+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: باب الاستعاذة

  1. #1
    ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute الصورة الرمزية ابو مالك
    تاريخ التسجيل
    20 / 03 / 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    50
    المشاركات
    6,574
    معدل تقييم المستوى
    7060

    افتراضي باب الاستعاذة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    باب الاستعاذة
    الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري


    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أعوذ:أي: ألوذ وألتجئ وألتصق بجناب الله تعالى، والعوذ والتعوذ والاستعاذة بمعنى واحد،وذكر العلماء لذلك خمسة أركان، نلخصها فيما يلي:
    أولا الاستعاذة: وهي الاحتراز من شر الوسوسة التي كأنها حروف خفية تدق على قلب الإنسان أو كهمزات يقذف بها شياطين الجن على الخواطر تتأثر بها المشاعر والجوارح، وهمسات يقذف بها شياطين الإنس بأساليب شتى؛لفتنة من يريدون فتنته.

    ثانياً: المستعيذ: وهو الذي عرف نفسه أنه عبد مربوب، فالتجأ إلى ربه وخالقه القادر القاهر الغالب أن يمنعه مما لا طاقة له بشره،ولا يقدر على التخلص منه إلا بمعونته وعصمته، إذ لا تتصور الاستعاذة بخلاف ذلك.

    ثالثا: المستعاذ به: وهو الركن الأعظم في الاستعاذة، وذلك ألا يستعاذ إلا بالله، وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، بل يستحيل أن يعرض لها مانع أو عائق، ومنها ما نصت عليه هذه الآية ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40]، فالاستعاذة بغير الله شرك.

    رابعاً: المستعاذ منه: وهو الشيطان على اختلاف أجناسه وأنواعه من الجن والإنس - كما سنفصلها- لدفع شره الحسي والمعنوي، وتطهير القلب من أنوا ع فتنته، كي لا تتحرك الجوارح، أو تنطلق بما يخالف أمر الله من كل شيء، إذ به الاستعاذة عز وجل على تحقيق عبوديته، والتشرف بتنفيذ حكمه وشرعه، والاستعاذة من شر ما يعوقه ويغويه، كما أرشد إلى ذلك في فاتحة كتابه وفي خاتمة سورة (الناس) بأكمل أنواع الضراعة وأعظمها.

    خامسا: المطالب التي من أجلها يستعاذ:
    وهي نوعان:
    أحدهما: طلب دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية مما يحصل به السلامة من جميع أنواع الفتنة: المادية أو الروحية، فتنة الشبهات أو الشهوات، وكلها أمور غير متناهية ولا مأمون عليها، فيجب على الإنسان أن يكون مجاهدا نفسه عنها لله وفي الله - دائما وأبدا - فيما يقدر عليه، ويستعيذ به مما لا يقدر عليه؛ ليحصل منه على العصمة، ويحصل له العون والمدد الروحي الذي يحصنه ويقوي معنوياته، وينور بصيرته، بسبب ما تلبس به من التقوى، فلا يضره عدوه في دينه أو بدنه أو ماله، ولا يصده عن فعل ما يلزمه من حق ربه.

    وثانيها: طلب العون من ربه على أداء ما أوجب عليه في هذه الحياة من أن يكون هادياً مهدياً، محافظاً لحدود اللّه، معظماً لشعائره، حاملا لرسالته، ساعياً في إصلاح ما أفسده المبطلون في أرضه على ضوء الوحي الذي ورثه من نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو مسئول عنه ومعاقب على التفريط فيه بشتى العقوبات العاجلة والآجلة، فهذا بعض مدلول الاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم.

    شياطين الجن والإنس:
    وليعلم أن (الشيطان) ليس متصوراً معناه على إبليس وذريته، بل هو اسم جنس لكل متمرد عارم عات من الجن والإنس والدواب، ولكل من تعاون مع إبليس وكان من جنوده في الإغواء وتحبيذ المنكر والفحشاء، والصد عن سبيل اللّه، والدعوة إلى الطريق الباطل بأي أسلوب وتحت أي شعار أو مذهب، فالشيطان في لغة العرب مشتق من (شطن) أي بعد بطبعه وسلوكه أو مذهبه.فمن ابتعد بشيء من ذلك عن سائر بني جنسه فهو شيطان، لاسيما إذا كان فيه شيء من الطغيان أو الاستعلاء والاستكبار، ومن هذا النوع إبليس، ومن اقتفى أثره وورث طباعه من الجن والإنس، ومن ابتعد عن الخير المألوف بفسقه أو فجوره وكان ساعياً أو مرغبّا بضده فهو شيطان مهما كان جنسه وصفته، قال( سيبويه): العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل فعل الشياطين، ولهذا يسمى شيطانا كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان وقد نزل عمر عن البرذون، الذي أركبوه إياه قائلاً: (ما حملتوني إلا على شيطان ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي)[1]. قال اللّه - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾[الأنعام: 112].

    وكل من حاول فتنة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأمم الأنبياء قبله عما شرع اللّه لها على ألسنتهم فهو شيطان؛ لمفارقة أخلاقه أخلاقهم وابتعاد مذهبه وذوقه عن مذهبهم، فهو من أعداء الأنبياء إلى يوم القيامة، يقول العربي: شطنت داري عن دارك، إذا بعدت.

