الخصائص العامة للإسلام
الخصائص: جمع خصيصة، وخَصَّه بالشيء، يَخُصُّهُ خصًّا.. يقال: اختص فلان للأمر وتخصص له: إذا انفرد.
وقال الراغب: التخصيص والاختصاص والخصوصية والتخصص: تفرد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة، وذلك خلاف العموم. اهـ.
فالمراد هنا: الميزات والصفات التي ينفرد بها دين الإسلام عن غيره من الديانات والمناهج الأخرى.
وأما الإسلام: فهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى للعالمين وأخبر سبحانه أنه لا يقبل من أحدٍ سواه، فقال جلَّ وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وقد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام وفيه أركان الإسلام حيث سأله فقَالَ: يَا مُحَمّدُ! أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ؟. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّداً رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَتُقِيمَ الصّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)) قَالَ: صَدَقْتَ.
ولا شكَّ أن دين الإسلام هو الدين الحق المنزل من عند الله تعالى، وهو منهج الحياة المتكامل القائم على ما جاء في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وما ثبت من سنة نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، وذلك خلافاً لما سواه من المناهج والأديان الأخرى، ولعل عرضًا عامًّا لتلكم المناهج القائمة بين الناس على هذه البسيطة يجلي الصورة ويوضحها.
إن النظم القائمة كلها – عدا دين الله تعالى الإسلام – لا تخرج عن أحد هذه الأصناف الثلاثة:
الأول: منهج ديني محرَّف، فهو إلهيٌّ في الأصل، وله كتاب سماوي من عند الله عز وجل، ولكن دخله التحريف والتبديل، والحذف والزيادة، فاختلط فيه كلام الله تعالى بكلام البشر وأهوائهم، ومثاله: اليهودية والنصرانية.
الثاني: منهج ديني بشري، فهو ديني لأن فيه القيام بأداء طقوس تعبدٍ وتألهٍ يؤديها الإنسان لمألوه أو لعدد من الآلهة؛ من بشر وحجر ومال وهوى وشهوة وغير ذلك، وقد لا يكون فيها صلاح حال هذا الإنسان ولا تنظيم حياته؛ وإنما طقوس غامضة أو مرعبة.
وهو دين بشري لأنه من صنع البشر، فليس له أصل من عند الله تعالى، ومن أمثلة ذلك: الهندوسية، البوذية، عبادة الشيطان، عبادة الأصنام، وغيرها.
الثالث: منهج مدني بشري خالص. فهو مدني لأنه نظام حياة دنيوية؛ يُعنى بتنظيم حياة الإنسان الدنيوية وتحقيق مصالحه وفق ضوابط وقيود دنيوية، وبشري لأن مصدره البشر، أفرادًا أو جماعات، فهو نتاج تفكير الإنسان واجتهاده وتنظيره، ومن أمثلة ذلك: العلمانية ، الشيوعية، الرأسمالية، الوجودية، وغيرها كثير.
هذه هي المناهج القائمة بين يدي البشر على وجه الأرض، ويبقى الإسلام وحده بصفائه ونقائه وسموه وكماله من بين سائر المناهج والأديان هو القادر على البقاء في خضم الصراعات الثقافية والفكرية والحضارية؛ لأنه يمتلك خصائص تؤهله لذلك، ويكفي وعد الله العليم الخبير القوي القادر بأن العاقبة للمتقين، يقول جل وعلا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة 32-33].
وهذه حقيقة ظاهرة تنبه لها بعض رجالات الغرب، ونطقت بها ألسنتهم - والحق ما شهدت به الأعداء.
يقول الكاتب الإنجليزي ((هيلير بيلوك)): (لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين، وتتماسك أطرافها تماسكًا قويًّا، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام، لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب؛ بل ستكون أيضًا خطرًا على أعدائها).
ويقول ((باول شتمز)): ((سيعيد التاريخ نفسه مبتدئًا من الشرق، عودًا على بدء، من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في الصدر الأول للإسلام، وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية وستُثبت هذه القوة وجودها، إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها وستقلب موازين القوى؛ لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها من تيارات القوى العالمية)).
