الآية أولاً:
يتلو المسلم قولَ الله - تبارك وتعالى -: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] وهو لا يعرف معناها غالبًا، وتفسيرُها: لقدِ اصطفَيناهُمْ - أي: الأنبياء - وجعَلناهُمْ خالِصينَ لنا، بسبَبِ خَصلَةٍ جَليلَةٍ فيهم، هي جَعلُهمُ الدَّارَ الآخِرَةَ همَّهمُ الأوَّل، وتذَكُّرُهمْ لها دائمًا.
وإذا عرَفنا أن المؤمنين أيضًا يذكُرون اليوم الآخِر، علِمنا أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لهم شأنٌ أكبرُ وأعظم منهم في ذلك، وهو ديمومة تذكُّرهم الآخرة، وعمقُ إيمانهم بها، ومعرفتهم بأهوال القيامة، عند الحشر والحساب، وتبدُّل الأرض والسماء، ويوم تترك الأمُّ وليدَها، وتضع الحاملُ حملَها من الخوف والهلع، وعند تطايُر الصحف، وكل ينتظر ما يقضي الله به، ثم تصوُّرهم الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، تصورًا كأنه واقع أمام أعينهم.
كل هذا وغيره يتذكَّره الأنبياء ولا يغيب عن بالهم، فهذه صفة خاصة بهم، ويشترك المؤمنون معهم في هذه الصفة، كما يشتركون معهم في صفات أو أعمال أخرى يؤدُّونها؛ فهم يصلُّون أيضًا مثلهم، ويخشون الله كذلك، ولكن بفارقٍ كبير بينهما في كيفية ذلك.
وعندما أراد بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أن يزيدوا من عباداتهم وتنسُّكهم وينقطعوا عن الدنيا بذلك، نبَّههم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أن هذا ليس من أدب الإسلام، ولا هو من طبيعته، وإن بدتْ فيه عبادة أكثر، ثم قال لهم معلِّمًا ومرشدًا: ((أمَا واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رغِب عن سنَّتي فليس مني))؛ كما رواه البخاري وغيره.
فالأمر يتعلَّق بالالتزام بآداب الدين ومعرفة حدوده، وأكثرُ من يعرف هذا هم العلماء، الذين يعلمون فرائض الدين وسننه وآدابه كما بيَّنها اللهُ ورسوله؛ ولذلك فهم الذين يخشون ربَّهم حقيقة، وبتصور إيماني وعلمي مبنيٍّ على أدلة وشواهدَ؛ يقول الله – تعالى -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وكلما ازدادوا علمًا، ازدادوا خشية، وازدادوا قربًا من الأنبياء، فهم ورثتهم في العلم والتربية؛ هذا إذا كان علمُهم لله، وليس للدنيا والسلطان.
الأنبياء وذكرى الدار:
وإن تذكُّر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - اليومَ الآخرَ يعود إلى أنه اليوم الأكبر، الذي يجب أن تتَّجه الأنظارُ كلها إليه، وأن يُحسبَ حسابه أكثر من حساب كل شيء في الدنيا، أكثر من المال، ومن الولد، وأكثر من الحياة وما فيها كلها.
وهذا ما لا يقدر عليه إلا هم - عليهم الصلاة والسلام - أما الآخرون، فليس في كل وقت، ولو كانوا كذلك لوصلوا إلى درجة الملائكة، أو قريبًا منها، وهو معنى ما جاء في حادثة متميزة، حفظتْها لنا السيرة النبوية، وكتب الأحاديث، وقصص الصحابة - رضوان الله عليهم - فقد روى مسلم في صحيحه عن حنظلة الأسيدي (وكان من كتَّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم) قال: لقيَني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلتُ: نافَقَ حنظلةُ، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكونُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكِّرنا بالنارِ والجنَّة، حتى كأنَّا رأيُ العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافَسْنا الأزواج والأولادَ والضَّيعات، فنَسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقَى مثلَ هذا، فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلْنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: نافقَ حنظلةُ يا رسول الله! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟))
قلت: يا رسولَ الله، نكونُ عندكَ، تذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأيُ عين، فإذا خرَجنا من عندكَ عافَسْنا الأزواج والأولاد والضَّيعات، نَسينا كثيرًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، إنْ لو تدومونَ على ما تكونونَ عندي، وفي الذِّكر، لصافحتكمُ الملائكةُ على فُرُشِكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلةُ، ساعةً وساعة)) ثلاثَ مرَّات.