    قال النابغة الذبياني:

    نأت بسعاد عنك نوى شطون
    فبانت والفؤاد بها رهين


    وقال أمية:

    أيما شاطن عصاه عكاه
    ثم يُلْقَى في السجن والأغلال


    من شطن يشطن فهو شاطن، إذ لو كان من (شاط - يشيط) لقال: أيما شائط. وقال غيره:

    أتقبل عذر الصب أم أنت عاذله
    لذكر حبيب عنه شطت منازله


    فكل شاطن عاص ٍ مبتعد عن وحي اللّه، ساع ٍ لإبعاد الناس عن شرعه وحكمه، عامل على إغوائهم وإغرائهم، أو متسلط بقهرهم على سلوك الباطل فهو شيطان، وأشد منه شيطنةً من يرهق الناس بالقتل والتعذيب؛ ليتبعوه على مذهبه ويتحدوا معه في هدفه، كطغاة الشيوعية ورؤساء الإلحاد الذين تقبلوا مذاهب اليهود، وأبرزهم الاستعمار بين شعوبهم بأنواع حيله ومكره وشعاراته الدجلية، التي يغزو بها القلوب ويفسد العقيدة الإبراهيمية. فإنه يزيد على إبليس في الشيطنة لأن إبليس قال: ﴿ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 8-82 ]، وقال ﴿ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 62].

    وهذا الشيطان المتسلط من الإنس على بني جنسه لم يقتصر على الإغواء كإبليس، ولكنه تسلط بجميع أنواع الفتنة والإرهاق؛ يريد إغواء الجميع وإضلالهم واحتناكهم، كاحتناك الجراد للزرع، واحتناك اللجام للفرس، حيث لا يدع أحداً ينطق إلا ما يوافقه ولا يسعى إلا بما يهواه، فهو من جهة فيه يزيد على إبليس بتزيين الشر والإغراء على السوء والفحشاء والمنكر، وتحبيب ذلك بالأساليب الموافقة لكل عصر، والداخلة في ذهن كل واحد بحسبه، وهو من جهة أخرى أشد نكاية من إبليس الذي لا يقدر إلا على الوسوسة والتمثل بغيره من أعوانه، فهذا من جنده المنفذين لخططه، المنطلقين في خدمته ومرضاته، وبالطبع ليس للسلطان قيمة بلا جنود، فهذا الذي نصب نفسه من حيث يشعر أو لا يشعر جنديا لإبليس يزيد شره عليه؛ لما يعمله من التسلط وتجنيد القوى المادية والأدبية والمعنوية مما يعظم به ضرره ويشتد خطبه - والعياذ باللّه - فما أجمع حكم اللّه للخير !! وأبلغ كلامه في الإرشاد والابتعاد عن الشر !! إذ قال: ﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]، ولم يقل: استعذ من إبليس، لكثرة أجناس الشياطين وأنواعهم، الذين يصدون عن سبيل اللّه، ويلبسون الحق بالباطل، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وينفثون في صدور الناس خلاف الحق، ويشغلونهم عن قراءة القرآن ويلغون فيه، ويصرفونهم عنه بتسخير جميع الوسائل الملهية التي يضيعون فيها أوقاتهم ويحملونهم أن يتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وقد ورثوا ذلك من أئمة الكفر كابراً عن كابر، إذ حكى اللّه عنهم أنهم قالوا: ﴿ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26].

    وما أكثر أعداء الرسل من شياطين الإنس الذين ظهروا في كل عصر وبلد وفي كل فترة!! وهم أشد ضرراً من شياطين الجن كالفراعنة، ومن على شاكلتهم من فلاسفة الإغريق والرومان، وملاحدة اليهود المتنوعين ممن ظهر قبل البعثة المحمدية وبعدها ممن على عهده صلى الله عليه وسلم كأئمة الكفر من قريش ويهود وغيرهم، كرأس المنافقين عبداللّه بن أبي بن سلول، ومن على نهجه من المرجفين في المدينة، وممن خرج بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يدس ضد الإسلام الدسائس ويحيك المؤامرات، كعبداللّه بن سبأ وميمون بن القداح وأعوانهما ومن على شاكلتهما من الطواغيت، الذين ينشرون المبادئ الهدامة والنظريات المضللة والفرقة لصفوف الأمة تحت شعار مذهب أو حب أسرة أو دعوى خلافة أو مهدوية، سواء كانوا من علماء السوء أو رؤساء الفتنة والضلال، وهم يستغلون الدين تارة، والمادية تارة، وعصبية الجنس تارة، وتقديس الوطن تارة، ودعوى الحضارة والتطوير تارة، والفلسفة وعلوم النفس تارة، حسب ما يلائم الأوضاع والبيئات، ويلبسون الحق بالباطل بأروع فنون الجدل؛ لترويج مذاهبهم وتنفيذ مقاصدهم بشتى الوسائل والأساليب، ويسلكون لكل طبقة مسلكاً، ويلبسون للناس الأثواب المتنوعة من الدجل والتقشف، أو من العبادة والتصوف، أو دعوى محاربة الأعداء وتحرير الأوطان، أو دعوى الباطنية أو محبة الأسرة الفلانية أو النحلة الفلانية، أو نشر الطريقة التيجانية أو الرفاعية، أو الحلولية، أو الاتحادية، أو النقشبندية، أو البابية والبهائية، أو الاسماعيلية، أو القاديانية، أو غيرها. كأنواع القبورية، أو المذاهب العصرية التي نبشها ملاحدة اليهود والنصارى من قومية وبعثية وشيوعية واشتراكية ونحوها من رواسب المزدكية والماركسية، أو دعوى رفع الظلم والاستغلال إفكاً وزوراً ونحوها، مما أظهروا من كل ما هو مخالف ملة إبراهيم وشريعة سيد المرسلين - عليهما الصلاة والسلام- على أيدي من وصفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنهم: يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب[2].

