بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عن عائشة رضي الله عنها : " أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشفع في حد من حدود الله تعالى ؟ ثم قام فاختطب ، ثم قال : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت بدها " .
رواه البخاري ومسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي وابن ماجه .
معاني المفردات :
أهمهم : جلب لهم القلق والهم .
المرأة : هي فاطمة بنت الأسود بن عبد الله الأسود .
المخزومية : نسبة إلى بني مخزوم قبيلة من قبائل قريش ، وإيها ينتسب خالد بن الوليد رضي الله عنه .
حب رسول الله : الحب بكسر الحاء المحبوب .
الشريف : ذو المكانة و الشرف .
وأيم الله : قسم بالذات المقدسة معناه واصل أيم الله " أيمن الله " جمع يمين حذف النون منه فصار " أيم الله " وهو من أنواع القسم .
وفي رواية : والذي نفسي بيده : أقسم بالله الذي يملك حياتي وموتي ، وكثيرا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم به .
توطئة بين يدي الحديث :
1- أن التشريعات الإسلامية في باب الحدود ليست قاسية ، ولا عارية من الرحمة كما يزعم الزاعمون ، فالتشريعات الإسلامية مبنية على أساس قويم من العلم والخبرة بالنفوس ، فالتشريع السماوي هو أعدل التشريعات وأوفاها بحاجات الناس وتوفير السعادتين : الدنيوية والآخروية ، ولا صلاح للبشرية إلا بتطبيقها تطبيفاً كليا ً والعمل بها .
وقد ثبت فشل القوانين الوضعية في إصلاح أحوال المجتمعات. إذن فادعاء الكفار والفساد يأن هذه العقوبات هي عقوبات صارمة لا تليق بالمجتمعات المتحضرة إنما هي نسيج خيال ولا تعتمد على منطق سليم . فهؤلاء يرحمون المجرم من المجتمع ولا يرحمون المجتمع من المجرم الذي سلب الناس امنهم وراحتهم واستقرارهم .
والأمر العجيب والغريب أن هؤلاء الغربيين الفاسدين الذين يرون في الحدود الإسلامية شدة وقسوة يفعلون ما تشيب له الرؤوس ، وتنخلع لهوله الأفئدة ، فحروبهم وأعمالهم الوحشية وقتلهم وذبحهم وتشريدهم للأبرياء واقع أمام أعيننا وتهديمهم للمنازل على من فيها لا يعتبر في نظرهم وحشية ، ولقد أحسن الشاعر حينما قال مصوراً منطق هؤلاء :
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وفتل شعب آمن مسألة فيها نظر
والحق أن بتر العضو الفاسد فيه رحمة لسائر الجسد حتى لا يسري المرض إليه . فأين تشريع هؤلاء من تشريع العليم الحكيم ؟
يسأل سائل فيقول : هل الحدود جوابر أم زواجر ؟
نقول : ذهب فريق من العلماء إلى أنها جوابر ، وذهب فريق آخر إلى أنها زواجر ، ورأي ثالث يقول إن الحدود جوابر وزواجر في آن واحد " وهو الراجح " .
فهي جوابر أي كفارات لأهلها .
وهي زواجر : أي عن المعاودة للمعاصي وعن مفارقتها ، والوقوع فيها . كما وأنها زواجر لمن يشاهدونها بالابتعاد عما يغضب الله .
شرح الجديث :
في هذا الحديث الشريف عرض رائع تبرزفيه شخصية الرسول الكريم في مشهد من أروع مشاهد العدل والمساواة والقوة والشدة والحزم في سبيل الانتصار للحق ، والتنفيذ للأمر الإلهي في إقامة الحد عند لزومه وإيقاع العقوبة على من يستحقها ، من غير شفقة ولا هوادة .
والرسول عليه السلام يضرب أروع الأمثلة في تطبيق مبدأ العدالة والمساواة دون تفريق بين قوي وضعيف ، وكبير وصغير ، وشريف ووضيع فالكل أمام الشرع سواء ، لا يراعى الغني لغناه ، ولا يحابى الشريف لشرفه ومنزلته ، فالناس سواسية كأسنان المشط ، وهكذا يقوم الرسول عليه الصلاة والسلام بدك قواعد الجاهلية من أساسها ، ويقتلها من جذورها طي يقرر المبادئ ابسماوية العادلة ، ويلغي المبادئ الأرضية الفاسدة ويرفع قانون السماء العادل عاليا كي يسير في ظله الجميع بأمان وسلام كما قال تعالى : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . وقوله عليه الصلاة والسلام : " يا أيها الناس : ألا إن ربكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا عجمي على عربي ، ولا أسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى " .
فالإسلام كدين سماوي منذ أن أشرقت شمسه وأضاءت الدنيا بعد ظلامها حرص على استتباب الأمن ، ونشر أسباب الوقاية من الإجرام والطغيان ، قبل إصدار قوانينه الخاصة بالعقاب وذلك بالأمر " بالعمل " ليشتغل كل إنسان بعمله ، فلا يبقى هناك مجال للتفكير في العدوان الذي نتج عن البطالة ، كما كفل الإسلام للناس جميعاً حقوقهم ، فقرر العدل والتواصي بالحق ، وقرر مساعدة المحتاجين الذين لا يجدون عملاً ، ولا يستطيعون العمل ، فأشرقت من تعاليم الإسلام أسمى مبادئ الإنسانية الرحيمة في التضامن الاجتماعي . بعد ذلك لم يبق للإنسان من عذر في الاعتداء ، فإذا تمت كفالة حقوقه على هذا النحو السابق ثم اعتدى ، ومد يده ، كان لابد من فحص حالته حتى لا تكون هناك شبهة ، فإذا ما ثبتت إدانته ، فهذه دلالة على أنه قد عميت أو تعامت بصيرته ، وأنه قد أصبح عضواً فاسداً في المجتمع فلا بد من إلحاق العقوبة به بصورة تجعل المسلمين يبادرون إلى إقامة شريعة لله وتنفيذ حدوده التي شرعها منها :
1- " أقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم "
2- " يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة ، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين عاماً " .
وها هي امرأة مخزومية شريفة في قومها ، بارزة في مكانتها في بني مخزوم تؤخذ بجريمة السرقة ، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم الحد عليها ويقطع يدها ، فذهلت قريش وداخلها الهم وساورها القلق كيف تقطع يد امرأة من أشراف قومها ؟ والتمسوا المسالك والحيل لعلهم يحولون دون ذلك ، ووجدوا أن يكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر ، ولكن من يجرؤ على مواجهته بذلك ؟ وأخيراً اهتدوا إلى أسامة بن زيد حبيب الرسول ، والمقرب إليه ، الذي يسمع منه ويستجيب لطلبه ، فهو الذي يستطيع أن يكلمه في أمرها ، وأن يشفع لها في درء الحد عنها ، ظنا منهم أن الرسول لن يرد شفاعنه ، ورجاءه فكلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت فما كان من النبي إلا أن أظهر الغضب في وجهه وتغير لونه واحمرت عيناه ثم قال لأسامة : أتشفع في حد من حدود الله ؟! أتسألني أن أرفعه عمن استحقه ، يقول ذلك منكراًً عليه ، مستعظماً لعمله ، ثم قام في الناس خطيبا ً لهم مبيناً أن سبب هلاك الأمم من قبلهم هو الخروج عن العدل بتركهم الشريف وإقامتهم الحد على الضعيف .
وهكذا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يرفض رفضاً باتاً تقسيم الناس إلى سادة وعبيد ، وأشراف وضعفاء ، وعظيم وحقير ، كما أنه عليه الصلاة والسلام يرسي قاعدة أساسية في المساواة على ضوءها تحل مشكلة المحسوبية والتفرقة العنصرية بتطبيق عمل حازم لا تعرف الدنيا له مثيلاً ، فالإسلام كان له الفضل في إرساء قواعد الحق والعدل بدون تمييز أو محاباة كما قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء بالله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً " . وهكذا يغضب الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الشفاعة ويقسم بقوله : " والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " وحاشا للسيدة عائشة أن تسرق أو تفعل ما يوجب عليها الحد ، ولكنه مثل من نور يضرب به الرسول كي يبقى مثالاُ خالداً على مر الأيام والعصور مظهراً عدالة الإسلام وأنه لا يعرف المحسوبية .
أثر إقامة الحدود :
إن الحدود شرعت لحماية الدين والناس والنفس والمال والعرض فهي الوسيلة الرادعة التي في ظلها يأمن الناس ، ويرجع المجرمون عن أجرامهم حين يعلمون أنهم لو ارتكبوا فاحشة أو اعتدوا على حق ما أقيمت عليهم الحدود ، فينزجر كل باغ ، ويرجع عن بغيه خوفاً من الحد ، هذا بالإضاقة إلى أن الحد لا يقام إلا من بعد بيان أن ذلك الباغي نفذت كل الوسائل معه وأصبح يشكل خطراً داهما ً على المجتمع ، فلا بد من استئصال شره وخطره لأنه إن لم نأخذ على يد الجاني يعم الهلاك إن أخذنا على يديه نجا الجميع فقد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا السفينة من نصيبنا خرقا ولم نؤخذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" .
ما يرشد إليه الحديث :
1- عدم جواز التشفع لمستحق الحد ولو كان ذا قربى .
2- إظهار عدالة الإسلام بأن الناس سواسية كأسنان المشط .
3- يجب على الحاكم إقامة الحدود كما أمر الله ورسوله .
4- ترك العدل وإهمال شرع الله سبب لهلاك الأمم
5- لا محسوبية في الإسلام
6- أنه لا يصح أن يعين الإنسان بجاهه وماله من يستحق العقوبة .
7- أن التفريق بين الناس في الجزاء ظلم ومهلكة .
تم بحمد الله عز وجل
مواقع النشر (المفضلة)