نعم، إن الإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يكونَ ملائكيًّا دائمًا؛ فهو من طين الدنيا، الذي له خصائصُ ومميزاتٌ، والدنيا تحتاج إلى عمار، والإنسان يحتاج إلى مال، وإلى تعلُّم أشياء كثيرة تساعده للعيش في الدنيا، لنفسه، ولأولاده، وأهله، ولآخرين، وكلُّ هذا يحتاج إلى وقت، وإلى الالتهاء بالدنيا.
والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يعملون كذلك، ولكنهم متوكِّلون على الله حقَّ التوكل، ولا يطغى همُّ عملهم على دعوتهم وتبليغهم، ولا ينشغلون به عن وظيفتهم الأساسية، فهم يعملون، ويذكرون الله، ويتذكَّرون الآخرة، ويعلَمون الغاية من كل عمل، ويضربون الأمثال للناس من واقع معيشتهم وأحوالهم؛ لتتعلق قلوبهم بالآخرة؛ حتى لا ينسوها في خضمِّ أعمالهم.
وإن ارتباطهم بالآخرة يبدو من خلال حياتهم الخاصة والعامة؛ فهم يحبُّون العبادة، ويقيمون الليل، ورسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - قام حتى "تورَّمت قدماه" من العبادة؛ شكرًا لربِّ العزَّة الذي أكرمه بالنبوة، كما في البخاري وغيره.
ولشوقه إلى الآخرة؛ اختار جوار ربه؛ ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي رواه عنها البخاري - رحمه الله - في صحيحه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صحيح يقول: ((إنه لم يُقبضْ نبيٌّ قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا، أو يخيَّر))، فلما اشتكى وحضره القبضُ، ورأسه على فخذ عائشة، غُشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى))، فقلت: إذًا لا يجاورنا".
تذكير وتوجيه:
وكان - عليه الصلاة والسلام - إذا اجتمع بأصحابه ذكَّرهم بالآخرة، أو نادى فخطب ووعظ، وجاء في حديث رواه الترمذي وصححه: "وعظَنا رسولُ الله بعد صلاة الغداةِ موعظةً بليغة، ذرفتْ منها العيون، ووجلتْ منها القلوب".
وقد يبدو طبيعيًّا أن يتجشَّأ رجل في مجلس، ولا يدعو هذا إلى التفاتٍ إليه، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربط هذا الأمر العاديَّ بالآخرة؛ تعليمًا وتذكيرًا لأصحابه، وتربية لهم، فقال - عليه الصلاة والسلام - لمن تجشَّأ: "أقصِرْ من جُشائك؛ فإن أطول الناسِ جوعًا يومَ القيامةِ أكثرهم شِبعًا في الدنيا"؛ رواه ابن أبي الدنيا والحاكم وغيرهما، وأورده في "السلسلة الصحيحة" (343).
وإنها لتربية مؤثِّرة وناجحة؛ بل هي أبلغ أنواع التربية تأثيرًا؛ أعني: التذكيرَ بالثواب والعقاب الأخروي، الذي يصدِّق به وينتهي عنده المؤمنون الصادقون، ويرجون بذلك رضًا وفوزًا، وقد ورد في رواية ابن أبي الدنيا: أن ذلك الرجل الذي تجشَّأ - وهو أبو جحيفة، رضي الله عنه - قال: فما شبعتُ منذ ثلاثين سنة.
إنها الطاعة، وإنه الإيمان العميق، وإنها التربية والتزكية، وإنه الالتزام بالدينِ الحقِّ، وكذا الأمر في حديث مسلم، عندما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر مِن بيوتهم مِن شدَّة الجوع، ثم شبعوا ورووا عند أنصاريٍّ كريم، لم يترك الأمرَ يمرُّ هكذا دون تذكيرٍ واعتبار؛ بل ذكَّرهما بالآخرة، وقال: ((والذي نفسي بيده، لتُسألنَّ عن هذا النعيم))؛ يعني: القيام بحقِّ شكره.