    فهذه النحل كلها-ما خرج منها وما سيخرج - من وحي شياطين الجن والإنس، وهي مهما اتسمت بسمة الدين أو المادة أو المصيبة الجنسية أو الوطنية، أو تسترت باسم الطب والفلسفة وما إلى ذلك، فكلها منشؤها السياسة الفاجرة الماكرة بالدين وأهله؛ ليجعلوهم شيعاً وأحزاباً متناحرة، ولو جهل بعض حملتها من أعوان الشياطين ذلك، فإن المؤسسين لها في الأصل هذا قصدهم ولهم غايات من وراء ذلك حملتهم عليها حاجات في صدورهم، فاندفعوا إلى ما يريدون بكل حماس واتبعهم كل موتور، ومن يرى أنه مكبوت، أو قلبه ملتهب بالحقد على منافسيه، أو من هم أعلى منه، وساعدهم المرتزقة والفوضوية الذين هم أتباع كل ناعق، فهكذا كثرت سبل الشياطين واتُّبِعَت، وقل سالكو الصراط المستقيم بسبب فتنة أولئك، ولم يكتف اللَّه بأمره عباَده بالاستعاذة من جنس الشيطان، بل أخبرهم بطرق الشياطين ومصائدهم وخطواتهم، مبتدئاً في إخبارهم بقصة إغواء كبيرهم وأستاذهم إبليس للأبوين آدم وحواء، كيف دلاهما بغرور، وقال: ﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [ الأعراف: 21-20].

    فورثة إبليس سلكوا طريقته في تغرير بني آدم، وإغوائهم على الشر، وتحبيب الرذيلة، وهجر الفضيلة باسم التقدم والحرية والمدنية والحضارة، وتحبيب خيانة الله واطَّراح دينه ونبذ كتابه بدعوى التحرير والتطوير ومسايرة الركب والزحف المقدس والوعي وعدم الجمود والتخلف، والتمسك بأسباب الرقي والخلود، وما إلى ذلك من الألفاظ الرنانة والمظاهر الخلابة، التي ما هي في الحقيقة إلا استدراك على الله - تعالى - واستهانة بعزه وجحود بعلمه وحكمته، بل زادت فتنتهم ووسوستهم على قائدهم ورائدهم إبليس، بأن زعموا أن من لم يسلك خططهم متخلف رجعي يريد إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، أو عميل أو مستغل، ونحو ذلك مما هم به ألصق، والذي مسخ شخصيته بالانقياد لهم يصفونه بالوطني المتحرر،والخائن لعهود الله الفطرية والخلقية والشرعية، النافض يديه من بيعته، يصفونه بالحر الأبي الشامخ الرأس، وهكذا دواليك، ويغرون الناس بدعوى الإصلاح، وتأمين الخبز، وضمان العمل، وتحرير المرأة، والتكافل الاجتماعي، ونحو ذلك مما لا يتحقق على الوجه الصحيح المعقول المقبول إلا باتباع الإسلام وتحكيم الشريعة.

    وكذلك أخبر الله عباده عن الشياطين أن طبيعتهم الاستكبار والفخر وطلب العلو في الأرض، ورفض كل ما لا يصدر على أيديهم وإن كان صحيحاً نافعاً فالشيطان والطاغي يعادي الحق إذا صدر على غير يديه وأن من طريقتهم الأمر بالسوء على اختلاف أنواعه، وتحبيب القمار والفحشاء بكل وسيلة، والحض على المنكر بجميع أنواعه، والقول على الله بغير علم والإشراك به، كما فصل ذلك في سورة البقرة والأعراف والنور وغيرها، وليس الإشراك باللَّه مقصوراً على عبادة صنم.

    وها نحن نرى شياطين الإنس والجن في هذا الزمان يسمون الفساد إصلاحاً !!، والمؤامرات والفتن ونقض العهود تحرراً !!،وخيانة الله بنبذ ملة إبراهيم وطنيةً!!، وارتكاب الفواحش مدنية!!، والدياثة والقوادة حضارة وتطوراً واطراح الدين ونبذ القرآن رقياً ومسايرة للزمن !! وهكذا مما تلوكه شياطين الإنس بألسنتها في الأندية والإذاعات، وتسطره في الكتب العصرية، والنشرات الدورية، والصحف التي تفاقم شرها،فما أحرى المؤمن بكثرة الاستعاذة باللَّه من جنس الشيطان الرجيم، القاعد لعباد الله بالمرصاد القائل: ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17-16].

    فلقد تفاقم شر جنس الشيطان وكثرت جنوده وأولياؤه، وعمت فتنتهم وأضرارهم في هذا الزمان، بحيث تفننت شياطين الإنس بأنواع الصد عن سبيل الله في جميع وسائل الفتنة، والقعود للناس بكل صراط ومرصد، وسيطرتهم على أغلب المرافق ليخرجوهم إليهم، ويوعدوهم بالشر، ويلعبوا بعواطفهم ويتاجروا بعقولهم بالدجل السياسي، والتمويه الفكري، وبلبلة الخواطر، وقلب الحقائق، وتنويع الباطل، وتوزيعه بشتى الزخارف والألوان.

    وقد قرر العلماء أن: الساكت عن الحق شيطان أخرس والناطق بالباطل والساعي فيه شيطان ناطق، فالمثبط والمعوق للناس عن الأمر بالمعروف وإنكار المنكر هو شيطان بأي دعوى ادعى وبأي ثوب ظهر، وكذلك من يحبب إليهم الرذيلة ويمدحها بالأسماء المصطلحة الحديثة، أو يعمل على إزالة الحياء من المجتمع بأي وسيلة هو شيطان، سواء ظهر في ميدان التعليم أو الإذاعة أو الصحافة والنشر، فالصحافي الذي ينشر ما يخالف الملة الإبراهيمية والشريعة المحمدية [3]هو شيطان حتى ولو نشر قول من يرد عليه بحجة الحرية؛ لفتحه الجدل في آيات الله، قال تعالى: ﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [غافر: 4]. وكذا من ينشر ما يفسد الأخلاق ويذهب بالمروءة والحياء، فإن كان داعية محبذا لما ينشره قائما بتقريره وتركيزه فهو مع شيطنته يعتبر طاغوتاً؛ لإحلاله الغي محل الرشد، والفساد محل الصلاح.

