كان مدرساً أنيقاً.. شاباً.. وسيماً.. خلوقاً هادئاً.. يتكلم فينصت له الجميع.. مؤثراً في مستمعيه.. مقبولاً محبوباً عند طلبته.. يتنقل من هذا الفصل إلى ذاك والاحترام رفيقه.. وصوت حذائه اللامع يحدث نغمة مميزة.. ورائحة الطيب التي تؤكد وجوده في هذا الفصل أو ذلك الممر.. يُعرف بها عند مروره.. يجتمع معه الطلبة كل يوم متى ما سنحت الفرصة لهم أثناء الدوام الرسمي والحصص.. أو أثناء وقت الراحة بين الفترتين الدراسيتين..
ارتجل كلمة في حشود الطلبة.. أثناء زيارة رسمية لشخصية مهمة.. فأبدع ونال الاستحسان والثناء والتصفيق الحاد.. يعرف في الفقه.. والتوحيد.. والرياضيات.. والكيمياء.. والفيزياء.. وعلوم الفلك.. والنبات.. يتحدث عن الأحجار الكريمة بإسهاب.. وعن الذهب والفضة والمعادن بأنواعها..
لا يُسأل عن شيء إلا كانت إجابته موجودة لديه.. ولا تكون هناك مسألة إلا والحل بين يديه..
يسأله الطلبة في جميع التخصصات.. ويرجعون إليه في المسائل الصعبة والمعقدة.. ويسأله زملاؤه من المدرسين عن أحكام الشريعة.. ومعرفة الحقيقة.. وعن أمور يحتاجون فيها للتفسير والإيضاح.. أحبوه.. ووثقوا فيه.. فهو الصديق والمدرس والأب والأخ.. وأحب هو من أحبوه فقد كان التواضع سِمة من سِماته.. ومع هذا فإنك تشعر بأنه المتميز.. يشعرك به.. أو تكتشفه بنفسك.. عندما يسير لا يلتفت خلفه أبداً.. لا تحركه أصوات قد تحدث هلعاً لغيره.. ولكنه في صمت وابتسامة واثقة دائماً..عندما تنتهي أشهر الدراسة.. يقضي الإجازة في مدينة ساحلية أو جبلية أو خارجية.. يختار ويعلن ذلك لطلبته.. ويختار معه طلبته وزملاؤه ما اختاره لنفسه.. لفرط إعجابهم واستفادتهم من شروحاته ولغته التي تشاطر النفس هواها وكأنه عالم نفسي درس فنون النفس وتعقيداتها.. وسلوك الناس وعاداتهم.. فالوجه والعينان والتعبير والأناة.. والحلم والابتسامة والجدية.. تورث له احتراماً وتقديراً وإعجاباً وإجلالاً..
مرض ذات مرة فأدخل المستشفى.. فامتلأت طرقات وممرات المستشفى بالزهور والهدايا.. واعتبر ذلك تعبيراً عن شعبيته بين الطلبة المحبوبين.. سأله أحد الطلبة عن طبيبه المعالج ليشكروه.. فأخبرهم بأنه هو الذي عالج نفسه!!.. وأن بعض الأطباء قد أخذوا منه بعض الإرشادات والنصائح حول بعض الأمراض المستعصية.. أوشكت السنة الدراسية على الانتهاء.. وكما جرت العادة تقيم المدرسة حفلاً تدعو إليه أولياء الأمور ومسئولي وزارة التعليم.. وفيها تلقي كلمة لأولياء الأمور، وكلمة للطلبة، وكلمة للمدير.. وتوزع الجوائز على المتفوقين.. ومسرحية هادفة يقدمها الطلبة.. ولم تكن هناك كلمة لمدرسنا هذا في الحفل.. مما أثار استياء معظم الطلبة الذين تربطهم علاقة الود والاحترام والمحبة معه.. فقرروا دعوته لإلقاء كلمة.. ولم يكن ذلك مسجلاً ضمن برنامج الحفل ولم يخبروه بها .. واتفقوا جميعاً لتقديم جائزة تذكارية تقديراً وإجلالاً.. ووضعوا خطة محكمة مع زميلهم مقدم الحفل.. انتهت فقرات الحفل.. قرأ مقدم الحفل مقدمته عن أستاذهم، قال فيها: "لم تكن هذه الفقرة ضمن فقرات هذا الحفل.. ولكن الواجب يفرض علينا وبقوة أن نقدم رجلاً أضاف إلينا الكثير في حياتنا الدراسية.. علماً وفهماً وثقافة قد لا تتاح لكثير من زملائنا.. لقد كان هذا المدرس الكريم المتفوق مجيداً في علمه.. ملماً بكل أنواع المعرفة العلمية التي تعتبر بحق دروساً لحياتنا المستقبلية.. إن مدرسنا هذا يعتبر وجهاً لنا.. فما يحتويه فكره من معلومات وثقافة وتوجيه لم نجده في الكتب ولم ندرسه من قبل.. فحياته العملية وفكره المستنير يجعل من كلمته ومشاركته لنا هو بمثابة تواضعٍ منه في أن يعطينا بعضاً من وقته وفكره.. واستحقاقاً وتقديرا له ولإنجازاته التي غمرنا بها أثناء الدراسة.. أقدم لكم أستاذنا ومعلمنا وصديقنا.. وهو بمثابة الأخ الأكبر لنا.. وأشار عليه داعياً إياه أن يصعد إلى منصة الحفل..