الخصيصة الأولى:
ديـن إلهـي:
الإسلام دين الله عزَّ وجلَّ الذي ارتضاه للعالمين، وهذه الخصيصة أعظم خصائصه وأُسُّها؛ فما سواها من الخصائص نتيجة لها وثمرة من ثمارها.
دين أنزله الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتكفل بحفظه ونصره وإظهاره على الدين كله.
دين من عند الله تعالى مصدره القرآن العظيم والسنة المطهرة الصحيحة، القرآن كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وقد حفظه الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
والسنة المصدر الثاني وحي من عند الله تعالى كما قال جل وعلا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].
وبيَّن الله تعالى مهمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهي إبلاغ دين الله إلى الناس، فقال جل وعلا: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [العنكبوت: 18، النور: 54].
وقال جل وعلا: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى: 48] فهو صلى الله عليه وسلم واسطة في إبلاغ شريعة الله تعالى من الله سبحانه إلى خلقه وبيانها لهم.
والله جل وعلا يقول في آية محكمة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِْيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُْمُورُ} [الشورى: 52، 53].
وجانب آخر من إلهية هذا الدين؛ فكما أن مصدره من عند الله تعالى فكذلك غايته وهدفه تحقيق مرضاة الله عزَّ وجلَّ والقيام بعبادته، فهذه الغاية التي من أجلها خلق الله الجن والإنس، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ *إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 – 58].
ولهذه الخصيصة ثمرات منها:
1- أنه يبين الحقائق الكبرى التي لا يستطيع الإنسان معرفتها إلا بالوحي المعصوم؛ كمعرفة الخالق عز وجل، وصفاته وأمره ونهيه، وبداية الخليقة والغاية منخلق الإنسان.
2- أنه دين من عند الله تعالى سالمٌ من النقص والتعارض والهوى والحيف والظلم، فهو شرع الله العليم الخبير سبحانه، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول الله تعالى مبيناً عظمة دينه واتفاق تشريعاته: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82 ].
3- موافقته للعلم الصحيح، والعقل السليم، فهو دين يعتني بالعلم ويمجِّد العلماء، ويحترم العقل ويخاطب عقول العقلاء. وقد بين جل وعلا مكانة العلم والعقل ومنزلة أهلهما فقال سبحانه: {وَتِلْكَ الأَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [ العنكبوت: 43].
4- تحرير الإنسان من عبودية الإنسان والهوى؛ فيخلص في عبادته لله رب العالمين سبحانه وتعالى، ويعمل وفق شرعه وتوجيهه وأمره ونهيه.
عندما نزل قول الله تعالى عن اليهود والنصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. سمع عدي بن حاتم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أمَا إِنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلّوهُ، وَإِذَا حَرّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرّمُوهُ).
وكما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه بين يدي رستم قائد جيوش كسرى: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
5- تلبية مطالب النفس البشرية، وذلك بتشريع ما يصلح لها وما يُصلحها، فهو دين الله الذي خلق الإنسان ويعلم ما يتناسب مع هذه النفس البشرية: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
الخصيصة الثانية:
ديـن شامـل:
شرع الله سبحانه وتعالى للأمة دينًا شاملاً في أحكامه وتشريعاته للثقلين من الجن والإنس، ولكل تصرفاتهم وعلاقاتهم، حيثما كانوا؛ فوق أي أرض وتحت كل سماء. يقول المولى جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فهو (دين ودولة، وهو عقيدة وعبادة، وهو حكم وقضاء، وشريعة وقانون، ومصحف وسيف، وجهاد ودعوة، وسياسة واقتصاد، وعلم وخلق وتوجيه).
وتتضح شمولية الإسلام في صور منها:
1- أنه دينٌ شامل للثقلين: الجن والإنس. فأما الإنس فظاهر في نصوص القرآن العظيم، يقول الله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. ويقول سبحانه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
وأما الجن فيقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، وهذا موقف من استماعهم لخبر نبينا ومسارعتهم للتنفيذ والدعوة، وتحملهم النذارة والبشارة، يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ *يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29-32].