    كما أن من أعظمهم شيطنة وخبثاً على الإطلاق من يعمل على إزاحة الناس عن ملة إبراهيم وشريعة محمد -عليهما الصلاة والسلام -، إذ هو مبدل لكلمات الله محرف لها، وكذا من يغري الناس بقوله أو فعله على تقليد أعداء الله ورسله في أزيائهم وأخلاقهم وأعيادهم ومراسيمهم مطرحاً سنة المصطفى وأصحابه وأتباعهم؛ لأنه يقول بلسان حاله أو صريح مقاله أو سوء خصائله لمن قلدهم من الكفرة: ﴿ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ﴾ [النساء: 51] فجميع ما ذكرناه من أنواع الشياطين، سواء كان من أهل الحكم أو الموظفين أو الصحفيين أو أساتذة التعليم والتوجيه أو أهل المكتبات لابتعادهم عما فطر الله الخلق عليه من ملة إبراهيم، وعمله على إبعاد الناس عن شريعة ربهم، فما أكثر الشياطين الذين يعملون في أغلب هذه الميادين،أعاذنا الله منهم.

    (والرجيم) على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي: يرجم الناس بالشر من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون في الغالب، فهو رجيم يزين لهم الشر ويغريهم على ما يقعون بسببه في طرق الرجم والهلاك الحسي والمعنوي، فوساوسه وهمزاته التي يندفع الناس إليها بتدليس أعوانه في كل زمان ومكان، ظاهرها الرحمة وباطنها وعاقبتها العذاب.

    والرجم والبؤس المطبق كما يشاهده الناس من آثار المؤامرات والانقلابات والدسائس والهمز واللمز والتهارط بقبيح القول، وقيل (رجيم) بمعنى (مفعول)فهو مرجوم بجميع أنواع الرجم قولاً وفعلاً، مرجوم بالشهب عند استراق السمع، وذلك شيطان الجن، أما شيطان الإنسان فهو مرجوم بالكلام عند استماعه ما يكره الناس، أو تسجيله المساوئ، ومرجوم بالعذاب وشدة النقمة منهم، وسوء مغبة الفتنة، وكثرة الشقاق، فهو رجيم من كلا المعنيين على الاشتقاقين، والجميع منهم مرجوم بالرد عن القبول والطرد عن رحمة الله، فقوله ومذهبه مردود وإن اغتر به بعض من تقبله بادئ الأمر، وهو مرجوم بالسوء من القول في كل المجتمعات الصالحة، وإن خفي أمره في بادئ ظهوره كانت عاقبته الرجم واللعنة، فحاصل الرجم (الرمي )سواء بالقول أو الفعل.

    ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم: ﴿ لَأَرْجُمَنَّكَ ﴾ [مريم: 46] فالشيطان بجميع أنواعه مهما ظهر ويظهر إلى يوم القيامة يكون مصيره الرجم المعنوي والطرد من رحمة الله بجميع معانيها ومبانيها، فهو طريد عن الخير، ولذا تجد شيطان الإنس، مرهقا متعباً يلهث كما يلهث الكلب؛ لنشر دعايته، وينفق الأموال الطائلة؛ للصد عن سبيل الله؛ فتكون عليه حسرة لانقلابها في غير صالحه؛ وانعكاس أعماله ومقاصده ضده، ولو فتح الله عليه بادئ الأمر شيئاً استدراجاً له ومكراً به، وعقوبة للمفتونين الذين افتتنت قلوبهم به فعاقبته السوء وعاقبتهم الدوران معه في حلقة مفرغة، يضيعون بها جهودهم وأوقاتهم بلا طائل، فما يطمع فيه من وحدة أعوانه ينقلب زيادة في الفرقة والشقاق، وما يطمع فيه من زيادة كسب الأصدقاء ينقلب عداوة ضارية، وما يطمع فيه من السعادة والرفاهية له ولأتباعه ينقلب بؤساً وشقاوة وما يطمع فيه من بسط النفوذ والسيطرة ينقلب إلى سوء الهلكة والإتباع باللعنة في التاريخ، كما جرى لكل شيطان من عهد ابن سبأ وأضرابه إلى (هتلر وموسيليني) ومن على شاكلتهما ممن ظهر أو أبرزه الاستعمار في كل أمة إلى يوم القيامة من أبيض وأسود وأحمر وأصفر.

    وكل شيطان من الثقلين فهو مطرود من رحمة الله عن نيل السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، ففكر في ذلك تجده واضحاً ملموساً من حال كل شيطان، وإن راج مذهبه على كثير من الأغمار الذين لاحظَّ لهم من الاطمئنان لما نزل من الحق، أو حصل له جولة في بادئ أمره أو تسلط على قومه بقوة بطشه أو حنكة مكره فإنه سينقلب إلى العكس، وينكشف أمره حتى يكون مرجوماً بكافة أنواع الرجم كالكذابين الماكرين الذين طلعوا على الناس بين الحين والحين في أصقاع الأرض، فكن أيها المسلم على يقظة وحذر بما يقذف به إليك سراً وجهراً، ظاهراً وباطناً، واجعل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما الميزان الذي تزن به كل شيء.

