إناءُ الـتَّوَكُّل ؟
نشاهد كل صباح كيف تغادر الطيور أعشاشها ، غادية تنشد أرزاقها
وهي آمنة مطمئنة على أنْ سعيها في ذلك لن يخيب ، وإنَّ المرء ليعجب أشد العجب
من طيور بلا عقول كيف تبذل الأسباب وتبهجها النتائج ، ومن أُناسٍ رُزِقوا العقول
وتسخطوا من سوء النتائج وهم لم يبادروا بأية سبب !
إنَّ الإنسان الذي يُحسن أنْ يغمس قلبه في إناء التوكل كل صباح مثلما تفعل
الطيور ، لحريٌ بأنْ تلازم السكينة قلبه ويخالط الإطمئنان روحه ، لأنه على
عَلِمٍ أنَّ ما كُتِب له سوف يأتيه لا محالة ، ولكن عليه أولاً أنْ يسعى
وليس عليه إدراك النجاح !
فهناك إذن فرق بين التوكل والتواكل ، كما قال عمر بن الخطاب لقوم من اليمن
رآهم يتكففون الناس في الحج فسألهم من أنتم ؟
فقالوا نحن المتوكلون !
فقال : كذبتم ، بل أنتم المتواكلون ، الـمـتـوكل مَـن ألقى حــبــة في الأرض ثم تـوكل على الله .
فالتوكل هو بذل الأسباب الموجبة للمصلحة والتوكل على الله عز وجل في إدراك
هذه الغاية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله :
يارسول الله أعقلها وأتوكل ، أو أطلقها وأتوكل ؟
قال :{ أعقلها وتوكل }رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام :{ لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله ،
لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً ( أي جياعاً ) ،
وتروح بطاناً ( أي شباعاً ) }. رواه أحمد والترمذي .
أما الثاني فهو عدم بذل الأسباب وادِّعاء التوكل على الله عز وجل
ولذلك عده أهل العلم من السفه ، فأنَّ الطير لم تجلس في وكناتها
تنتظر الرزق ولكنها بذلت الأسباب فعادت بالنتائج .
وليُعلم أنَّ حقيقة التوكل أعم من التوكل في جلب مصالح الدنيا ،
فيدخل فيه الكثير من أعمال القلوب الأخرى كالإستعانة على الطاعة
كما قال ابن القيم ودليلها من كتاب الله{ إياك نعبد وإياك نستعين }
وغيرها من الأعمال القلبية التي هي في الأصل عبادة ،
فلا يجوز أن نقول مثلاً : توكلت على الله وعليك ،
ولا أن نقول أيضاً توكلت على الله ثم عليك ، حتى لو كان قائلها يقصد
التوكيل والإنابة عنه ، لأن التوكل عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى ،
فهي كلمة وردت في حـق الله تـعـالى ، قـال الله عـز وجـل :{ وتوكل على الحي الذي لا يموت}
وقال :{ وعلى الله فتوكلوا }.
وهناك فرق بين التوكل والإعتماد الذي هو في الحقيقة الثقة
كأن نقول لمن وثقنا به : أعتمد على الله ثم عليك في إنجاز هذا
العمل ، فهذا جائز أما التوكل فلا يجوز .
ومما حُكيَ في التوكل في جلب الرزق ، ما ذُكِرَ أنَّ عروة بن الأذينة الشاعر
سافر إلى دمشق للقاء الخليفة هشام بن عبدالملك ، وعندما دخل عليه سلم
واشتكى ديناً ، فقال هشام : ألست القائل ..
لقد علِمتُ ومالإشرافُ من خُلُقي .. أنَّ الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إلـيـهِ فـيُـعْـيـيـني تـطـلـبُـهُ .. ولـو قـعـدتُ أتـاني لا يُـعـنَّـيـني
ثمَّ جِئْتَ تطلب ، فهلّا قعدتَ في بيتِك ما دمتَ تقول ذلك ؟
فقال عروة : وعظتَ يا أمير المؤمنين فأبلغت .
ثمَّ قفل راجعاً إلى المدينة ، وعند حلول المساء ندِمَ الخليفة هشام على فعله وقال في نفسه :
شاعر تجشَّمَ عناء السفر لحسن ظنه بنا أفأرده صفر اليدين ؟
فأمر بإحضاره ولكن قيل له أنه ارتحل من حينه ، ولم يكن قد علم بعودته ،
فبعث في أثره رسولاً بألفيْ دينار لعله يدركه في الطريق ،
ولكن الرسول لم يدركه إلّا بعد أنْ دخل بيته منذ قليل .
فطرق الباب وعندما فتح عروة ، قال له : أنا رسول أمير المؤمنين ،
بعثني بألفيْ دينارٍ لعلي أن أدركك في الطريق .
عندها قال عروة : قل لأمير المؤمنين الأمر على ما قلت ،
قد سعيتُ إليه فأعياني ، و قعدتُ فأتاني !
ولكن عروة قد بذل السبب أيضاً ، لأنه لو لم يذهب للخليفة في دمشق
لم يأتهِ رسوله في المدينة بألفيْ دينار !
وهذا بابٌ يحتاج إلى نظر دقيق ،
أسأل الله أن يرزقنا حُسن التوكل وصدق اليقين ...
بقلم / طلال المناور
مواقع النشر (المفضلة)