ومما وعظ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، وهو يحثُّ صحابتَه ويرغِّبهم في الحراسة: قوله: ((حُرمتِ النارُ على عينٍ دمعتْ من خشية الله، حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله))؛ رواه الحاكم وصحح إسناده.
وقال - عليه الصلاة والسلام - في ترهيب مؤثِّر، ينصح به أمَّته كلَّها: ((يا أمَّة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لبكيتم كثيرًا، ولضحكتم قليلاً))؛ رواه الشيخان.
ووعظُه - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ، ولا يكاد الوعظ يخلو من التذكير بالآخرة، فهو يعني الأمر بالطاعة، والنصح والتذكير بالعواقب، والعاقبة جنة أو نار، فالتذكير بالآخرة هو أبلغ الوعظ، وأمثلته كثيرة في السنَّة.
وكثيرًا ما كان يدعو - عليه الصلاة والسلام - في آخر المجلس بالحديث الذي فيه الدعاء المشهور: ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يَحُول بيننا وبين معاصيك))، الذي رواه الترمذي وغيره، وحسَّنه في "صحيح الجامع"، فقد قال ابن عمر - رضي الله عنه -: قلَّما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلسٍ حتَّى يدعوَ بهؤلاء الدعواتِ لأصحابه، وفيه: ((ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنَّتك))، ((ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا)).
الذِّكرُ الجليل:
وكان - عليه الصلاة والسلام - "يَذكُر الله على كل أحيانه" كما اتَّفقا عليه.
وإن نظرةً في كتب الدعوات والأذكار وحدها، تبيِّن مدى ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ارتباطٍ بالدين عامة، وبالآخرة خاصة؛ فهو - عليه الصلاة والسلام - يذكُر الله بأنواع الذِّكر في معظم حركاته وتنقلاته، في السفر والحضر، وانفرادًا بنفسه أو عند أصحابه أو أزواجه، وفي السلم والحرب، وعند الراحة والتعب، وفي الرضا والغضب.
وإن قلب المؤمن حيٌّ نابضٌ بالإيمان، فهو لا يفتأ يذكر الله بأنواع الذكر، وهو جالس، أو قائم، أو عامل، ويقول: أستغفر الله، وبسم الله، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، واللهم صلِّ على سيِّدنا محمد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما شاء الله، يقول هذا وهو في مجالس الدين أو الدنيا، وفي المساجد أو الأسواق.
وأورد هنا الحديث عن الذِّكر؛ لأن شأنه عظيم، ولأنه يعلِّق القلبَ بالله وباليوم الآخر، وإن الحثَّ عليه والانشغال به يسلك به الطريق الصحيح إلى رضا ربِّه، لأنه يهذِّب نفسه، ويُبعده عن الحرام؛ ولذلك يقول ربُّنا - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]؛ أي: اذكروه بالتسبيح والتحميد، والتكبير والتهليل، والتحميد والتقديس، ذكرًا كثيرًا يعمُّ أغلبَ الأوقات، على ما هداكم إلى الإيمان، وأنعم عليكم بأنواع النعم.
فكان ذِكره وتذكيره - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالآخرة متتاليًا؛ فهي المآل الأخير للإنسان، والمصيرُ الذي ينتهي إليه، ولا توبة في ذلك اليوم، ولا رجوع إلى الدنيا، ولكنه يوم الحصاد وتوزيع النتائج.
الفائدة العملية من الذكرى:
وجوانب الفائدة من الإيمان باليوم الآخر عديدة؛ فهو يحثُّ المؤمنَ على الأعمال الصالحة، يعني الجيِّدة، القويمة، البنَّاءة، التي تعود فائدتُها الحقيقية على نفسه، وعلى المسلمين، والناس عامة. ولا يكون العمل صالحًا إلا إذا كان موافقًا للشرع، وخالصًا لوجه الله - تعالى - وهذا يعني - من وجه آخر - أنه لا يُتصوَّر من المسلم الملتزم بدينه ضررٌ على عباد الله، ولا فساد ولا شرٌّ في الدنيا؛ فالله لا يأمر بالفحشاء، وينهى عن الضرر والمنكر، ولا يقبل من الإنسان إلا عملاً طيبًا خالصًا.