    وإذا أعجبك كلام أحد أو تبجحه بدعوى الإصلاح والتحرير والكفاح، أو أدهشك ما حصل عليه من نجاح أو ظهر على يديه من خوارق، فلا تجعل له في قلبك مجالاً حتى تنظر في سيرته وأعماله وتقارن ما يقول بما يفعل فإن كانت أعماله على وفق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ورأيته حاملاً رسالة الله آخذاً بكتابه، عاملاً لنصرة دينه وقمع المفتري عليه، مدافعاً عن قضايا المسلمين في كل قطر، فذلك من حزب الله، يجب عليك موالاته،ولو حصل منه بعض الذنوب التي لا يستحلها ولا يحض عليها؛ لأن العصمة ليست مشروطة بل مستحيلة وإن رأيت أن أحواله وأعماله كحال المنافقين التي كشفها الله في القرآن، وأن ما يدعيه مجرد مزاعم يتاجر فيها بعقول الناس ويلعب بعواطفهم وأن أعماله ومبادئه مستمدة من مذاهب ومبادئ ملاحدة اليهود والنصارى في الشرق والغرب، فذلك شيطان من جند إبليس وأئمة الكفر ودعاة الضلال، مهما كبرت مكانته أولا كثرت كتبه ومقالاته أو انتشرت جولاته وكثر أتباعه والمجندون لمبادئه،فإن الله يقول: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116].

    وقد جرى للمختار بن عبيد الثقفي الكذاب ما جرى وراج أمره بحجة الأخذ بالثأر حتى كشفه الله وأهلكه وأخزاه، وجرى من أبي مسلم الخراساني ما أنجح خطته ثم أهلكه الله على يد الذين سعى من أجلهم، وجرى من فتنة العبيديين الباطنيين والقرامطة في مصر والشام والأحساء والحجاز ما جرى، حتى ادعى بعضهم الألوهية وقتل الحجاج وصعد الكعبة صارخاً بأنه الله الذي يحيي ويميت، فسلط الله الآكلة في جسده، حتى هلك شر هلكة، وجرى من النصيرية وطغاة المبتدعة الذين صاغتهم سياسة اليهود الماكرة فظائع عظيمة، كشف الله غمتها وأراح أهل دينه منهم، ثم تنوعت أساليب سياستهم في القرون الأخيرة بأنواع الغزو الثقافي الفكري، فنبشوا النعرات القومية في أنحاء (أوربا) وركزوا جهودهم في (تركيا) لنبش القومية الطورانية، التي بسببها تنكر حكامها الجدد للإسلام والمسلمين عامة والعرب خاصة؛مما سهل لليهود وأذنابهم من النصارى وتلاميذهم بث النعرة العصبية في العرب ونشرها في وقت سريع، فأحدثوا تحت شعاراتها كثيرا مما يهدم ملة إبراهيم، ويناقض الشريعة المحمدية، ويمزق القرآن تمزيقاً معنوياً، فحصل من جراء ذلك في (تركيا) - وغيرها من بلاد المسلمين - شر كبير وفتنة تتغلغل إلى أكثر الأدمغة، بسبب ما جرى بعد عام 1914م من مؤامرات الصهاينة على أيدي الدول الظافرة، وإبرازهم ما شاءوا من تلاميذهم وأفراخهم.

    نقصر من ذلك على ذكر الطاغية (كمال أتاتورك) الذي تحمل المستعمرون في إبرازه لتضليل الأمة شائعة الذل والهزيمة المفتعلة، عسى أن ينتبه القراء للقياس الصحيح الذي يميزون به بين الحق والباطل، ويدركوا مدى مكر، المستعمرين وتهويلهم لإبراز من أرادوه صنيعة لهم من أبناء المسلمين؛ ليفعل بهم الأفاعيل، التي لم يفعلها الاستعمار في أي مكان، وليعرفوا كيف أن الدول الشيطانية تصبر على شتم صنيعتها، بل توعز له بذلك، وقد يظهرون عداوته وعمل مؤامرة صورية ضده؛ليغرسوا حبه في قلوب شعبه،حتى يتسنى له تنفيذ خطط الكفر في مجتمعه، وما أكثر أحابيل اليهود والمستعمرين التي لم تقتصر على شعب أو أمة أو قارة من القارات،فإنهم يجمعون بين المتناقضات، فينبشون مذهب (مزدك) اليهودي الشيوعي القديم في (روسيا) على يد خلفه اليهودي (كارل ماركس)، ويغرزون المذاهب الرأسمالية في الأمم الأخرى، كما يعبثون في الناس من جهة الاتصال ومن جهة العقائد والأخلاق بحيث لا يقتصر على جبهة دون جبهة، بل يركز مذهب (داروين) ونحوه ومذهب (فرويد) ونحوه من اليهود ذوي الخطط الماسونية، التي نرى أن أشراك مؤامراتها وأحابيلها أشد تأثيراً واصطياداً من (الأخطبوط) في الأخلاق والعقائد،وسائر ميادين الحياة الاقتصادية والروحية والثقافية والاجتماعية، حتى حصل لهم من هذه النعرات والمذاهب الخطيرة إقامة دولة تخدم قضاياهم.

    والله ضبط صفات المنافقين وجنود إبليس من شياطين الإنس بما هو مطرد ومخالف لوحيه وتنزيله، حتى أخبر أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، فعليك أيها المسلم بمعاداة من هذه صفاته وإن قال ما قال، وادعى ما ادعى، فإنه من شياطين الإنس الذين هم أضر من إبليس أبي الجن وذريته.

    وإذا كان الله أمرنا بالاستعاذة من جنس الشيطان من همزه ونفثه ونفخه ورفض خطواته عموماً فأمره يدل بطريق أولى على معاداته ومنابذته في كل شيء.