2- أنه دين شاملٌ للزمان كله؛ من بعثة نبينا محمد إلى قيام الساعة.
3- دينٌ شاملٌ للمكان؛ فليس خاصًّا بإقليم دون آخر، ولا بأمة دون أخرى؛ شمولية مكانية؛ يطالب بهذا الدين كل البشر في أي مكان ومن أي أمة، ويتأكد بها أن المسلم مطالب بتنفيذ أحكام دين الله تعالى في كل مكان.
4- دينٌ شاملٌ للإنسان في مراحل حياته المختلفة، وفي علاقاته المتعددة، يوجهها إلى ما فيه صلاحه ورفعته وحفظه وهدايته.
5- دين شامل لحركة الكون والحياة، يراعيها في أحكامه وتشريعاته، فلا تنفك الأحكام الشرعية عن حركة الكون بأفلاكه وأجرامه، وليله ونهاره، وحرِّه وقرِّه، فهناك عبادات مرتبطة بحركة الشمس؛ كالصلوات الخمس والسحور والإفطار، وعبادات مرتبطة بدورة القمر؛ كالصيام والحج وغير ذلك، فيراعي ذلك في بيان مهمة الإنسان تجاهها ودوره نحوها، وتوجيهه إلى ما فيه عمارتها وصلاحها، فالكون والخلق كله لله سبحانه وتعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].
6- دين شامل في توجيه نظر الإنسان إلى الدنيا والآخرة فهما داران متكاملتان، للإنسان في كلٍّ منهما نصيب، فالدنيا مزرعة للآخرة، يزرع فيها ما يرغب جنيه في الآخرة. يقول الله جل وعلا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآْخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَْرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
وبهذا يتأكد للمسلم أنه ما من شأن من شؤونه ولا تصرف من تصرفاته إلا ولله تعالى فيه حكم وقضاء، وأن دين الإسلام منهج حياة مُهَيمن على كل تصرفات الإنسان، فيُرَدُّ بذلك على كلِّ من يعترض على نظرة الإسلام الشمولية لشؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية وغيرها؛ ممن يرددون مقالات مستوردة؛ كقولهم: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وقولهم: (لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة)، ويقال لهم بأن لله كل أمر ونهي وتدبير وحكم وقضاء، {قُلْ إِنَّ الأَْمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، ويقول جل وعلا: {لِلَّهِ الأَْمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4].
وقد أنكر الإسلام أشد الإنكار على من يأخذ من الدين ما يهوى، ويدع ما لا يوافق هواه، وينسى أن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150، 151].
الخصيصة الثالثة:
ديـن الفطـرة:
والمراد بالفطرة الابتداء والاختراع، والمعنى في قوله: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ) أنه يولد على نوع من الجِبِلَّة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل؛ لآفةٍ من آفات البشر والتقليد.
فالإسلام هو الدين الذي جبل الله الناسَ عليه وهيأهم لقبوله والعمل به. فلا يتعارض مع طبيعة الإنسان ولا يتضاد مع رغباته؛ بل يتفق معها ويوجهها ويرشدها إلى الأصح والأسلم، فلو تجرد الإنسان من الهوى والعناد، لاعترف بدين الإسلام وأنه الدين الحق.. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاّ يُولَدُ عَلَىَ الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوّدَانِهِ وَيُنَصّرَانِهِ وَيُمَجّسَانِهِ. كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ.هَلْ تُحِسّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟). ثُمّ يَقُولُ أَبُوهُرَيْرَةَ: وَاقْرَأوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
فالله جل وعلا خلق الناس حنفاء كلهم، ثم اجتالتهم شياطين الجن والإنس فصرفتهم عن الحق والهدى والفطرة السليمة، ففي حديث عياض ابن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ((أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي يَوْمِي هَذَا..وفيه: وَإِنّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلّهُمْ، وَإِنّهُمْ أَتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَإِنّ الله نَظَرَ إِلَىَ أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ؛ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))... الحديث.
