[align=justify]
في كل ليلة عندما يحاط الكون برداء الليل الأسود, أجلس وحيداً أحكي قصتي للجدران, و أضمد بصداها جروحي, و بدفء زواياها أضع آلامي, و أناجي طيفاً يمر بخيالي يحمل معه أجمل ذكرياتي.. نعم طيف ابني يتمثل أمامي في كل مكان و في كل لحظة, أتخيل كلماته تحرق أذني و هو يصرخ:" أين أنت الآن يا أبي؟ فأنا لا أقوى على العيش وحيداً بين دوامات هذا العالم المخيف.. أين أنت يا أبي؟.."
كانت دموعه تتجمع في عينيه لتشكل نافذة تحمله الى الماضي الكئيب.. قبل خمس سنوات. فقد انفصل عن زوجته - التي تنتمي الى بلاد الغرب- عندما كان ابنه في الثالثة من عمره فرباه و رعاه و أنشأه أفضل تنشئة, و كان خلال فترة انفصاله عنها يأخذ ابنه إليها ليراها بين الحين و الآخر في مسقط رأسها لندن.
في أحد الأيام كنا نتجول في شوارع لندن الكئيبة بعد عودتنا من تلك الزيارة المشؤومة, كان ابني حينها لم يتجاوز الخامسة من عمره بعد. أمضينا وقتاً طويلاً في المرح و التسوق و البهجة, إلا أن سُحُب الحزن و الألم بدأت تتجمع لتفسد صفاء تلك الفرحة. كنت منشغلاً عنه في اختيار لعبة له, و عندما انتهيت من شرائها التفتّ نحوه لأقدم له الهدية, إلا أنني لم أجده بجانبي فبحثت عنه في أرجاء المحل إلا أنني لم أجد له أثراً, حينها بدأ الرعب يدب في نفسي, فخرجت مذعوراً أبحث عنه في الخارج إلا أن محاولتي باءت بالفشل. أخذت أركض كالمجنون أبحث عنه بين الوجوه و أنادي باسمه, إلا أن صدى صوتي كان وحده يجيبني ممزقاً أذني. استمر اختفاءه يومين و لم تُجْدِ محاولاتي أو محاولات الشرطة في إيجاده نفعاً. أمضيت في لندن أربع أشهر بعد اختفائه بحثاً عنه إلا أنني كنت كمن يبحث عن السحب في السماء في يوم مشمس. كان كقطعة الثلج التي ذابت و لم تُبْقِ أثراً خلفها إلا بقعة ماءٍ تظهر للمتعطش في الصحراء. عدت الى وطني و الحزن يقبض على قلبي و يعتصره بشدة.
مرت خمس سنوات على الحادث و مازال هناك أمل في نفسي بأن أعثر عليه. في كل ليلة عندما يطلع القمر مزيناً بالنجوم, أناجي نفسي و أتذكر عينيّ ابني التي لطالما كانتا أجمل لوحة رأيتها في حياتي.. أحاول أن أرسم صورته بعد أن كبر خمس سنوات في ذهني إلا أن صورة طفل في الخامسة من عمره بعينيه الزرقاوين و شعره البني و يديه الصغيرتين تتمثل أمامي. أحاول أن أنسى فأخرج متجولاً في الطرقات إلا أنني أراه في كل طفل مبتسم ممسكاً بيد والده. فأعود محاولاً أن أدفن نفسي في نوم عميق علّه يعزلني عن عالمي البائس و يمنّ عليّ بحلم غالي, إلا أن الحلم يتحول الى كابوس يعيد الحقيقة المرّة الى نفسي.
أين أنت يا بني؟ في أي بقعة من العالم أنت؟ من الذي انتزعك من بين يدي و حرمني منك؟ بني أتشعر برجفة الشوق إليك التي هزّت فؤادي؟ هل ترى عينيّ اللتين افتقدتا ابتسامتك العذبة و عينيك اللتين لطالما كانتا كبحر أزرق عميق يبعث الراحة في نفسي؟ أين أنت يا صغيري.. أين؟
ثم اعتمد رأسه بين كفيه و أجهش بالبكاء. لا بكاء طفل و إنما بكاء والدٍ على ولده, لأن بكاء الطفل كأمطار الصيف تنهمر بغزارة إلا أنها لا تبلل, أما بكاء الوالد فهي مثل مطر الخريف ينهمر بهدوء و لكن لا يجف[/align].
[align=center]
بقلم : الوردية [/align]
مواقع النشر (المفضلة)