    فواجب المسلم أن يتعوذ باللَّه متبرئاً من الشيطان من (همزه) الذي يكون بالوسوسة والإغراء على الشر بجميع الوسائل، ومن (نفخه) الذي يكون بغرس الكبر بأن يقذف في روع الإنسان أنه من نوع كذا أو أنه من عنصر سام، فيلهب صدره بالقومية الفلانية والنعرة الفلانية، أو يطغيه بمركزه، فيجعله بهذا أو ذاك معرضاً عن الحق، ساعياً بالباطل كما وصف الله بعضهم بقوله: ﴿ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيه ﴾ [غافر: 56] ومن (نفثه)بالشعر والكلمات الرنانة المغرية على السير بالباطل والتمادي فيه معتقداً صوابه ونجاح طريقته، فإن أكثر ما تروج به مذاهب شياطين الإنس ومبادئهم، إما بالحديث المفترى أو بالشعر المفتعل؛ لأن في الإفك قوة خبرية وفي الشعر قوة عملية، إذ الإفك من سائر الأكاذيب فيه إضلال في العلم، بحيث يوجب اعتقاد الشيء على خلاف حقيقته، كما ابتلي الناس به في كل زمان، لاسيما زماننا الذي كثرت فيه وسائل انتشاره بسرعة فائقة.

    والشعر يفيد إشعار النفس بما يحركها وإن لم يكن صدقا، بل غالبه المغالاة والكذب؛فيورث محبةً أو نفرةً أو رغبةً أو رهبةً لما فيه من التخييل، ولذا كان الشعراء يتبعهم الغاوون؛لأن الغيّ اتباع الشهوات، إذ الشعر يحرك النفس حركة الشهوة أو النفرة في الفرح أو الحزن بالشيء، وذلك هو الغي. قال تعالى: ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ [الشعراء: 221-224].

    ولقد تفاقم شرهم في هذا الزمان حيث إن شياطين الإنس أراحوا الأبالسة وأراحوا طواغيت الاستعمار، بما عملوه من فتنتهم التي هي ﴿ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [ البقرة: 191]؛ لأنهم احتسوا من قيح الاستعمار ودمه وصديده، فأخذوا يمجونه على القلوب الطاهرة التي جاءتها فتنتهم الخبيثة، على فراغ أحدثه المفرطون في جنب الله بعدم إشغالها بحمل رسالته وعمارتها بحبه، وإشعالها بنار الغيرة لدينه وحرماته، كما أن شياطين الإنس - أيضا - تجرءوا على ما لم يجرؤ كل مستعمر عليه قولاً وتنفيذاً وفتنةً، وشياطين الجن مهدوا السبيل لهم بإحراق ما قدروا على إحراقه مما في الإنسان من مواهب الخير أو طمسها أو تصدئتها، حسب ما قدروا عليه منه، بحيث يكون قلبه غلفاً بذلك مما تقذف به شياطين الإنس وتحشوه من الباطل.

    فأكثر أيها المسلم من الاستعاذة متبعاً لها بالحذر واليقظة، والعمل الدائم لإعلاء كلمة الله وحفظ حدوده وقمع المفتري عليه، وأشغل نفسك في جميع أوقاتك بطاعته، كيلا تجعل للشيطان مجالاً أو فراغاً ينفذ منه، فلا يحصل له عليك سلطان؛ لأن المعرض عن ذكر الله ذكراً حقيقيا، والمفرط في دينه تستولي عليه الشياطين من كل ناحية، كما سنفسره في موضعه – إن شاء الله-.

    وعليك بالصدق قولاً وعملاً، فإن من استعاذ بالله صادقاً أعاذه وأجاره، كما أعاذ مريم وذريتها لما صدقت أمها امرأة عمران باستعاذتها. والشيطان عدو للمسلمين بجميع أنواعه من إبليس وذريته، إلى كافة جنوده من شياطين الإنس، فعلى المسلم مجاهدتهم وعصيانهم في كل أمر من إلحاد أو تشكيك أو إغراء على المعاصي وتحبيب للفواحش والقمار والإسراف، أو تثبيط عن الطاعة وحمل الرسالة والأمر بالمعروف، وسائر ما يقطع المسلم عن الله.

    ولا تكترث بما يصيبك؛فقد أخبرنا مولانا أنه يبتلي عباده ويزلزلهم بأنواع الفتن؛ ليختبرهم ويمحص قلوبهم كما في الآية (214) من سورة البقرة والآية (154) من سورة آل عمران، وقال في سورة محمد: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]. وروى الترمذي مرفوعاً: ((إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط))[4]. وتكلمت على الحكمة من هذا في كتاب سميته ((الحق والحقيقة من كلام خير الخليقة)) بما لعله لم يسبق له مثيل في موضوعه.

    وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بغالب ما يجري عليهم من الفتن إجمالاً، وما يعرض لهم فيها من الشبهات التي تجعل أحدهم يصبح مؤمنا ويمسي كافراً، وأخبرهم بالدجاجلة الكذابين والمسيح الأعور الدجال، وأمر بالابتعاد منه مخبراً أن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه لمؤمن فيتبعه بسبب ما يعرضه من الشبهات، ولكن الاعتصام بحبل الله المتين الذي هو كتابه المبين والاطمئنان الكامل لوعده ووعيده، وقوة الإيمان بالغيب والإخلاص، والصدق لله في العمل والاستقامة عليه، وقوة الرجاء فيما عنده، يكون المؤمن بها قوياً في ذات الله، متصلباً غاية التصلب على الحق ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101].

    البدء باسم الله:
    (بسم الله) أي: ابتدئ بكل اسم لله تعالى؛ لأن لفظ (اسم) مفرد ومضاف، فيعم جميع أسماء الله الحسنى، وللعلماء فيه تقديران كلاهما صحيح، فمن قدر بالاسم فتقديره (باسم الله ابتدائي) آخذاً ذلك من قوله تعالى ﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ [هود: 41].