الخصيصة الرابعة:
الوسـطية:
وهي العدل والفضل والخيرية والتوازن، فالإسلام دين الوسط في كل الأمور عقيدة وشريعة وأخلاقًا، وهو وسط بين غلو الديانات الأخرى وتفريطها، وهو وسط يجمع بين مطالب الروح والجسد والفرد والمجتمع، فلا يُغَلِّب جانبًا على آخر إلا بما يتناسب مع صلاح الروح وسلامة الجسد وفلاح الفرد وإصلاح المجتمع.
وكما يأمر بالعبادة والعمل للدار الآخرة يوجِّه إلى السعي في طلب الرزق والمعاش في الدنيا، ويعتبر ذلك عبادة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآْخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَْرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
إن أمة الإسلام أمة وسط، شهد لها بذلك خالقها سبحانه وتعالى ورتب على ذلك مكانتها ومنزلتها ودورها في هذا الكون، وبين الأمم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
فقوله سبحانه (وسطًا) أي عدلاً، ووسط الشيء أو أوسطه بمعنى أفضله وأعدله وخياره. يقول الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: (إنما وصفهم الله - تعالى ذكره - بأنهم وسط لتوسطهم في الدين).
ونماذج وسطية الإسلام كثيرة، وليس المجال لذكرها ولكن نعرض لبعض الصور التي تدل على شيء من ذلك:
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا، كأنهم تقالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَالله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
2- ورأى النبي صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدودًا بين ساريتين فسأل عنه، فأخبر أنه لزينب تتمسك به إذا كسلت عن الصلاة، فأمر صلى الله عليه وسلم بإزالته وقال: (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ).
3- وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يَا عَبْدَ الله، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟) قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: (فَلاَ تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا).
وحينما نذكر وسطية الإسلام من خلال هذه الأحاديث والمواقف وغيرها، يجب علينا ألاَّ ننسى ما يقابل ذلك وهو التفريط، فكما ذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الغلو، وطلب الزيادة في العمل تعبدًا لله عزَّ وجلَّ، فإن ذلك يعني التنبه للمقابل وهو الوقوع في التفريط والترك لشيء مما شرع الله تعالى؛ كترك الفرائض ومواقعة الذنوب والاستهانة بالمعاصي: فكلا طرفي الأمر خطأ ومخالف لدين الله تعالى؛ الزيادة غلو في دين الله تعالى، والترك تقصير في حق المولى جل وعلا.
وشريعة الله تعالى هي الوسط القائم على أداء ما شرع الله تعالى من غير تفريط ولا إفراط.
الخصيصة الخامسة:
ديـن العـلم:
للعلم في الإسلام مكانة سامية، ويكفي دلالة على ذلك أن أول كلمة نزلت من عند الله تعالى على نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، هي قوله تعالى: {اقْرَأْ}.
دين يحترم العلم ويجلُّ العلماء، ويرى أن العلم طريق للخشية والخضوع والانقياد لأمر الله تعالى كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
دين يرفع من شأن العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَْلْبَابِ} [الزمر: 9].
وآيات القرآن العظيم توجِّه إلى التفكر والتدبر والنظر، وإعمال العقل واللُّبِ في الوصول إلى الحق والصواب.
ولهذا ختم الله تعالى كثيرًا من الآيات بالأمر بذلك والحث عليه، كما في قوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وقد أرشد الله تعالى في القرآن العظيم إلى أن الكون بحقائقه يتفق مع ما جاء في القرآن العظيم، وأن العلم الصادق يزيد الإيمان في النفس، فقال جل وعلا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآْفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
هذا هو العلم وهذا شيء من موقف الإسلام منه، مطلب العلم المادي الذي تحتاجه الأمة وتستغني به عن سواها من الأمم الكافرة واجب من الواجبات، وذلك لما يترتب عليه من استقلال الأمة وغلبتها وتمكنها من الصناعة والإنتاج.
