الحمدلله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة، والصلاة والسلام على رسولنا وهادينا محمد بن عبدالله الذي أرسل رحمة للعالمين، فأمر بالتناكح والتزاوج للتناسل وتكثير هذه الأمة للمباهاة والمكاثرة بها الأمم يوم القيامة.
وبعد:
فإن الله تعالى جعل بقاء الإنسان وطريقة تكاثره وتناسله عن طريق التزاوج بين المرأة والرجل، وركب في الزوجين الرجل والمرأة غريزة الشهوة الجنسية ليحصل المقصود من تناسل الإنسان لبقائه، ثم إنه سبحانه وتعالى نَظَّم طريقة إرواء غرائز الإنسان تنظيماً يكفل إرواءها ويحد من جماحها، إذ لو ترك للإنسان إرواء رغباته حسب ما يحلو له، لدبت الفوضى، ولجنح عن الصراط المستقيم، وتنكب الجادة كما هو مشاهد في عالم البشر الذين لا يؤمنون بالله تعالى، أو لا يطبقون شريعة الإسلام، فنجد أن ظاهرة الجنس تسيطر على حياتهم، وكأن الإنسان خلق من أجل التمتع الجنسي، لذا دبت الفوضى واستشرى الفساد، وأصبحت العلاقات البهيمية المحمومة هي المسيطرة بين الرجال والنساء، وأصبحت المرأة سلعة يتاجر بها الرجل ويلوح بها في كل حين، وظهرت الحياة عند بعض الشعوب حياة جنسية شبيهة بحياة الحيوانات الخالية من كل قيد وتنظيم.
أما نظام إرواء الرغبة الجنسية في الإسلام فهو عن أحد طريقين:
الزواج أو الاسترقاق. ولا ثالث لهما، وأي طريق غير هذين فهو اعتداء على حرمات الله وتشريعه، يعاقب عليه في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[1].
وتشريع الله للعلاقة بين الرجل والمرأة هو التشريع السليم، لأنه من عند خالق البشر، العالم بما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم، فالزواج المشروع هو الذي ينتج العلاقة الصالحة التي تقوى فيها العاطفة والمحبة والألفة والحنان بين الزوجين، وتروى فيها الرغبة الجنسية والوطر، ويولد فيها الأولاد في جو من المحبة والسعادة، ويتربون في كنف هذه الحياة الزوجية أسوياء يشاركون بعد ذلك في بناء المجتمع.
أما ترك الإنسان يجمح في إرواء رغبته كلما سنحت له الفرصة مع أي امرأة وبأي طريقة، فهذا يولد القلق والأمراض، وينتج أولاداً غير شرعيين يتربون في الملاجئ، ومن ثم يحرمون الحنان والعاطفة، فيشبون مجردين عن الحب، بل ربما يخرجون وهم يحملون الحقد على المجتمع.
وتعدد الزوجات الذي أباحه الله تعالى بقوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}[2].
يرعى تحقيق مصالح كثيرة تظهر لنا أحياناً، وتخفى علينا أحياناً أخرى، وهذا الشأن في تشريعات الله وأحكامه، فالله – سبحانه وتعالى – لم يسن أي أمر عبثاً، وإنما سنَّه لحكمة يعلمها، ومصالح كثيرة تعود على الإنسان بالنفع العميم والخير الكثير. فهذا التعدد فيه إعفاف للرجال والنساء عن الحرام وقضاء على الفساد، ودفع للشرور والآثام، وتكثير للنسل، وطاقات المجتمع البشرية التي يحتاج إليها للبناء والتنمية، حتى أن بعض العلماء لا يرى أن تعدد الزوجات مجرد إباحة، وإنما هو مندوب إليه ومرغب فيه شرعاً. قال ابن قدامة في معرض حديثه عن النكاح وأمر الله به وحث عليه: (ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوج وبالغ في العدد وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه إلا بالأفضل، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل والاشتغال بالأدنى)[3]اهـ.
وأصدق دليل على فضل النكاح وتعدد الزوجات هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو خير هذه الأمة، وقد عدد زوجاته. روى البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا. قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء[4].
قال ابن حجر في بيان معنى هذا الحديث: (قيل المعنى: خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل. والذي يظهر: أن مراد ابن عباس بالخير النبي (صلى الله عليه وسلم) وبالأمة أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحاً ما آثر النبي (صلى الله عليه وسلم) غيره، وكان مع كونه أخشى الناس صلى الله عليه وسلم وأعلمهم به يكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطلع عليها الرجال)[5] اهـ.
وقد قال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه –: (لو لم يبقَ من أجلي إلا عشرة أيام، وأنا أعلم أني أموت في آخرها يوماً، ولي طول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة)[6].
كما أن الآية أمرت بالنكاح اثنتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، فإن خاف الإنسان عدم العدل بين الزوجات فيلجأ إلى عدم التعدد فيقتصر على واحدة أو على ملك اليمين من الإماء، والأمر أقل درجاته الندب والاستحباب، روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة – رضي الله تعالى عنها – عن قوله تعالى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ}[7].
فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن، قالت: واستفتى الناس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء}.. إلى.. {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} فأنزل الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ونسبها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء. قالت: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق[8].
ومع هذه الفوائد الجمة لتعدد الزوجات من تكثير أفراد الأمة، وإعفاف الرجال والنساء عن الحرام والزنا والعلاقات المشبوهة، نجد أعداء الإسلام يهاجمون الإسلام ويطعنون فيه بإباحته للتعدد، ويصفونه بأنه يهضم المرأة حقها، ويعطي الرجل فرصاً أفضل من الفرص التي يعطيها للمرأة في إشباع مطالبه ورغباته، بينما يقيد دائماً دور المرأة، ويجعلها مغلوبة على أمرها، كما أن إباحة التعدد لا يستفيد منه جميع طبقات المجتمع، وإنما يستفيد منه ذوو الثراء والجاه وحدهم، إذ هم القادرون على التعدد والإنفاق، ودفع تكلفة الزواج، وهم القادرون على تحقيق مطالب الزوجات والأولاد.
وللأسف نجد بعض المسلمين يزهد في التعدد ويحاول تصويره بأنه كله مشكلات وأعباء، وما ذلك إلا لعدم ثقته بالله تعالى المشرع والمنظم، ولضعف إيمانه بأحكام دينه.
بل إن بعضهم يحاول أن يجعل من النصوص الشرعية ما يؤيد رأيه ووجهته في منع التعدد، فيجعل قول الله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً}[9]. وقوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}[10].
دليلاً له على منع التعدد في الظروف العادية، إذ شرط التعدد هو العدل، وهو متعذر وغير مستطاع، لذا يمنع التعدد، لأنه إذا امتنع الشرط الذي هو العدل امتنع المشروط الذي هو التعدد، وليس الأمر كذلك، لأن العدل المنفي في قوله:
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}.
هو المحبة القلبية، لأن القلوب ليست ملكاً لأصحابها، فلا يملك المرء التحكم في قلبه، فهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعدل بين زوجاته في القسم والنفقة والمبيت والسكنى ويقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك))[11].
فوائد تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع
إن تعدد الزوجات ضرورة إجتماعية، ورحمة بالمرأة ورعاية لها قبل أن يكون مغنماً للرجل، وهذه حقيقة مشاهدة مدركة بالعيان، يشاهدها كل ذي بصيرة.. أما من أغفل قلبه وأعمى عينيه وسار وراء الذين يشوهون التعدد ويصورونه بأنه مشكلات وأعباء ومتاعب وقسوة وحيوانية وظلم للمرأة، ويضربون أمثلة من الوقائع اليومية التي يعيشها الناس فهم ناسون بأن الحياة كلها مشكلات، وأن الإنسان يعيش في داخل المشكلات والمتاعب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنسَانَ فِي كَبَدٍ}[12].
[frame="13 98"]
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه[13]
[/frame]
فهل صاحب الزوجة الواحدة يخلو من المشكلات والمنغصات؟! وهل الأولاد إذا كانوا من زوجة واحدة وأب واحد لا يوجد بينهم منافسات ومشكلات؟! وهل من عنده أولاد سعيد كل السعادة؟! وهل من حُرِمَ الأولاد سعيد كذلك؟! فالحياة الدنيا حياة ملؤها المشكلات والمنغصات والهموم والكبد، ولكن على الإنسان أن يصبر ويرضى بحكمة ربنا وقدره، ويستشعر أن هذه الحياة ماهي إلا وسيلة إلى الحياة الحقيقية، الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها، كما قال الله تعالى:
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[14].
وتعدد الزوجات الذي نحن بصدد الحديث عنه رغم ما فيه من أعباء وتكاليف كثيرة على الزوج، وما فيه من إثارة لغيرة المرأة من ضراتها – الزوجات الأخر – فهو يعالج شراً بأخف ضرر ممكن، فعلى المرأة أن تضحي من أجل بنات جنسها، وعلى الرجل أن يتحمل ليشارك في بناء المجتمع، فإننا ندرك مبررات كثيرة للتعدد، وضرورات اجتماعية تلجيء إليه، مع إيماننا بأن المسلم عليه أن يطبق حكم الله سواء أظهرت له الحكمة والمصلحة من الحكم، أم لم يظهر له شيء:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا}[15].
ولكننا نذكر هذه الفوائد والمبررات لتطمئن قلوب الذين ضعف إيمانهم، أو يريدوا إقناع غيرهم، واتقاء شر هجوم الكفار على الإسلام، فمن هذه المبررات:
أولاً: أن نسبة النساء في أي مجتمع من المجتمعات البشرية تفوق نسبة الرجال وتزيد عليها، وذلك مشاهد من عدة وجوه:
الوجه الأول: كثرة ولادة البنات دون الذكور، فنجد عدد النساء في البيت الواحد أكثر من عدد الرجال، وليتحقق كل واحد من هذه الحقيقة بالنظر إلى بيته وأقاربه وجيرانه، وليعمل إحصائية يعدد فيها الرجال، وإحصائية أخرى يعدد فيها النساء في معارفه، فإنه ولا شك سيخرج بنتيجة زيادة عدد النساء على الرجال.