وارتفعت كل الأصوات السعيدة بوجود الأستاذ، وتعالت أصوات الصفير والتصفيق مرحبة به.. وفاقت درجات الترحيب به من سبقوه، حتى اشرأبت الأعناق وشخصت الأبصار لمعرفة هذا المبجل الكريم.. وكما هو معروف عنه.. اعتلى المنصة بثبات وثقة وارتجل كلمته التي تحدث فيها عن الأخلاق الكريمة التي تحلى بها أبناؤه الطلبة.. وعن المعرفة التي حظوا بها من المدرسة.. وتحدث عن مدير المدرسة وأساتذتها.. والصدق والأمانة .. كما تحدث عن المثل والمبادئ والقيم والمهارات والإبداع لمستقبل مشرق لرجل المستقبل.. وقوبلت كلماته بالتصفيق والإعجاب والثناء..
وقبل أن يختتم كلمته قدمت له ورقة صغيرة.. كتب فيها سؤال: "إلى أستاذي الفاضل.. ما هو الخنفشار؟".. قال: "الخنفشار نبات يظهر فوق قمم الجبال.. نادر الوجود.. يستعمل عادة في علاج الصلع.. وقد أثبتت التجارب أنه كعقار له عديد من المزايا.. ولكن ندرته صبغت عليه التجاهل.. ولم يستطع أحد من الكيميائيين والباحثين الحصول على تركيبته حتى الآن.. ويعتبر أحد الأبحاث التي تقيمها جامعات كبيرة في الغرب.. وقد اكتشف هذا النبات أحد المرتادين للقمم الجبلية الوعرة.. وفي أثناء رحلة عودته فقده، فعاد أدراجه إلى قمة الجبل مرة أخرى، ليحضر عينة أخرى تكون نواة للمعرفة والفائدة الإنسانية التي تنفع أصحابها والمحتاجين إليها..
وقد أعجب هذا النبات أحد الشعراء.. عندما وضعه في كأس من الحليب فاختلط به ولم يتغير لونه، ولكنه كان ذا مذاق مميز.. فقال عنه:
لقد عقدت محبتكم فؤادى ... كما عقد الحليب الخنفشار
وقد ذكر في كتب الباحثين مثل ابن سينا، والرازي، ولم يتعرضوا في الكتابة عنه إلا في سطور قليلة نظراً لندرته.. إلا أن الحديث النبوي الشريف لم يترك لنا مجالاً، حيث وردت عنه في بعض الصحاح أحاديث تذكر أهميته وتنصح باستعماله وتعرف بآثاره.."
وعندما وصل إلى هذه النقطة تدخل أحد الطلبة واستأذن أستاذه بأن له تعليقاً على هذا الموضوع..