ونعلم بهذا التوجيه الربانيِّ أن المرء بهذا يكون عنصرَ خيرٍ في الحياة، لا تُخشى بوائقه؛ فإن صاحِبَ هذا الإيمانِ يكفُّ عن الظلم، وعن كل ما يضرُّ بالناس؛ فهو يعرف أنه سيحاسَبُ على ما يعمل، ويُعاقب أشدَّ العقاب على فعل المنكر وإيذاء الناس؛ ولذلك فهو يحسب ألف حساب لما سيُقدم عليه من فعل - إذا كان ذا إيمان صادق - فالآخرةُ حق، والحسابُ دقيق، والمحاسِب الجبَّار.
ولينظرْ كلٌّ ما يُقدمُ عليه من عملٍ وهو يتصوَّر موقفَه يوم القيامة من خلال قوله - تعالى -: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 20، 21]: جاءَتْ كُلُّ نَفسٍ في ذلكَ اليَوم - بَرَّةً كانتْ أم فاجِرَة - معَها مَلَكان، أحَدُهما يَسوقُها إلى المَحشَر، والآخَرُ يَشهَدُ عَليها بما عَمِلَت.
فليَعملْ كلٌّ في مجالِ عملهِ وهو يرى مديرَ عمله فوق رأسه، كم يكونُ متقنًا فيه، ومُنتجًا له؟ وذاك أبلغ وأخوف.
ولينظرِ الكاتبُ كذلك: كم يكون منصفًا، وصادقًا، ومتحريًا الحقَّ وهو يكتب؟ وهكذا، كل فئات المجتمع، في جميع مهامهم وأعمالهم.
فالإيمان باليوم الآخر يهذِّب النفس، وينشِّطها لعمل الخيرات، ويكفُّها عن سفاسف الأمور، والأخلاق الدنيَّة، والفواحش والموبقات، ويحثُّها على الأعمال الصالحة، وعلى الاقتداء بالكُمَّل من البشر، أنبياء الله ورسله - عليهم الصلاة والسلام - فهم القدوة في تذكُّر الآخرة، والتذكير بها، والعمل لها.
والإيمان باليوم الآخر يبعث على التفكُّر والاعتبار، وإن سبب عدم اعتبار الكافرين يعود إلى عدم إيمانهم بالمعاد، وعدم اكتراثهم ولا مبالاتهم بأمره؛ يقول الله – تعالى -: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان: 40].
يقول ربنا - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103].
إن الإيمان ينادي المسلم أن الأصل في حياته أن تكون للعمل للآخرة، ولا ينسى نصيبَه من الدنيا.
وإن ظهور آثار هذا الإيمان على سلوك الفرد هو المطلوب والمهم في هذه الحياة، وهو ما ينبغي أن يبدو من خلال معاشه وتعامُله مع الناس، وقد طبَّق الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ذلك في واقعهم، فكانوا أعدلَ الناس، وأصدقَهم إيمانًا وخشية، وكلما التزم المؤمنون بهذا الإيمان ومتطلباته، كانوا أقرب إلى إيمان الأنبياء وسلوكهم - عليهم الصلاة والسلام.
مرتبة لهمَّة عالية:
وقد يسأل المرء ويقول: كيف الوصول إلى هذه المرتبة، وهي تذكُّر الآخرة كثيرًا؟
ولا شك أن الجواب يحتاج إلى مقال وأكثر، وأذكِّر بالأهم.