الوجه الثاني: يتعرض الرجال للموت والفناء أكثر من النساء، إذ لديهم قابلية للمرض أكثر من النساء، كما أن الرجال يتعرضون للحوادث من جراء تعرضهم للمخاطر أكثر من النساء، فالرجال في الغالب تقع عليهم حوادث الطائرات والسيارات والقطارات والسفن، وشتى حوادث الطرق، لأنهم يخرجون للكسب والمعاش، بينما النساء يقبعن في بيوتهن، والرجال قوامون عليهن، فالمرأة لا تتعرض للأخطار كثيراً، وإن كنت شاكاً في هذا فاجلس عند باب المقبرة، واعمل إحصائية بمن يموت خلال شهر، فستجد نسبة وفيات الرجال تزيد على نسبة وفيات النساء بنسبة 3 – 1.
كما أن الحروب تلتهم الرجال، وهم وقود المعارك، وبنظرة سريعة إلى البلاد التي تستعر فيها الحروب، فستجد آلاف النساء بلا عائل، تخطفت الحروب والاغتيالات آباءهن وأزواجهن ومن يعولهن.
وقد دلت الإحصائيات بعد الحرب العالمية الثانية أن أكثر بلاد أوروبا أصبحت النساء يشكلن نسبة 7 – 1 من الرجال، فإذا تزوجت واحدة برجل فأين الأزواج للبواقي إذا لم يكن التعدد؟
ثانياً: أن الرجل يتأخر نضجه الجنسي والاجتماعي واستعداده للزواج، فَقَلَّ أن يكون مهيئاً للزواج قبل الخامسة والعشرين من عمره، بينما المرأة يبدأ نضجها واستعدادها للزواج في سن مبكرة قبل الرجل بما لا يقل عن خمس سنوات. فكمال نضارة المرأة وبهجتها في سن العشرين من عمرها، وهذا يجعل الجاهزات للزواج أكثر من نسبة الرجال الجاهزين للزواج، فلو تأخرت المرأة في الزواج كما يتأخر الرجل لذهبت نضارتها وزهرة حياتها وأنوثتها، وهذا ما نشاهده في واقع الحياة، وبخاصة مع البنات اللاتي شغلت الدراسة أفكارهن، فيردن التخرج من الجامعات وإكمال الدراسات العليا، وفي النهاية يفاجأن بفوات قطار الزواج، ورغبة الرجال عنهن، فيجلسن عانسات في بيوتهن.
ثالثاً: أن رغبة المرأة إلى الجماع أقل من رغبة الرجل، وهي أكثر حياء منه، فقلما تجد رجلاً يستغني بامرأة واحدة، بينما كثير من النساء لا تتحمل كثرة الجماع وتتأفف منه، فلا تستطيع امتصاص طاقة الرجل، وبخاصة عند بلوغها الخمسين من عمرها، والذين ينتقدون الإسلام في إباحته للتعدد هم يعددون النساء ولكن بطرق غير مشروعة، فلهم الخليلات والصديقات والسكرتيرات، وغير ذلك من طرق الاتصال المشبوه الذي يهدد البيوت ويفسد العلاقات الأسرية، كما أن القسوة والوحشية تتمثل في هذا الاتصال المحرم، فالمرأة يعبث بها الرجل ثم تنوء بأعباء هذا العبث من إفساد سمعتها وتدنيس شرفها وعفتها، وتركها للخزي والعار، وربما تحمل من هذا الاتصال والرجل ليس عليه تبعات هذا الحمل، ولا نفقة للمرأة ولا مهر يدفعه لها، والأولاد يتركون للحرمان والتشرد والفقر، فالصلات المحرمة آلام على المرأة وعلى أولادها، لذا عاقب عليها الإسلام بالجلد والرجم بالحجارة حتى الموت، وقد أغمضت القوانين الوضعية عينيها وكأنها لا ترى الفساد والإفساد الذي ينخر كالسوس في جسم المجتمع، حتى ليكاد يبليه، فهؤلاء الأولاد الذي يُرمْون في الشوارع، أو يُسَلَّمونَ لدور الملاجئ، وهذه الأمراض الجنسية التي تهدد من كل صوب وناحية سببها – والله أعلم – هو الاتصال الجنسي غير الشرعي وبسبب البعد عن التمسك بأوامر الإسلام.
وبهذا ندرك أهداف الذين ينتقدون الإسلام في عدم إعطائه الحرية الشخصية للناس يعملون كما يشاؤون، ندرك أنهم يريدون العبث بالمرأة وإرواء رغباتهم ونزواتهم، بينما الإسلام يريد مجتمعاً نظيفاً تقوم العلاقة فيه بين الرجل والمرأة عن طريق واحد هو الزواج، وهذا يكفل للمرأة سعادتها وكرامتها وعفتها، وللأولاد الحنان والنفقة والتربية، ويكفل للرجل قضاء الوطر والعيش الهنيء، الذي تسوده المحبة والراحة والاطمئنان والأنس والرحمة.
رابعاً: المرأة معرضة للعقم والإياس، والمرض الذي يُفَوِّت على الرجل الاستمتاع بها، كما أن المرأة بعد كبرها وإياسها لا تثير الرجل لذهاب بهجتها، كما قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[16].
فالمرأة لا تحمل ولا تحيض بعد سن الخمسين من عمرها، أما الرجل فتبقى لديه القوة والحيوية والرغبة إلى النساء ولو بعد كبر السن، بل حتى الموت.
فإذا كانت المرأة عقيماً هل من العدل أن يصبح الرجل معها عقيماً ونفسه تشرئب للأطفال والأنس بهم، ومن هنا ليس هناك حل إلا أن يبقى محروماً من الأولاد مع بقائه مع هذه العقيم، أو أن يطلقها ليتزوج غيرها، أو أن يتزوج بأخرى تنجب مع بقائها، ولا شك أن بقاءه بدون ذرية يتنافى مع فطرة الإنسان وغريزته التي تحب الأولاد، وطلاقه للعقيم يشردها، إذ المرأة إذا طلقت لا يتزوجها في الغالب إلا من هو أقل من زوجها السابق شأناً، أو أكبر سناً وله زوجة وأولاد، وقد يكون عاجزاً عن الزواج على الأبكار، أو أن تبقى بدون زوج طيلة بقية حياتها، فكونها ترضى بنصف رجل أو ثلثه أو ربعه هو خير لها من عدمه.
وإن كانت مريضة وهو يحبها ومرضها لا شفاء بعده وهو يمنع زوجها من أن يستمتع بها، أو يحرم زوجها من خدمتها، فهل يطلقها وهي مريضة ومحتاجة إلى الرعاية والحنان؟ أم يتزوج غيرها مع بقائها في عصمته ولها النفقة والسكنى والكرامة والمساواة؟.
خامساً: الزواج المتعدد فيه نبل وتضحية من الرجل وتحمل للمشقات والتبعات، فأحياناً يتزوج يتيمة أو أرملة، أو امرأة فاتها قطار الزواج وفرصه، ولو تركت لجلست بدون زوج العمر كله، وقد يفكرن في الاتصال المحرم، كما أن الزوج بتعداده لزوجاته إنما يخفف من أعباء المجتمع وأولياء النساء، حيث يتحمل رعاية وتبعات أناس آخرين، ويساهم في رفع المشقة والعنت عن أولياء أمور النساء، فيحفظ زوجته ويصونها، ويكون سبباً في حصول الأولاد لها، وينفق عليها وعلى أولادها منه، ويشرف على تربيتهم.
هذه بعض فوائد التعدد ومبرراته، ثم هو مباح لا واجب فهو بمثابة العلاج في الصيدلية يتناوله من يحتاج إليه ويجد القدرة على استعماله رغم ما فيه من مرارة ومعاناة، فالأمر متروك للرجل، فهو الذي يقرر التعدد من عدمه، لأن مسألة الزواج يترتب عليها تبعات أخرى من السكن والنفقة والعدل والمساواة في القسم، فهو لا يقدم على التعدد إلا إذا وجد الحاجة داعية إليه، والمرأة التي أقدمت على الزواج من رجل معه زوجة أخرى لو وجدت أحسن منه لمالت إليه، ولكن الظروف ألجأتها إلى ذلك، والمرأة الأولى إذا لم تستطع البقاء بعد زواج زوجها على غيرها، فإن لها مندوحة ومخرجاً من هذا الزواج بطلب الطلاق والمخالعة.
وبعد هذا ندرك أهمية تعدد الزوجات للمجتمعات البشرية كلها، وصدق الله العظيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[17].
فشريعة الله وتنظيمه لا يدانيها أي تشريع أو نظام من نظم وتشريعات البشر.
فالزواج المتعدد نعمة يحل كثيراً من المشكلات للزوجين، فتبقى زوجته الأولى مع أولادها، لها النفقة والرعاية والحب والعدل في القسم، وهو يسعد بزواجه من الأخرى، ولو لم يبح التعدد فماذا تعمل النساء الأخريات، إذ كل امرأة أخذت نصيبها من الرجال، وماذا يعمل الرجل في قضاء وطره وتتوق نفسه إلى النساء.
وليس معنى هذا أن التعدد نعمة على الجميع – الرجل وزوجاته – ولكن عدم التعدد أشد ضرراً، فيدفع التعدد – الذي هو ضرر – ما هو أعظم منه، إذ لوجدت المرأة رجلاً ليس عنده زوجات أخر لم تفضل عليه غيره.