والإنسان مهما بلغ في درجات العلم المادي البحت فإنه لا يزال قاصرًا عن أن يحيط علمًا بكل شيء، فالله تعالى يخبر عن ذلك فيقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
وقد أثر ذلك تأثيرًا حضاريًّا قويًّا في الأمة، وكان ذلك بدافع من الدين الإسلامي الذي شجع العلم، وقدر العلماء ودعا إلى التأمل والتفكر والتجريب، وأوروبا مدينة لهم بذلك).
ولهذا فهناك فرق شاسع بين موقف الإسلام من العلم وخاصة العلوم التجريبية وموقف الكنيسة من ذلك، خاصة ما كان في أوربا قبل الثورة الفرنسية، وسيطرة الكنيسة ورجالاتها على عقول الناس وتفكيرهم، وتحريمها كل محاولة للتحرر من العبودية لرجال الكنيسة. وما نتج عن ذلك من الثورة على الكنيسة. بينما الإسلام قام أصلاً على العلم والتوجيه إليه والتحاكم إليه، فلا يصح عقلاً ولا واقعًا إسقاط أخطاء الكنيسة الباطلة على دين الإسلام، وادعاء أن الدين الإسلامي عائق عن العلم ومانع من التقدم التقني والصناعي. وإن كان ذلك منهاج لمن لا معرفة عنده، أو من كان قصده غير الحق.
وإن المطّلع على قرارات المجامع العلمية - وخاصة ما يختص منها بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة - وما توصل إليه العلماء من حقائق علمية تتطابق مع ما جاء به الخبر في دين الله تعالى، يرى إعجاز دين الإسلام؛ فيجد في ذلك الطمأنينة والثقة والأنس بأن الله تعالى أنعم عليه بالهداية للإسلام، وأكرمه باتباع سيرة خير الأنام، محمد عليه الصلاة والسلام.
ولنعرض لذكر أمثلة مختصرة على الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة:
أعلن الطبيب الفرنسي (موريس بوكاي) إسلامه بعد دراسة طويلة للقرآن، وألف كتابه: (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم)، وقد هاله كثرة الحقائق العلمية في القرآن.
ومن نماذج ذلك الإعجاز:
* أسلم بعض الفلكيين لما سمع قول الله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76] ، وقال تصديقًا لهذه الآية: حقًّا إننا لا نرى إلا مواقعها القديمة التي لم يصلنا ضَوْءُها إلى الآن لبعدها عنا وهي تحركت عنها الآن، وأن التشكيلة المرئية إنما هي صورة لمواقعها.
* إخبار الله بضيق التنفس عند الصعود إلى أعلى ((الضغط الجوي))، يقول سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِْسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ...} [الأنعام: 125]، فهذه حقيقة علمية حديثة.
* أخبر الله عن موجين فيه: الموج الذي نراه، وموج آخر داخل البحار لم يكتشفه العلماء إلا حديثًا، فقد قال سبحانه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. ولما سمع بحار إنجليزي بهذه الآية سأل هل ركب محمد البحر؟ فلما قيل له: لا. آمن على الفور، وقال: إن ما ذكره محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو من عند الله، وليس من تلقاء نفسه.
* ومما ذكره الله عن البحر: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53] ، فلا تختلط مياه البحار ولا تطغى على مياه الأنهار مع أنها تلتقي، بل جعل الله حاجزًا طبيعيًّا يمنع انتقال الملح إلى مياه الأنهار حتى في حالات المد.
* مراحل خلق الإنسان بدءًا بأصله وهو من تراب ثم أحوال الجنين في بطن أمه، قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 – 14].
وجاء الطب الحديث بما يوافق تلك الحقائق التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا، حتى أسلم عدد من علماء الأجنة.
* أخبر الله سبحانه عن بداية الأرض وأنها كانت ملتصقة مع الشمس ثم انفصلا، وأن الماء أصل كل حياة، ودور الجبال في ثبات الأرض، وحفظ توازنها، وجريان الشمس والقمر كلٌّ في فلك يخصه: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَْرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 30 – 33].
