[align=justify]
لم يخلُقنا اللهَ -جلّ وعلا- عَبثًا، وإنما خلَقَنا لأمرٍ عظيم هو عبادتِه وطاعتِه، وأخبَرَنا أنّه سيجمعنا في يومٍ لا ريبَ فيه، يجمع الله فيه الأوَّلين والآخِرين: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9].
في ذلك اليومِ يومِ الجزاءِ والحسابِ يقِف الخلائقُ على أعمالِهم كلِّها، دقيقِها وجليلِها، على الأقوال والأعمالِ: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا*اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13، 14]، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. في ذلك اليومِ يَقِف كلٌّ منّا على عمَلِه، إن خيرًا وإن شرًّا: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30].
ولا تزالُ قدمَا عبدٍ منّا في ذلك اليومِ العظيم حتى يُسألَ عن أربع : يُسأَلَ عن عمرِه: فيم أفناه؟ هذا العمُر الذي مضى، قلَّت سنونه أو كثُرت، ستُسأَل: فيمَ أفنيتَ هذا العمر؟ هل أفنيتَ هذا العمر في طاعة الله؟ هل أفنيتَه في القيام بما أوجَبَ الله عليك؟ هل مضى ذلك العمُر في عملٍ صالح تتقرَّب به إلى الله؟ أم عمر مضَى في البطالةِ والجهالاتِ؟ عمر مضى في السّفَه واللّعِب، عمرٌ مضى في الغفلةِ والإعراض؟ وسيندم العبدُ على ذلك: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ*بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27، 28].
إنّ هذا العمرَ ستُسأَل عنه أيّها العَبد، تُسأَل عن هذا العمرِ: فيم أفنيتَه؟ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} [فاطر:37]، تسأَل عَن شبابك: فيمَ أبليتَه؟ هذا الشبابُ موضِع القوّةِ والنشاطِ تسأَل: [في] ماذا أبليته؟ هل أبليتَه بالخيرِ أم مضى شبابٌ في الطّيشِ والجهل والإعراض؟ إنّه سؤال حقٌّ واقع، فعلى كلٍّ منّا أن يحاسِبَ نفسَه، ويعِدَّ لهذا السؤالِ جَوابًا.
سنُسأَل عن هذا المالِ الذي بأيدِينا سؤالان: مِن أين هذا المال أتى؟ وفيمَ أنفِقَ هذا المال؟ هذا المالُ الذي بيدِك وهو زينةٌ من زينةِ الدنيا ستُسأَل يومَ القيامة عنه: عن طرقِ اكتسابِه وعن وسائِل إنفاقِه، من أين اكتسبتَ هذا المال؟ أمِن حلٍّ أم حرام؟ هذا المالُ الذي بيدِك من أين أتاك؟ ما هي طرق اكتسابه؟ هل كان الاكتساب طريقًا مشروعًا؟ هل كان طريقًا مأذونًا به شرعًا أم كان هذا الاكتسابُ حرامًا سرِقةً أو غصبًا، غشًّا وخداعًا، ربًا ومَيسرًا وقِمارًا وأمورا باطلة؟ فاستعدَّ لهذا الحساب، وحاسِب نفسَك، وطهِّر مالك من كلِّ مكسبٍ خبيث.
وتسأَل أيضًا يوم القيامة: فيم أنفقتَ هذا المال؟ هل كان الإنفاق في وجوهِ الخير ؟ أم كان الإنفاقُ في الباطل؟ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47].
وتُسأل عن عِلمِك: ماذا عَمِلتَ في هذا العِلم؟ علِمتَ حقًّا ماذا عمِلتَ فيه؟ هل كان هذا العلمُ سببًا للعمَل وسببًا للاستقامةِ؟ أم كان هذا العلمُ سببًا للطّغيان والأشَر والإعجاب بالنّفس وسببًا للإعراضِ والصّدود عن سبيل الله؟ فكم مِن علم ينفَع عالمَه ويقوده إلى كلِّ خير، وكم من علمٍ هو وَبالٌ على صاحبِه وحجّة على صاحبِه، في الحديث: (والقرآنُ حجّة لك أو حجة عليك).
فإذا علِمنا أنّنا مسئولون عن أعمالِنا وعن الجزءِ المهمِّ منه وهو الشّباب، سنُسأَل: فيمَ أمضينَا هذا العمر؟ وفيم أبلَينا هذا الشباب؟ ونحاسِب أنفسَنا يمرّ بنا العام تلوَ العام فماذا قدمنا؟ هل كان يومُنًا خيرًا من أمسِنا أو كان أمسُنا خيرًا من يومنا؟ وهل نيّةٌ صادقة للاستقامةِ على الطاعة وتبديلِ السيِّئات بالحسنات وصحائفِ الأعمال السيّئة بصحائف أعمال خيِّرة، فيها الخيرُ والتقى والصّلاح؟
إنَّ من تدبَّر حالَه وعلِم أنّه مسئول عمّا قال وعمِل؛ أحدث له ذلك تحوُّلاً في حالِه واستقامةً على الخير وطلبًا للعمل الصالح وسؤالَ الله الثباتَ على الحقّ، لا بدَّ أن نسأَل عن أعمالِنا وأقوالنا، يقول الله -جلّ وعلا-: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ*يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12]، والله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ*فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:19-22]، وغيره ممّن أوتي كتابَه بشماله يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ*يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ*مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25-28].
فلا ينفَعُك يومَ القيامة مالٌ جمعتَه، ولا كثرةُ ولدٍ، ولا طول عمر، إنما ينفعك عملٌ صالح عمِلته، مالٌ طيّب أنفِق في وجوهِ خير، وعمُر مديدٌ استغِلَّ في العمل الصالح، وتربيةٌ لأبناء أو بناتٍ يكونون لك عقِبًا صالحًا تسعَد بهم في آخرتِك.
[/align]
[align=justify]
قال (صلى الله عليه وسلم) : [لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ وعن علمه ما عمل به ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟ وعن جسمه فيما أبلاه ؟]
الراوي: أبو برزة الأسلمي .
المحدث: المنذري .
المصدر: الترغيب والترهيب .
الصفحة أو الرقم: 4/298
خلاصة الدرجة: [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]
[/align]
مواقع النشر (المفضلة)