وإذا كانت الزوجة الأولى ينالها ضرر من الزواج بالثانية، فإن الثانية ينالها ضرر أشد وأعظم بالحرمان، إذ تموت أنوثتها أو تنجرف فتكون ضياعاً بين الرجال – والضرر الكبير يدفع الضرر اليسير – ثم إن الحياة الزوجية المتعددة فيها ما فيها من المنغصات والكبد والمشقة، شأنها شأن الحياة كلها، إذ الحياة كلها عنت ومشقة، والإنسان يعيش في داخل الكبد والمشقة، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنسَانَ فِي كَبَدٍ}[18].
حتى الرجل مع زوجته الواحدة عنده من المشكلات الشيء الكثير.
هذه بعض فوائد التعدد، وقد يكشف الزمن مستقبلاً غير هذه الفوائد.
شروط تعدد الزوجات
لما شرع الله تعدد الزوجات لم يتركه بدون قيد ولا شرط، وإنما سن له حدوداً واشترط له شروطاً، فيما يلي أتحدث عن هذه الشروط فأقول:
هناك ثلاثة شروط لجواز تعدد الزوجات، هي:
1 - أن لا يزيد عدد الزوجات عن أربع نساء.
2 - أن يستطيع الإنفاق على الزوجات جميعاً.
3 - أن يستطيع العدل بين زوجاته.
أما الشرط الأول: وهو أن لا يزيد عدد النساء اللاتي يتزوج بهن عن أربع زوجات، فقد ذكره الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}[19].
وقد روى الترمذي[20] وابن ماجة[21] وأبو داود[22]: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): ((اختر منهم أربعاً وفارق سائرهن)). وهذا الشرط مجمع عليه بين المسلمين. قال ابن قدامة: (أجمع أهل العلم على هذا ولا نعلم أحداً خالفه إلا شيئاً يحكى عن ابن القاسم بن إبراهيم أنه أباح تسعاً لقوله تعالى:
{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}.
والواو للجمع، ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) مات عن تسع، وهذا ليس بشيء، لأنه خرق للإجماع وترك للسنة، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: ((أمسك أربعاً وفارق سائرهن)). وقال نوفل بن معاوية: أسلمت وتحتي خمس نسوة فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): ((فارق واحدة منهن)). رواهما الشافعي في مسنده، وإذا منع من استدامة زيادة عن أربع فالابتداء أولى، فالآية أريد بها التخيير بين اثنتين وثلاث وأربع كما قال: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}.
ولم يرد أن لكل ملك تسعة أجنحة، ولو أراد ذلك لقال تسعة ولم يكن للتطويل معنى، ومن قال غير هذا فقد جهل اللغة العربية.. وأما النبي (صلى الله عليه وسلم) فمخصوص بذلك)[23].
الشرط الثاني لتعدد الزوجات: أن يستطيع الإنفاق على جميع زوجاته اللاتي في عصمته. قال الله تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[24].
فالنفقة على الزوجة واجبة بالإجماع، وكذلك الزوجات. قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[25].
وقال (صلى الله عليه وسلم): ((اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))[26]. عوان: أي محبوسات.
قال ابن قدامة: "وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن"[27].
الشرط الثالث لتعدد الزوجات: استطاعة العدل بين زوجاته في المبيت والسكن والنفقة، قال الله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ}[28].
فاشترط العدل وعدم الجور في المعاملة.
أما محبة القلب وميله فلا يستطيع الإنسان أن يعدل فيه.
قال الله تعالى:
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}[29].
فهذه الآية يخبر الله فيها عن فطرة الإنسان التي فطره عليها – وهو سبحانه أعلم بما رَكَّبَ في النفس البشرية من فطرة، فيعلم سبحانه أن نفس الإنسان ذات ميول واتجاهات لا يملكها الإنسان، ومن ثم أعطاها لهذه خطاماً لينظم حركتها، لا ليعدمها ويقتلها.
ومن هذه الميول أن يميل القلب إلى إحدى الزوجات دون سواها أو أكثر من غيرها لسبب من الأسباب، وهذا الميل لا حيلة له فيه، ولا قدرة له عليه، ولا يملك محوه ولا قتله وإزالته، فالقلوب ليست ملكاً لأصحابها، إنما هي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فبيَّن الله سبحانه في هذه الآية أنه لا يحاسب الزوج عليه، ما دام في قلبه لم يتعد إلى معاملته وأفعاله وسلوكه، بل يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء في محبة القلب ليرفع عنهم الحرج، إذ الأمر خارج عن إرادتهم.
ولكن عليهم أن لا يميلوا كل الميل فيؤثر على المعاملة الظاهرة ويحرم الأخرى حقوقها، فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة. وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في فعله يحقق الواقع البشري فيقسم بين نسائه فيما يملك ويعدل في هذه القسمة، حتى أنه إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ليأخذ من تقع عليها القرعة معه لتصحبه في السفر[30]. ولكن محبة القلب لا يملكها ولا يستطيع أن يعدل فيها فيقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك))[31]. وقد أخرج البيهقي بسنده عن ابن عباس في قوله: ((ولن تستطيعوا.. الآية)). قال: ((في الحب والجماع))[32].