    ومن قدره بالفعل فلقوله تعالى ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1] لأن الفعل لابد له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره بحسب الفعل الذي سميت قبله[5]، فالمشروع ذكر الله عند الشروع في أي شيء كما سيأتي بيانه.

    و(الله) هو المألوه المعبود المستحق الإفراد بالعبادة؛ لما اتصف به من صفات الألوهية ونعوت الكمال والجمال وما أفاضه من سوابغ النعم والأفضال، وهو لفظ الجلالة، لا ينبغي لأحد سواه لفظاً ولا معنى، إذ جميع صفات الله الحسنى صفات تجري على هذا الاسم العظيم، فلذا قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ﴾ [الأعراف: 180] وسنبين - إن شاء الله - حقيقة أن كل من عظم مخلوقاً واستجاب لدعايته واستحسن ما يصدر منه دون عرضه على ما جاء من الله، فهو ملحد في أسمائه ويجب أن يعامل كما أمر الله، و(الرحمن الرحيم) اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة، التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وقد كتبها الله للمتقين المتبعين ما جاء به الرسول النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك في سورة (الأعراف)، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها اقتضته حكمته في الكون.

    ولا ينكر اشتقاقها من الرحمة لحديث عبد الرحمن بن عوف أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته))[6]. قال ابن كثير: وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق، وقال العلامة المودودي في كون صيغة (الرحمن) في اللغة العربية من صيغ المبالغة: (ولكن رحمة الله على عباده ورأفته بمخلوقاته أعم وأشمل من أن تعني في وصفها صيغة واحدة من المبالغة مهما اشتدت، ولذلك جيء بعد (الرحمن) بكلمة (الرحيم)، ومن أمثلة هذا الوصف المصادف في كلام الناس قولهم:(أبيض يقق) للشديد البياض، و(أحمر قانٍ) للشديد الحمرة، و(السخي المعطاء) للكثير الجود، و(الطويل العنق) للمفرط في الطول، وكل ذلك لإتمام الوصف واستيعاب النعت.

    وعلى القارئ أن يعلم أنه من الأصول المتفق عليها عند سلف الأمة وأئمتها المعتبرين، الإيمان بأسماء الله وصفاته وأحكامهما، فيؤمنون مثلاً بأنه رحمن رحيم ذو الرحمة التي اتصف بها المتعلقة بالمرحوم، بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، فلا يلتفتون إلى منشئها في المخلوق ويقيسون عليه الخالق كما هي عادة خلف السوء الذي اضطرتهم هذه العادة المبتدعة إلى أن يسطوا على أسماء الله - تعالى - وصفاته بالتأويل الذي يئول إلى التعطيل والعياذ بالله فجميع النعم أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء، يقال في العليم أنه عليم ذو علم يعلم به كل شيء، قدير ذو قدرة يقدر على كل شيء، وبتوفيق الله للسلف لهذه القاعدة عصمهم مما وقع به الخلف في شقاق بعيد اشتغلوا به عن عبث الحكام، فعطل أكثرهم العمل بمدلول سورة (العصر) لتناحر بعضهم مع بعض فيما جرته عليهم القواعد الفاسدة، التي ليس لها أصل إلا في المنطق اليوناني، الذي هو قول على الله بغير علم، فهو من وحي الشيطان الذي فرح به السلاطين وعملوا على ترويجه؛ ليضربوا العلماء بعضهم ببعض فيتفكهوا عليهم ويسخروهم، فينصروا من يخدم رغباتهم، ويتمشى مع سياستهم وهو أول انخذال لرجال الدين دبره الخليفة (المأمون) بمكره الملعون، فنجى الله من اتقاه بتحكيم وحيه وهداه، وذلك من بعض إظهاره لنوره.

    وفي البدء بالبسملة أدب كريم من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته كما يفيد ذلك في ابتداء الوحي إليه بقول ربه له: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]. وهذا الأدب يتفق مع قاعدة الدين الحنيف من التعلق بالله وحده، والتبرك باسمه عمن سواه، وحصر التعظيم لجنابه جل وعلا، دون التفات إلى ما سواه بشيء من ذلك، فلا يجوز بعد هذا التعليم أن يبدأ بغير اسمه - تعالى - في أي مهمة وفي أي كتاب، لا باسم السلطان الفلاني، ولا باسم الرئيس، ولا باسم الملك، ولا باسم الأمير، ونحو ذلك من عادات المتعلقين بالأشخاص، والمقدسين للمادة والأوطان، إذ الله رب الكل، وفاطر الكل، والمهيمن على الكل ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّه ﴾ُ [هود: 123] ففي بدء (بسم الله) إشعار بأن هذا الكتاب العزيز الذي يهدي للتي هي أقوم مدار هدايته على الإخلاص لله والتعلق بجنابه العظيم، وأنه مناف لدقيق الشرك وجليله، ولا يقبل من عباد الله اتخاذ ند من دونه، في أي مظهر من مظاهرهم، أو سريرة من سرائرهم، وذلك هو ركيزة الإيمان بالغيب الذي هو أصل الخير ومصدر الهداية، والانتفاع بالتذكرة،الذي بدونه لا ينتفع الإنسان بحواسه، كما سيأتي توضيحه إن شاء الله.