قال الطالب: "إننا نكن لأستاذنا هذا المحبة والاحترام والثقة بكل معانيها.. وقد اتفقت مع زملائي.. خالد.. ونادر.. وفؤاد.. وشاكر.. وأنور.. ورمزي.. أن نأخذ أول حرف من أسمائنا ونضعها في كلمة.. فكونت كلمة "خنفشار".. وأردنا بذلك أن نسمع كلمة توضح اكتشافه نوايانا وبأننا وضعنا هذه الحروف المجمعة عمداً.. وعندما استمعت إليه صدقته في كل ما قال، وظننت أن الصدفة وحدها وضعت هذا العشب في هذه الكلمة.. وكان بإمكاننا الانتهاء بالقبول والتصديق إلى أن وصل أستاذنا إلى الحديث النبوي فوجدنا في ذلك تجاوزاً لا يمكن قبوله أو الاستسلام له.. فإن ذلك تعدياً وتجاوزاً يعتبر القبول به.. والتغاضي عنه ذنباً نحاسب عليه.. لذا أوضحت هذه النقطة في هذه الكلمة المرتجلة القصيرة".. والتفت يبحث عن أستاذه فلم يجده بجانبه.. وحاول أن يستدعيه ليصحح معلوماته، ولكنه كان قد اختفى كما يذوب الملح في الماء.. ومنذ ذلك الحين.. أطلقت عليه كلمة خنفشار.. وأصبح اسمه الأستاذ الخنفشاري.. ولم يعد إلى المدرسة.. بل وترك المدينة بأسرها.. واختفى عن أنظار الناس.. وأطلقت كلمة خنفشاري على كل مدع..مرت الأيام.. وفي إحدى القنوات الفضائية.. وفي مقابلة قُدِّم لها وأعلن عنها بشكل جيد قبل إذاعتها.. ظهر الخنفشاري.. ولكن هذه المرة معه لقب (دكتور).. واجتمع أصدقاء الأمس محلقين إلى الشاشة ليستمعوا إلى حديثه.. وكان فعلاً حديثاً مفيداً.. وسأله المذيع: "قد بدأت تقرض الشعر وتتغنى به.. ما هو بيت الشعر الذي يستهويك؟"..
قال: "ويقبح بالفتى فعل التصابي ... وأقبح منه شيخ إن تفتى"..
"وما هي الحكمة التي تتمسك بها؟".. "الصدق قولاً وعملاً"..
قال: "وماذا تقول عن المجتمع الآن؟"..
قال: "ذهب الحسن والجمال من الناس .. ومات الذين كانوا صلاحاً
وبقي الأسمجون من كل صنف .. إن في الموت من أولئك راحة"..
سأله المذيع: "ومن هم الأسمجون؟".. أجابه: "لقد عملت مدرساً.. وإعلامياً.. وكاتباً.. وتاجراً.. وعقارياً.. وباحثاً.. ومحاسباً.. وسياسياً.. وفي الكثير من المهن الأخرى.. فلم أجد أحداً غير أسمجي.. كلهم أسمجون.. وليس بعيداً عنهم إلا أنا وأنت.. حتى أنت.. مشكوك فيك أيضاً!!"..
ثم سأله المذيع عن شهادة الدكتوراه، والبحث الذي حصل فيه على درجة الدكتواره.. فأخبره عن النبات النادر الوجود الذي يستعمل في بعض الأدوية، والذي أطلق عليه اسم خنفشار.. وأنه هو الذي أطلق هذا الاسم عليه حتى يكون قريباً ومتلائماً مع جميع اللغات.. وسيكون له أثر فعّال في صحة الإنسان.. وقد عدد درجات الدكتوراه الفخرية التي تحصل عليها من جامعات إفريقية في زيمبابوي وبوركينافاسو.. وفي النهاية كان يردد بأنه فخور بهذا البحث عن نبات الخنفشار.. واستبدل كلمة خنفشار بلقب أطلقه على نفسه.. الدكتور خنفشاري..
لم يبقَ غير نصف دقيقة من البرنامج.. سأله المذيع: "كم عدد الخنفشاريين حسب تقديركم؟"..
قال: "أصبحت أعدادهم في ازدياد.. وسوف تصدر إحصائية من الأمم المتحدة عن عددهم وأماكن تواجدهم .. لتستفيد الـمجتمعات منهم !!"..
« يا تُرى كم خنفشاري بيننا؟!!..»
أحمد حسن فتيحي
مواقع النشر (المفضلة)