ولا يخص بالقسم أحداً دون أحد، فيقسم بين نسائه الصحاح والمرضى، والطاهرات والحيض. قال ابن قدامه: (ويقسم للمريضة والرتقاء والحائض والنفساء والمحرمة والصغيرة الممكن وطؤها وكلهن سواء في القسم، وبذلك قال: مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وكذلك التي ظاهر منها، لأن القصد الإيواء والسكن والأنس، وهو حاصل لهن.. وأما المجنونة فإن كانت لا يخاف منها فهي كالصحيحة، وإن خاف منها فلا قسم لها لأنه لا يأمنها على نفسه، ولا يحصل لها أنس ولا بها)[33].
وقال ابن حجر: "المراد بالعدل: التسوية بينهن بما يليق بكل منهن، فإذا وفَّى لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها، لم يضره ما زاد على ذلك من ميل قلب، أو تبرع بتحفة"[34].اهـ.
وقال: ابن قدامة: "وليس عليه التسوية بين نسائه في النفقة والكسوة إذا قام بالواجب لكل واحدة منهن. قال أحمد في الرجل له امرأتان: له أن يُفَضِّلْ إحداهما على الأخرى في النفقة والشهوات والكسى، إذا كانت الأخرى في كفاية، ويشتري لهذه أرفع من ثوب هذه، وتكون تلك في كفاية. وهذا لأن التسوية في هذا كله تشق، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج فسقط وجوبه كالتسوية في الوطء"[35].
وإذا تنازلت الزوجة عن حقها في القسم سقط حقها، وصار لمن وهبت له. روى البخاري بسنده عن عائشة – رضي الله عنها – أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة[36].
قال ابن حجر: "وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبت، لكن فيما يستقبل، لا فيما مضى"[37].
وقد أذن نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مرض موته أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها صلوات الله وسلامه عليه[38].
كما أن القسم لا يلزم في الدخول على النساء، والحديث معهن والأكل عندهن. روى البخاري بسنده عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة فاحتبس أكثر مما كان يحتبس[39].
وعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً[40]. رواه البخاري.
وكان (صلى الله عليه وسلم) يطوف على نسائه في الليلة الواحدة في غسل واحد – رواه البخاري[41].
وعماد القسم بين الزوجات في الحضر هو الليل لمن معاشه وعمله بالنهار، أما في السفر فعماد القسم فيه النزول والمبيت، وأما حالة السير فليس فيه قسماً لا ليلاً ولا نهاراً، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسير مع عائشة ويتحدث معها في السفر دون حفصة[42].
حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد عدد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نساءه بعد أن هاجر إلى المدينة، ولم يكن بهذا التعداد بدعاً من الناس. فأمم الأرض وكل الناس يعددون نساءهم. بل كانوا يبالغون في التعداد حتى وصل ببعضهم إلى أكثر من سبعمائة زوجة دون الإماء. فالعرب يتزوجون بأكثر من عشر نساء، فهذا غيلان ابن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة، وقال له (صلى الله عليه وسلم): ((اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن))[43].
وقد كان الأثنيون والصينيون والبابليون والأشوريون والمصريون وغيرهم يعددون الزوجات.
كما أن اليهود يعددون النساء، فهذا نبي الله سليمان لديه سبعمائة من الحرائر وثلاثمائة من الإماء، وقد روى البخاري في صحيحه أن سليمان ابن داود قال: لأطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل ونسي. فأطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): ((لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته))[44]، وكانت الكنيسة النصرانية تأذن في التعدد ولا تعارض فيه.
ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) حينما عدد نساءه وتزوج بتسع، فكن في عصمته في آن واحد إنما فعل هذا بأمر الله تعالى وحكمته:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً، مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ}[45].
وقال تعالى مبيناً أن الله هو الذي أحل لرسوله تعدد الزوجات:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ}[46].
ثم بعد عدد التسع منع الله تعالى رسوله من أن يزيد عليهن، أو أن يطلقهن، فقال جل وعلا:
{لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}[47].
فزواج الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما هو زواج بأمر الله تعالى. فالأمر رباني لا يجوز القياس عليه، فهو خاص برسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز لأحد من أمته (صلى الله عليه وسلم) أن يزيد على أربع نساء، مدعياً أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تزوج تسعاً.
والذين ينتقدون نبي الإسلام ويصفون المسلمين بأنهم شهوانيون هؤلاء مخطئون كل الخطأ، والأفظع من ذلك أننا نجد من بين أبناء المسلمين من يحمل أفكار الكفر ويتندر بزواج رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولو عمر الإيمان قلبه وكان مسلماً حقاً لما سمح لنفسه بأن يخوض في مثل هذا الأمر. ثم إنه لو ألقى نظرة على من تزوج بهن (صلى الله عليه وسلم) لوجد أن لكل زواج ظروفه. إما ليؤوي أرملة، أو ليجبر قلباً تحطم بقتل ذويه، وإما ليتألف قلوب أهلهن، وإما ليكرم امرأة نفذت أمر الله فخالفت ما كان عليه المجتمع مبتغية رضوان الله تعالى عليها من الزواج بالسادة دون العبيد والموالي.
ولو كان (صلى الله عليه وسلم) شهوانياً لتزوج وهو في عزِّ شبابه، حينما كانت الرغبة إلى النساء قوية، ولكنه لم يعدد إلا بعد أن كبر وضعفت فيه الرغبة إلى النساء، وقد كان في شبابه مكتفياً بخديجة بنت خويلد – رضي الله تعالى عنها – التي تكبره بخمس عشرة سنة. فقد كان عمرها أربعين سنة، بينما كان عمره (صلى الله عليه وسلم) خمساً وعشرين سنة، وظل معها حتى ماتت – رضي الله تعالى عنها.
ثم إن النساء اللاتي تزوج بهن كلهن ثيبات عدا عائشة. وزوجات الرسول (صلى الله عليه وسلم) هن:
1 - سودة بنت زمعة بن قيس القرشية. تزوج عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد موت زوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس، وبعد موت زوجته خديجة بنت خويلد في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، وبعد كِبَرِ سنها وهبت يومها وليلتها لعائشة – رضي الله تعالى عنها.
2 - عائشة بنت الصديق. عقد عليها قبل سودة، ولكنها دخل عليها بعد أن دخل على سودة، وهي الزوجة الوحيدة التي تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي بكر، وتزوجها ليزيد قربه من أبي بكر الصديق – أول من أسلم من الرجال وآزر دعوة الرسول وصدَّقه في كل ما يقول، وبذل ما يملك في سبيل الله.
3 - حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وهذه تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي ثيب وليست ذات جمال لمكانة أبيها منه (صلى الله عليه وسلم).
4 - أم سلمة هند بنت سهيل المخزومية. تزوجها (صلى الله عليه وسلم) بعد موت زوجها أبي سلمة ابن عبدالأسد، ليؤوي أولادها، وقد قالت له حين خطبها: ما مثلي ينكح. أما أنا فلا يولد لي، وأنا غيور ذات عيال. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ((أنا أكبر منك، وأما الغيرة فيذهبها الله، وأما العيال فإلى الله ورسوله فتزوجها))[48].
5 - زينب بنت جحش، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد طلاق زوجها زيد بن حارثة – مولى رسول الله – (صلى الله عليه وسلم) ليكافئها على امتثال أمر الله تعالى، وليقرر الله حكما يصعب على المجتمع تنفيذه في ذلك الزمن، وهو زواج زوجة المتبنى. قال الله تعالى:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}[49].
6 - أم حبيبة بنت أبي سفيان، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد أن ارتد زوجها عبيدالله بن جحش، وأعرضت عنه إلى أن مات ولها من العمر بضع وثلاثون سنة. تزوجها رسول الله وهي في أرض الحبشة مهاجرة، وقد عهد للنجاشي بعقد نكاحه عليها، ووكلت هي خالد بن سعيد بن العاص فأصدقها النجاشي من عنده أربعمائة دينار وذلك سنة سبع من الهجرة.
7 - جويرية بنت الحارث، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد زوجها مسانع بن صفوان الذي قتل يوم المريسيع، وذلك ليشرف قومها بمصاهرته لهم، وبخاصة بعد سبيه لهم في غزوة بني المصطلق.
8 - صفية بنت حيي بن أخطب، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليجبر قلبها بعد قتل أبيها وعمها وزوجها.
9 - ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد موت زوجها أبي رهم ابن عبدالعزى العامري. وذلك سنة سبع من الهجرة، وعمرها يقرب من الأربعين سنة. رضي الله عنها.
وقد التمس العلماء – رحمهم الله تعالى – عدة حكم من استكثار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من النساء، فقال ابن حجر: والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه:
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة، فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.
ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
ثالثها: للزيادة في تأليفهم لذلك.
رابعها: للزيادة في التكليف، حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ للرسالة.
خامسها: لتكثير عشيرته من جهة نسائه، فتزداد أعوانه على من يحاربه.
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.
سابعها: الإطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوج أم حبيبة وأبوها إذ يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
ثامنها: خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال. وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته فانخرقت هذه العادة في حقه (صلى الله عليه وسلم).
تاسعها: تحصينهن وقصر طرفهن عليه، فلا يتطلعن إلى غيره، بخلاف العزبة، فإن العفيفة تتطلع بالطبع البشري إلى التزويج، وذلك هو الوصف اللائق بهن.
عاشرها: القيام بحقوقهن واكتسابه لهن وهدايته إياهن[50].
نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يجنبنا الشبهات، وأن يرزقنا العدل في الغضب والرضا. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة المعارج: آية 29 – 31.
[2] سورة النساء: آية 3.
[3] المغني (6/447). ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار سنة 1367هـ.
[4] صحيح البخاري – كتاب النكاح، باب كثرة النساء، رقم الحديث 5069. فتح الباري (9/113).
[5] فتح الباري (9/114).
[6] المغني (6/446) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
[7] سورة النساء: آية 3.
[8] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب الأكفاء في المال وتزويج المقل المثرية، رقم الحديث 5092. فتح الباري (9/136 – 137).
[9] سورة النساء: آية 3.
[10] سورة النساء: آية 129.
[11] رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد.
سنن أبي داود، كتاب النكاح – باب في القسمة بين النساء (1/492).
سنن النسائي، كتاب عشرة النساء – باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7/634).
سنن ابن ماجه، كتاب النكاح – باب القسمة بين النساء، رقم الحديث 1971 (1/634).
سنن الدارمي، كتاب النكاح – باب في القسمة بين النساء (2/144). مسند الإمام أحمد (6/144).
[12] سورة البلد: آية 4.
[13] البيت لبشار بن برد. انظر: العقد الفريد (2/310) ط: الثانية بالقاهرة.
[14] سورة العنكبوت: آية 64.
[15] سورة الأحزاب: آية 36.
[16] سورة النور: آية 60.
[17] سورة المائدة: آية 50.
[18] سورة البلد: آية 4.
[19] سورة النساء: آية 3.
[20] سنن الترمذي في كتاب النكاح رقم الباب 33 (3/435) رقم الحديث 1128.
[21] سنن ابن ماجه، في كتاب النكاح – رقم الباب 40، رقم الحديث 1953 (1/628).
[22] سنن أبي داود، كتاب الطلاق – باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع (1/519).
[23] المغني (6/539، 540).
[24] سورة النساء: آية 34.
[25] سورة الطلاق: آية 7.
[26] رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
صحيح مسلم، كتاب الحج – باب حجة النبي – (صلى الله عليه وسلم) رقم الحديث 147، صحيح مسلم بشرح النووي (8/183 – 184).
سنن أبي داود، كتاب المناسك – باب صفة حجة النبي (صلى الله عليه وسلم) (1/442).
سنن ابن ماجه، كتاب المناسك – باب حجة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رقم الحديث 3074 (2/1025).
[27] المغني (7/564) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
[28] سورة النساء: آية 3.
[29] سورة النساء: آية 129.
[30] رواه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح – باب القرعة بين النساء، إذا أراد سفراً. رقم الحديث 5211/ فتح الباري (9/310).
[31] رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي.
سنن أبي داود، كتاب النكاح – باب في القسم بين النساء (1/492).
سنن الترمذي، كتاب النكاح – باب ما جاء في التسوية بين الضرائر. رقم الحديث 1140 (3/446).
سنن النسائي: كتاب النساء – باب ميل الرجل إلى بعض نسائه (7/64).
سنن ابن ماجه، كتاب النكاح – باب القسمة بين النساء، رقم الحديث 197، (1/634).
السنن الكبرى، كتاب القسم والنشور – باب ما جاء في قوله الله عزوجل: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} جـ7، ص298. وقال ابن حجر: ((وقد روى الأربعة وصححه ابن حبان، والحاكم من طريق حمَّاد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد عن عائشة، فتح الباري (9/313).
[32] السنن الكبرى، كتاب القسم والنشور – باب ما جاء في قول الله عزوجل: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} جـ7، ص298.
[33] المغني (7/28) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
[34] فتح الباري، جـ9، ص313.
[35] المغني (7/22) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
[36] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها رقم الحديث 5212 – فتح الباري (9/312).
[37] فتح الباري (9/312).
[38] رواه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح – باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له – رقم الحديث 5217 فتح الباري (9/317).
[39] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب دخول الرجل على نسائه في اليوم رقم الحديث 5216 – فتح الباري (9/316).
[40] صحيح البخاري، كتاب الطلاق – باب لم تحرم ما أحل الله لك – رقم الحديث 5267 – فتح الباري (9/374).
[41] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب من طاف على نسائه في غسل واحد، رقم الحديث 5215. فتح الباري (9/316).
[42] رواه البخاري في صحيح، كتاب النكاح – باب القرعة بين النساء إذا أراد سفراً، رقم الحديث 5211. فتح الباري (9/310).
[43] رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود.
سنن الترمذي – كتاب النكاح رقم الباب 33، جـ3، ص435 رقم الحديث 1128.
سنن ابن ماجه – كتاب النكاح – رقم الباب 40 ورقم الحديث 1953 جـ1، ص628.
سنن أبي داود – كتاب الطلاق، باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع جـ1، ص519.
[44] صحيح البخاري، كتاب النكاح – باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي – رقم الحديث 5242 فتح الباري (9/339).
[45] سورة الأحزاب: آية 37 – 38.
[46] سورة الأحزاب: آية 50.
[47] سورة الأحزاب: آية 52.
[48] الإصابة في تمييز الصحابة. لابن حجر (4/459).
[49] سورة الأحزاب: آية 37.
[50] فتح الباري، جـ9، ص115.
د. ناصر بن عقيل الطريفي
مواقع النشر (المفضلة)