فهذه آيات الله تعالى مسطورة في كتابه العظيم، ومبثوثة في سنة نبيه الكريم، وشاهدة صدق في واقع الكون والحياة، يهدي بها الله عباده إلى وحدانيته وألوهيته وأسمائه وصفاته جلَّ وعلا.
الخصيصة السادسة:
ديـن الأخـلاق:
الإسلام دين الأخلاق، فما من حُكم شرعي في دين الإسلام إلا ويلبِّي مقصدًا خُلُقيًّا حميدًا للإنسان، ولهذا كان قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ)، وقوله: (إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إليَّ وأقْرَبِكُمْ مِنّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ؛ أحاسِنُكُمْ أخْلاقاً، وَإنَّ أبْغَضَكُمْ إليَّ وأبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيامَةِ؛ الثَّرْثارُونَ وَالمُتَشَدّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ.قالوا :يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدّقون، فما المتفيهقون؟ قال: المُتَكَبِّرُون). فالثرثرة والتشدق والتفيهق صفات ذميمة لما تتضمنه من معنى العجب بالنفس والرد للحق والتعالي على الخلق.
وفي الحديث: (إِنّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقاً).
ثم إن لازم من يتمسك بالإسلام أن يكون حسن السلوك، سامي الخلق، شريف المعاملة، ولقد كان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وسلف الأمة، أعظم مثال على ذلك المجتمع الأخلاقي المثالي.
والله جل وعلا حين أثنى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كان ثناؤه سبحانه بأبلغ وأرفع عبارة في قوله جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وحين يقرأ المسلم القرآن العظيم أو يتتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن الله تعالى يؤكد على صفات أهل الإيمان، بأنها الصفات الفاضلة، ويفصِّل في ذكرها تفصيلاً يُبين سموَّ أخلاق هذا الدين ومقاصده، في صبغ الناس بهذه الصبغة الأخلاقية الإلهية السامية، يقول الله جل جلاله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 1 – 6].
وقال جل وعلا عن عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَْرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلـهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 63 - 68].
وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يؤكد على هذه الحقيقة ويجعلها وصفًا رئيسًا من صفات المؤمنين: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ؛ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ؛ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ). ويقول صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِه).
وهو دين الصدق؛ كما قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وهو دين الصبر؛ كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وهو دين التسامح والعفو؛ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
وهو دين التعاون والنصرة؛ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وهو دين الوفاء؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة التي تحث على الأخلاق الفاضلة.
وتتجلى هذه الخصيصة في أحكام هذا الدين وتفصيلات شريعة الله تعالى، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة فيها التربية على سخاء النفس وبذلها، وفي الصوم تلمس أحوال الفقراء والشعور بحاجتهم، وفي الحج نهيٌ عن الرفث والفسوق والجدال والصخب، وتدريب النفس على الصبر والإيثار، والمعاملات بين الناس تقوم على الوضوح والمصلحة المتبادلة، وتذم الأحكام الشرعية الأنانية والمكر والغش والخداع والاحتكار وكل ما فيه جهالة وغرر.
ثم إن من دلائل أخلاقية الإسلام، أن المسلم وهو في أقسى المواقف وأشد الأوقات في الحرب وحين يُطرب ضجيجُ السلاح أسماعَ الأبطال، وحين تُحمل الأرواح على الأَكف، وحين يتقابل المسلم مع الكافر في الحرب، تتجلى أخلاقية الإسلام، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
ويقول جل وعلا: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
ولقد كان من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصاياه لمن يبعثهم من جند الإسلام، ما فيه سمو أخلاق هذا الدين؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: (اغْزُوا بِاسْمِ الله، فِي سَبِيلِ الله، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بالله، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيداً..) الحديث.
فهذه لمحة سريعة لهذه الخصيصة التي يمتاز بها دين الإسلام عما سواه من المناهج الأخرى.
الدكتور إبراهيم بن حماد بن سلطان الريس
مواقع النشر (المفضلة)