فإن اليوم الآخر جزءٌ من إيمان أعمّ، ولا ينفصل عنه، وزيادة الإيمان حق، وتكون بالتفكر والاعتبار، والطاعة، وقراءة القرآن بخشوع وتدبُّر، وبالذكر الجليل، والتوبة والاستغفار، وقصر الأمل، والتقلُّل من طلبات الدنيا، وفعل الخيرات، وترك المنكرات، واتِّقاء محارم الله عامة، والبُعد عن التسويف واللامبالاة، وشحذ العزيمة لطلب المعالي، وطلب الإعانة من الله؛ (اللهمَّ أعنِّي على ذِكرك، وشكركَ، وحسن عبادتك)، ومجالسة الصالحين، والعلماء العاملين، من الذين سيماهم في وجوههم من أثر السجود، وقراءة كتب الزهد والرقائق، وفيها العجب من أخبار الصالحين، وهكذا كان يفعل عبدالله بن المبارك، ينظر في آثار الصحابة والتابعين وأعمالهم، ويقول: إنه بهذا يجالسهم ويكون معهم، وألَّف ابن قدامة كتابه "الرقة والبكاء"؛ ليداوي بأخباره قسوةَ قلبه -وهو من هو! - ويستجلب بها دموع عينه، قال: "فطلبتُ ذلك في مظانه، فلم أرَ أجلبَ له، ولا أجمعَ لما أردتُ، من أخبار الصالحين، الذين تنزلُ الرحمة عند أذكارهم، وتحيا القلوب بسماع أخبارهم، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم".
مواقف:وأخبار الصالحين ومواقفهم في تذكُّر الآخرة أيضًا كثيرةٌ لا تحصى، وأكتفي بمواقفَ معدودةٍ للخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - كما وردتْ في سيرته لابن الجوزي، وغيرها، فقد كان أمير المدينة، وأميرًا للمؤمنين، وكان يشعر بمسؤوليته عن الأمة كلها، ويخشى الحساب، وهو ما يناسب المقالَ، وقد كان إيمانه باليوم الآخر قويًّا وعميقًا، وأثَّر هذا في أسلوبه ومنهجه في الحكم، الذي هو أعلى وأجلُّ المناصب الدنيوية، فكان من أعدل الخلفاء الذين عرفهم تاريخُ الإسلام.
وقد عرَف القرَّاء كيف ذرفت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما بلغ عبدالله بن مسعود قوله - تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]؛ كما رواه الشيخان وغيرهما.
وصلَّى أحدُهم خلف عمر بن عبدالعزيز، فقرأ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات: 24] قال: فجعل يكرِّرها لا يستطيع أن يجاوزها؛ يعني: من البكاء.
وعندما كان أمير المدينة وقرأ عنده رجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13]، بكى حتى غلبه البكاء وعلا نشيجُه، فقام من مجلسه، فدخل بيته، وتفرَّق الناس.
وعندما كان خليفةً، صعد المنبر، فخطب، فقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، فقال: وما شأن الشمس؟ {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} حتى انتهى إلى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}، قال راويه: فبكى، وبكى أهل المسجد، وارتجَّ المسجد بالبكاء، حتى رأيت أن حيطان المسجد تبكي معه!
وبكى مرةً، فبكى أهل الدار لبكائه، وهم لا يدرون لماذا يبكي؟ فسألته زوجتُه عن سبب بكائه، فقال: ذكرت - يا فاطمةُ - منصرف القوم من بين يدي الله، فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم صرخ، وغشي عليه.
وكان يومًا ساكتًا وأصحابه يتحدَّثون، فقالوا له: ما لك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟
فقال: كنتُ مفكرًا في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها، ثم بكى.
إن اليوم الآخر يوم صعبٌ شديد مهول، يشيب فيه الولدان، ويُحاسب فيه كلٌّ على عمله، وإن كان مثقال ذرَّة، ويفرز أهل الجنة من أهل النار، فسعيدٌ وشقيٌّ، وضاحك وباكٍ، وخالد ومخلَّد. وأنتم - أيها الأحياء - ما زلتم في الدنيا، وهناك متَّسع لأنْ تعملوا وتتوبوا، وتعملوا صالحًا، وتذكروا الآخرة بحق، فهل من مشمِّر؟!
محمد خير رمضان يوسف
مواقع النشر (المفضلة)