    ومع ما في ذلك من (براعة الاستهلال) في بديع الكلام، فإنها - أيضاً- تركز معتقد الرحمانية وكون الله جل وعلا (هو الأول والآخر). وقد ورد في الحديث: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ بباسم الله فهو أبتر))[7] أي: أقطع، فهو أبتر من البركة، أو من حسن العاقبة، أو من كمال المنفعة، حسب ما شاء الله فيما يجريه على المعرضين عن ذكره وشكره، الصحيح من العقوبات القدرية المتنوعة الكثيرة التي لا تحيط بها العقول، وفي البداءة بذكر اسم الله في كل قول وفعل وحركة وأخذ ورد، يتحصن العبد المؤمن بلفظة الجلالة من شر ما خلق الله، وذرأه وبرأه وقدره وسلطه، كما تحصل البركة الحسية والمعنوية بذكره العظيم حسب قوة إيمان الذاكر ويقينه، فذكر الله مطردة للشيطان، وبه تحصل الحيلولة بينه وبين ما يريد من مشاركته للناس في الأموال والأولاد كما سلطه الله على غير عباده المخلصين.

    وقد اختلف العلماء كثيراً في البسملة هل هي آية من القرآن أو من كل سورة أو من الفاتحة فقط، أو ليست منها ولا من غيرها؟ وأقرب الأقوال إلى الصواب حسب النصوص أنها ليست آية من الفاتحة ولا غيرها، وإنما هي آية من القرآن فاصلة بين كل سورتين، كما أنها بعض آية من سورة النمل.

    وكذلك اختلف أهل العربية في اشتقاقها، فعند البصريين مشتق من السمو ولامه محذوفة، أما عند الكوفيين فهو مشتق من السمة وهي العلامة ففاؤه محذوفة، والمرجع عند المحققين قول الكوفيين؛ لأن الاسم علامة على المسمى، وقد ذكر بعض المفسرين أن تقديم الرحمن على الرحيم لوجهين:
    أحدهما:
    اختصاصه بالله.

    والثاني: جريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات، والله أعلم.

    [1] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في التفسير (1 /17) طبعة دار الفكر: وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب برذوناً فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً فنزل عنه... إلى آخره. وقال ابن كثير: إسناده صحيح. اهـ.
    قلت: وفي تصحيحه بهذا الإسناد نظر، وذلك أن هشام بن سعد مشهور ضعفه، قال أحمد: لم يكن بالحافظ، وكان يحيى القطان لا يحدث عنه، وقال ابن معين: ليس بذاك القوى، وقال النسائي: ضعيف، أما أبو داود فقال: هو أثبت الناس في زيد بن أسلم. انظر ميزان الاعتدال (7/80) اهـ.
    [2] أخرجه الترمذي (4/604) رقم (2404) من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبيد اللّه قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج في آخر الزمان رجال...))الحديث. وفي إسناده يحيى بن عبيد الله بن موهب وهو ضعيف، ضعفه ابن عيينة، وقال الجوزجاني: أبوه لا يعرف وأحاديثه من أحاديث أهل الصدق وقال أحمد: أحاديثه مناكير، انظر الميزان للذهبي (7/201)وقال الحافظ ابن حجر:متروك، وأفحش الحاكم فرماه بالوضع من السادسة. اهـ التقريب (7599).
    [3] يستخدم الشيخ رحمه الله هذا التعبير كثيرا، وأفضل منه أن يقال: الشريعة الإسلامية، لأن المستشرقين وأذنابهم يستخدمون هذا التعبير بسوء نية، لينسبوا الدين الإسلامي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه من اختراعه، وليس دينا إلهيا جاء من عند الله عز وجل.
    [4] أخرجه الترمذي(2396)، وابن ماجه (4031) وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، والحديث ذكره ابن عدي في الكامل (3/356) في ترجمة سعد بن سنان وذكر الاختلاف في اسمه فبعضهم يقول: سنان ابن سعد، وقال الإمام أحمد: لم أكتب أحاديث سنان لأنهم اضطربوا بها، وقال: يشبه حديثه حديث الحسن ولا يشبه حديث أنس.
    والحديث أخرجه معمر بن راشد في جامعه (11/197) من قول الحسن البصري. اهـ.
    [5] رجح الشيخ ابن تيمية تقديره: قراءتي باسم الله، وذبحي باسم الله، ونحوه، أو: أقرأ وأذبح وأفعل كذا باسم الله ؛لأن الفعل كله مفعول باسم الله وليس مجرد ابتدائه.
    [6] أخرجه أحمد في مسنده (1/194)، والبيهقي في سننه(7/26)، والحاكم في المستدرك (4/174-175) وابن حبان في صحيحه (2/186) رقم (443) من طرق عن الزهري به.
    [7] أخرجه أحمد (2/359) من حديث أبي هريرة بنحوه. وأخرجه أبو داود (4840) بلفظ: ((كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجزم)) وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (3/151): اختلف في وصله وإرساله فرجح النسائي والدار قطني الإرسال.

     
  2. #2
    صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute الصورة الرمزية صناع الحياة
    تاريخ التسجيل
    09 / 06 / 2005
    الدولة
    مصر
    العمر
    51
    المشاركات
    21,349
    معدل تقييم المستوى
    26549

    افتراضي رد: باب الاستعاذة


     
  3. #3
    غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future غالية الروح has a brilliant future الصورة الرمزية غالية الروح
    تاريخ التسجيل
    21 / 08 / 2009
    الدولة
    السعودية
    العمر
    44
    المشاركات
    1,687
    معدل تقييم المستوى
    2066

    افتراضي رد: باب الاستعاذة

    سلمت يمناك وجزاك رب كل خير



     
  4. #4
    ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute الصورة الرمزية ابو مالك
    تاريخ التسجيل
    20 / 03 / 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    50
    المشاركات
    6,574
    معدل تقييم المستوى
    7060

    افتراضي رد: باب الاستعاذة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صناع الحياة مشاهدة المشاركة
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالية الروح مشاهدة المشاركة
    سلمت يمناك وجزاك رب كل خير


    شكرا لمروركم العطر على مشاركتي
    أخي الفاضل صناع الحياة
    أختي الفاضلة غالية الروح

     

 
+ الرد على الموضوع

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك