كروية الأفلاك واستدارتها مما أجمع عليه سَلَف الأمة من الصحابة والتابعين، لا يُعرف بينهم نِزَاع في أن الفلك مستدير، وقد حكى إجماع علماء المسلمين على ذلك غيرُ واحد، كأبي الحسين بن المنادى الإمام الذي له 400 مصنف، وكان من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد، ومنهم: أبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي، والآثار بذلك معروفة ثابتة عن السَّلف، كما دل على ذلك الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33].
قال الرازي في تفسيرها: "الفلك في كلام العرب: كل شيء دائر، وجَمْعُه أفلاك، واختلف العقلاء فيه، فقال بعضهم: الفلك ليس بجسم، وإنَّما هو مدار هذه النُّجوم وهو قول الضَّحاك، وقال الأكثرون: بل هي أجسام تدور النجوم عليها، وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، ثم اختلفوا في كيفيته، فقال بعضهم: الفلك موجٌ مكفوف تجري الشمس والقَمَر والنُّجوم فيه، وقال الكلبي: ماء مَجموع تجري فيه الكواكب، واحتجَّ بأن السباحة لا تكون إلاَّ في الماء، قلنا: لا نسلِّم، فإنه يقال في الفرس الذي يَمد يديه في الجري: سابح، وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة: إنَّها أجرام صلبة، لا ثقيلة ولا خفيفة، غير قابلة للخرق والالتئام، والنمو والذبول، فأمَّا الكلام على الفلاسفة، فهو مذكور في الكتب اللاَّئقة به، والحقُّ أنه لا سبيلَ إلى معرفة صفات السموات إلا بالخبر.
واختلفَ النَّاس في حركات الكواكب، والوجوه الممكنة فيها ثلاثة، فإنَّه إما أن يكون الفلك ساكنًا والكواكب تتحرك فيه، كحركة السمك في الماء الراكد، وإمَّا أن يكون الفلك متحركًا والكواكب تتحرك فيه أيضًا، إمَّا مخالفًا لجهة حركته، وإمَّا موافقًا لجهته، إمَّا بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء وإمَّا مخالفة، وإمَّا أن يكون الفلك مُتحركًا والكوكب ساكنًا.
أما الرأي الأول، فقالت الفلاسفة: إنَّه باطل؛ لأنَّه يوجب خرق الأفلاك وهو محال، وأمَّا الرأي الثاني، فحركة الكواكب إن فرضت مخالفة لحركة الفلك، فذاك أيضًا يوجب الخرق، وإن كانت حركتها إلى جهة الفلك، فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء، لزم الانخراق، وإن استويا في الجهة والسُّرعة والبطء، فالخرق أيضًا لازم؛ لأنَّ الكواكب تتحرك بالعرض؛ بسبب حركة الفلك، فتبقى حركته الذَّاتية زائدة، فيلزم الخرق، فلم يبقَ إلا القسم الثالث، وهو أن يكون الكوكب مغروزًا في الفلك، واقفًا فيه، والفلك يتحرك، فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك، واعلم أنَّ مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك، وهو باطل، بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة والله - تعالى - قادر على كل الممكنات، والذي يدل عليه لفظ القرآن أن تكون الأفلاك واقفةً، والكواكب تكون جارية فيها كما تسبِّح السمكة في الماء".
وقال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، "...الفَلَك، ماذا؟ نقول: الجسم المستدير، أو السَّطح المستدير، أو الدائرة؛ لأنَّ أهل اللغة اتَّفقوا على أن فَلَكَة المغزل سُمِّيت فلكة؛ لاستدارتها، وفلكة الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة، التي توضع على رأس العمود؛ لئلا يمزق العمود الخيمة، وهي صفحة مستديرة، فإنْ قيل: فعلى هذا تكون السماء مستديرة، وقد اتَّفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة ليس لها أطراف على جبال، وهي كالسقف المستوي، ويدل عليه قوله - تعالى -: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5]، نقول: ليس في النُّصوص ما يدل دلالةً قاطعة على كون السماء مَبسوطة غير مستديرة، ودل الدليل الحسِّي على كونها مُستديرةً، فوجب المصير إليه، أمَّا الأول، فظاهر؛ لأن السقف المقبب لا يَخرج عن كونه سقفًا، وكذلك كونها على جبال، وأمَّا الدليل الحسي فوجوه:
أحدها: أن من أمعن في السير في جانب الجنوب يظهر له كواكب، مثل: "سهيل" وغيره ظهورًا أبديًّا، حتى إنَّ من يرصد يراه دائمًا ويخفى عليه "بنات نعش" وغيرها خفاءً أبديًّا، ولو كان السماء مسطحًا مستويًا، لبان الكل للكل، بخلاف ما إذا كان مستديرًا، فإنَّ بعضه حينئذٍ يستتر بأطراف الأرض فلا يُرى.
الثاني: هو أن الشمس إذا كانت مقارنة لـ"الحمل" مثلاً؛ فإذا غربت ظهر لنا كوكب في منطقة البروج من "الحمل" إلى "الميزان"، ثم في قليل يستتر الكوكب الذي كان غروبه بعد غروب الشمس، ويظهر الكوكب الذي كان طلوعه بعد طلوع الشمس، وبالعكس، وهو دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير قطعيًّا.
