بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحديث التاسع عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم متفق عليه .

يا لها من وصية نافعة ، وكلمة شافية وافية ، فهذا يدل على الحث على شكر الله بالاعتراف بنعمه ، والتحدث بها ، والاستعانة بها على طاعة المنعم ، وفعل جميع الأسباب المعينة على الشكر . فإن الشكر لله هو رأس العبادة ، وأصل الخير ، وأوجبه على العباد ، فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة ، خاصة أو عامة إلا من الله . وهو الذي يأتي بالخير والحسنات ، ويدفع السوء والسيئات . فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم ، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر .

وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب ، والسبب القوي لشكر نعم الله . وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم . فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه ، فإنه لا يزال يرى خلقا كثيرا دونه بدرجات في هذه الأوصاف ، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق ، وخلق وخلق ، فيحمد الله على ذلك حمدا كثيرا ، ويقول : الحمد لله الذي أنعم علي وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا .

ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم ، فيحمد ربه على كمال العقل ، ويشاهد عالما كثيرا ليس لهم قوت مدخر ، ولا مساكن يأوون إليها ، وهو مطمئن في مسكنه ، موسع عليه رزقه .

ويرى خلقا كثيرا قد ابتلوا بأنواع الأمراض ، وأصناف الأسقام وهو معافى من ذلك ، مسربل بالعافية . ويشاهد خلقا كثيرا قد ابتلوا ببلاء أفظع من ذلك ، بانحراف الدين ، والوقوع في قاذورات المعاصي ، والله قد حفظه منها أو من كثير منها .

ويتأمل أناسا كثيرين قد استولى عليهم الهم ، وملكهم الحزن والوساوس ، وضيق الصدر ، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء ، ومنة الله عليه براحة القلب ، حتى ربما كان فقيرا يفوق بهذه النعمة - نعمة القناعة وراحة القلب - كثيرا من الأغنياء .

ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور يجد عالما كثيرا أعظم منه وأشد مصيبة ، فيحمد الله على وجود العافية وعلى تخفيف البلاء ، فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظم منه .

فمن وفق للاهتداء بهذا الهدي الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل شكره في قوة ونمو ، ولم تزل نعم الله عليه تترى وتتوالى . ومن عكس القضية فارتفع نظره وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك ، فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله ، ويفقد شكره . ومتى فقد الشكر ترحلت عنه النعم ، وتسابقت إليه النقم ، وامتحن بالغم الملازم ، والحزن الدائم ، والتسخط لما هو فيه من الخير ، وعدم الرضى بالله ربا ومدبرا . وذلك ضرر في الدين والدنيا وخسران مبين .

واعلم أن من تفكر في كثرة نعم الله ، وتفطن لآلاء الله الظاهرة والباطنة ، وأنه لا وسيلة إليها إلا محض فضل الله وإحسانه ، وأن جنسا من نعم الله لا يقدر العبد على إحصائه وتعداده ، فضلا عن جميع الأجناس ، فضلا عن شكرها ، فإنه يضطر إلى الاعتراف التام بالنعم ، وكثرة الثناء على الله ، ويستحي من ربه أن يستعين بشيء من نعمه على ما لا يحبه ويرضاه ، وأوجب له الحياء من ربه الذي هو من أفضل شعب الإيمان ، فاستحيا من ربه أن يراه حيث نهاه ، أو يفقده حيث أمره .

ولما كان على الشكر مدار الخير وعنوانه قال صلى الله عليه وسلم عنه لمعاذ بن جبل : إني أحبك ، فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة مكتوبة : ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكان يقول : اللهم اجعلني لك شكارا ، لك ذكارا . اللهم اجعلني أعظم شكرك ، وأكثر ذكرك ، وأتبع نصحك ، وأحفظ وصيتك .

وقد اعترف أعظم الشاكرين بالعجز عن شكر نعم الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك والله أعلم .