب على الخصوص.
جميل أن تعطي أحدًا سمكة، فتسد جوعته، وتكفيه قوت يومه ذاك، لكن الأجمل أن تعلِّمَه صيد السمك، فتعطيه بذلك قوت عمره، وتذيقه حلاوة الأكل مِن كَسْب يدِه، والاعتزاز بخدمة أمته، لكن الأروع حقًّا أن تأخذَ بيده، وتشد أزره، وتكون حاديه في الطريق، حتى يُتقن فنّ صناعة صنارة الصيد، فيصنعها، ويبيعها التجار والصيادين، فيُفتح له بابٌ للغنى والثراء المشروع، فينفع نفسه وأمته، ضاربًا في الأرض، يبتغي فضلاً منَ الله ورضوانًا، ثم يدخل هو في الدَّوْرة مِن جديد، فيأخذ بِيَد آخر ليغدو غنيًّا هو الآخر، وهكذا دواليك.
إننا نميل في هذا المقام إلى استلهام ما أُثر عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - من إعطاء الفُقراء من الزكاة ما يكفيهم، ويجعلهم مزكِّين في قابل قريب، وهذا لعَمْري من عبقريات عمر ونفائسه؛ ذلك أنَّ إعطاء هذا الفقير كفايته التي تؤهِّله حتى يكون مزكِّيًا في المستقبل، لا يعني أن هذا الانتقال في وضْع الفقير إلى تلك الحال سيكون أمرًا تلقائيًّا يَتَحَقَّق بِمُجَرَّد توفُّر المال، بل لا يمكن ذلك ما لم يكن هناك جو مساعد يدفع بهذا الفقير أن يفجر طاقاته في استثمار ذلك المال وتدويره، حتى يدر عليه إيرادًا كافيًا ينقله من كونِه وعاء من أوعية الزكاة إلى مزكٍّ مكتفٍ.
8- ضوابط ومحاذير ومضاعفات جانبية:
لعل أول ما يتبادر إلى الذهن - ونحن نَتَكَلَّم عنْ هذا الموضوع بمثل هذه الحماسة الملحوظة، وفرط التفاؤل، وحشد الذهن لتأكيد هذا الاتجاه في التعامل مع المال، والدعوة إلى الاغتناء، وفتح شهية الناس نحو شيءٍ حبُّه الشديد مركوزٌ في النفوس، محبوب إلى القلوب، مشوب بكثير من التهالك على الدنيا، والتنافُس المذموم فيها، على نحو ما ذكرناه صدر هذا المقال - كثيرٌ منَ المحاذير المشْروعة، والضوابط اللازمة لتأطير وترْشيد هذه الدعوة، والنأْي بها عن مُضاعفات جانبيَّة، قد تُحوِّل الدواءَ داءً، والترياق سُمًّا زعافًا، وتقلب ما توهَّمناه تأبِّيًا على أخطبوط العولمة، فيغدو سقوطًا في أحابيلها، ورضوخًا لمنطقها، وجريًا في ركابها.
يُمكننا جرْد بعضًا مِن معالِم تلك الضوابط في المفردات التالية:
1- لا مناص من التأكيد في هذا المقام على ضرورة مُواكَبة الإجراءات سالفة الذكر؛ لعملٍ تربوي تأهيلي عميق دائم، يعمل على غرْس روح التديُّن الصحيح في النفس، وإشاعة معاني الاستقامة على منْهَج الله - عز وعلا - وترسيخ أهمية التعبُّد، والتبَتُّل بين يدي الله الخالق - سبحانه - وتجريد القَصْد، وتصحيح النية في التعامل مع المال وأحواله.
2- تَوْسيع وتَيْسير وحسن صياغة ونشر الفقه الشرعي في شؤون المعاملات المالية، وتعميم استيعاب فلسفة المال في الإسلام، وخصوصية التعاطي معه، وكيف أن الإنسان إنْ هو إلا مستخلَفٌ لله في مال الله، ويتحمل مسؤولية شرعية كبيرة في حُسْن التعامل معه، وحُسن تدبيره.
3- بلْورة رؤية إسلامية أصيلة معاصِرة، تُعنىَ بشُؤون المال والأعمال، وتساهِم في طرْح بدائل لما تُعاني منه البشريَّة في هذا المجال، وما خبَر الأزْمة المالية والاقتصادية الراهنة عنَّا بخافٍ ولا بعيد؛ حيث تتلفَّتُ البشرية بهلع، تبحث عن مخرج، وتتنادَى لتجريب كلِّ شيء سوى منهج الله، وحتى لو اضطرت إليه، سمَّته بغير مسماه، فغدونا نسمع عن قرض ربوي بنسبة صفر بالمائة.
[/align]
عبدالباقي عمر دعماش
مواقع النشر (المفضلة)