الثالث: هو أنَّ الشمسَ قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوءها، ويستنير الجو بعض الاستنارة، ثم يطلع، ولولا أنَّ بعض السماء مستتر بالأرض، وهو محل الشمس، فلا يرى جِرْمها وينتشر نورها، لَمَا كان كذا، بل كان عند إعادتها إلى السماء يظهر لكل أحد جرمها ونورها معًا؛ لكون السماء مُستوية حينئذٍ، مكشوفة كلها لكل أحد.
الرابع: القمر إذا انكسف في ساعة من الليل في جانب الشرق، ثم سئل أهل الغرب عن وقت الكسوف، أخبروا عن الخسوف في ساعة أخرى قبل تلك الساعة التي رأى أهل المشرق فيها الخسوف، لكنَّ الخسوف في وقتٍ واحد في جميع نواحي العالم والليل مُختلف، فدل على أنَّ الليل في جانب المشرق قبلَ الليل في جانبِ المغرب، فالشَّمس غربت من عند أهل المشرق، وهي بعدُ في السَّماء ظاهرة لأهل المغرب، فعلم استتارها بالأرض، ولو كانت مُستوية، لَمَا كان كذلك.
الخامس: لو كانت السماء مبسوطة، لكان القمر عندما يكون فوق رؤوسنا على المسامتة أقرب إلينا، وعندما يكون على الأفق أبعد منَّا؛ لأن العموم أصغر من القطر والوتد، وكذلك في الشمس والكواكب، كان يَجب أن يُرى أكبر؛ لأنَّ القريب يُرى أكبر وليس كذلك، فإنْ قيل: جاز أن يكون وهو على الأفق على سطح السماء، وعندما يكون على مُسامتة رُؤوسنا في بحر السماء - غائرًا فيها؛ لأنَّ الخرق جائز على السماء، نقول: لا تنازعَ في جواز الخرق؛ لكن القمر حينئذٍ تكون حركته في دائرة، لا على خطٍّ مُستقيم وهو غرضنا، ولأنا نقول: لو كان كذلك، لكان القمر عند أهل المشرق وهو في مُنتصف نهارهم أكبر مقدارًا؛ لكونه قريبًا من رؤوسهم ضرورة، فرضه على سطح السماء الأدنى وعندنا في بحر السماء.
وبالجملة الدلائل كثيرة، والإكثار منها يليقُ بكتب الهيئة التي الغرضُ منها بيانُ ذلك العلم، وليس الغرض في التفسير بيان ذلك، غَيْرَ أنَّ القدر الذي أوردناه يكفي في بيان كونه فَلَكًا مستديرًا"؛ (مفاتيح الغيب).
ذكر الإمام أبو حاتم في تفسيره عن ابن عباس في قوله - تعالى -: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، قال: في فلكة مثل فلكة المغزل.
ويسبحون: يدورون في أبواب السماء، كما يدور المغزل في الفلكة.
وقال مجاهد: حسبان الرَّحى؛ وهو سفودها القائم الذي تدور عليه، وقال غيره: هو الحساب.
ولفظ الفلك في اللغة العربية يدُلُّ على الاستدارة؛ قال الجوهري: "فَلَكَة المغزل" سميت بذلك لاستدارتها.
و"الفَلَكَة" قطعة من الأرض أو الرمل تستدير وترتفع على ما حولها، والجمع "فَلَك"، وقال: ومنه قيل: فلَّك الشيء تفليكًا، وتفلك؛ أي: استدار.
وقد ذكر ابن جرير - رحمه الله - في تفسيره المشهور: أنَّ الفلك في لُغة العرب هو الشيء الدَّائر، وذكر في معناه عن السَّلف عدة أقوال، ثم قال ما نصه: "والصواب من القول في ذلك: أنْ يقال كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مجاهد: كحديدة الرَّحى، وكما ذكر عن الحسن كطاحونة الرحى، وجائز أن يكون موجًا مكفوفًا، وأن يكون قطب السماء، وذلك أنَّ الفلك في كلام العرب: هو كلُّ شيء دائر، فجمعه أفلاك".
ونقل - رحمه الله - عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنَّه قال: الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم، والشمس والقمر، وقرأ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61]، وقال: تلك البروج بين السماء والأرض وليست في الأرض.
وقد نقل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في التفسير كلام ابن زيد هذا، وأنكره.
قال الشيخ ابن باز: "ولا وجه لإنكاره عند التأمُّل؛ لعدم الدليل على نكارته".
وقال النسفي في تفسيره: "والجمهور على أنَّ الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم".
وقال الألوسي في تفسيره: "وقال أكثر المفسرين: هو موج مكفوف تحت السَّماء، تجري فيه الشمس والقمر"؛ (روح المعاني).
قال الشيخ ابن باز: وعلى هذا القول في تفسير الفلك والآيات المتقدمة آنفًا، لا يبقى إشكال في أنَّ الوصول إلى سطح القمر أو غيره من الكواكب لا يُخالف الأدلة السمعية، ولا يلزم منه قدح فيما دلَّ عليه القرآن من كون الشمس والقمر في السماء، ومن زعم أن المراد بالأفلاك السموات المبنية، فليس لقوله حجة يعتمد عليها فيما نعلم، بل ظاهر الأدلة النقلية وغيرها يدل على أن السموات السبع غير الأفلاك.
بليل عبدالكريم
مواقع النشر (المفضلة)