+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    Icon3 الفصل الثاني نواقض الإيمان

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


    عرفنا في الجزء السالف مضمون الإيمان وأنه تصديق الله عز وجل فيما يخبر فيه عن نفسه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره واليوم الآخر، كل ذلك على النحو الذي بينه سبحانه أو بينه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعرفنا شرط الإيمان وهو العمل بشقيه‏:‏ العمل الواجب الذي يجب أن يسارع المؤمن إليه، والعمل المحرم الذي يجب على المؤمن الفرار منه والبعد عنه والذي يجب أن نعرفه أيضاً، أنه على قدر ثبات مضمون الإيمان وظهور حقيقته في النفس يكون تحقيق شرط الإيمان وهو العمل‏.‏ فالملتزمون العاملون بأوامر الله هم الصادقون في دعوى الإيمان، والمفرطون المخذولون هم الكاذبون الغاشون لأنفسهم‏.‏ فإذ قد ظهرت لنا حقيقة الإيمان على هذا النحو وجب علينا أن نعرف أن هذه الحقيقة لها نواقض تنقض عراها‏.‏ وتعري صاحبها منها‏.‏ فالرجل قد يتصف بحقيقة الإيمان التي أسلفت القول فيها، ولكنه يرد على قلبه اعتقاداً ما، أو يعمل عملاً ما فإذا به خارج عن حقيقة الإيمان داخل في إطار الكفر، فما هذه الأقوال والأعمال التي تخرج صاحبها عن حقيقة الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله‏؟‏‏؟‏‏.‏‏.‏ والجواب‏:‏ أن حصر هذه الاعتقادات التي يكفر بها صاحبها يخرج بهذه الرسالة عن حجمها المقدر لها، ولذلك سأورد الأصول من ذلك والقصد بحول الله هو بيان الحق في هذه المسألة الخطيرة التي نحن بصددها، وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من فهم هذه المقدمة‏:‏

    إن الإيمان حقيقة كلية لا تقبل التجزئة‏.‏‏.‏ إنه حقيقة كلية يندرج تحتها فروع كثيرة، ومع ذلك فإخراج فرعية واحدة من قضايا الإيمان وجحدها هو كفر ببقية القضايا والمسائل والفروع الأخرى‏.‏ والأدلة على هذه المقدمة مشهورة واضحة في كتاب الله تبارك وتعالى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏85‏)‏‏.‏

    وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون بالله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏150-151‏)‏‏.‏

    فهذه نصوص واضحة صريحة على أن الإيمان والالتزام يجب أن يكون كلياً غير منقوص، وهاتان الآيتان وإن كانتا في شأن اليهود إلا أن العبرة بعموم لفظها، ولا شك أن ما يعيبه الله على قوم يعيبه علينا إن فعلنا مثلهم ‏.‏ فالآية الأولى آية البقرة بشأن عمل، والثانية آية النساء، بشأن اعتقاد‏.‏

    ففي الأولى‏:‏ عاب الله على اليهود في المدينة انقسامهم ومحالفة بعضهم للأوس وبعضهم للخزرج، ولقد كانت تشب الحروب بين الفريقين فيقتل اليهودي الموالي للخزرج اليهودي الموالي للأوس ويساعد عليه عدوه ويخرجه من داره والعكس أيضاً، فإذا وضعت الحرب أوزارها اجتمع رؤساء اليهود من كلا الفريقين وجمعوا الأموال وفادوا الأسرى، وداووا الجرحى‏.‏‏.‏ من كليهما فأنزل الله في شأن ذلك‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون *ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وأن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏84-85‏)‏‏.‏

    وأما الآية الثانية‏:‏ فهي رد على اليهود بشأن تصديقهم بنبوة موسى وكفرهم بنبوة محمد وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً وهذا تفريق بين الله ورسوله، والشاهد من سرد هذه الأدلة بيان أن قضية الإيمان قضية كلية لا تقبل التجزئة، وسيزاد هذا الأمر وضوحاً وبياناً عند التمثيل لكل ناقض من نواقض الإيمان على حده‏.‏

    أما السبب في أن الإيمان ينتقض بانتقاض فرد واحد وقضية واحدة من قضاياه فهو أن الطعن في مسألة من العقيدة طعن في العقيدة كلها، فالذي يعتقد بأن الله هو الحكيم العليم قد آمن، فإذا ظن هذا أن هناك عملاً من أعمال الله قد خلا من الحكمة أو جاء على مقتضى الجهل فقد كفر بإيمانه السابق، والذي أعتقد بأن الله هو الرحمن الرحيم والذي يكفر برسول واحد هو الله سبحانه وتعالى، فتعصب إنسان ما لرسول تعصباً يحمله على الكفر بغيره هو طعن في مرسل الرسول نفسه وهو الله سبحانه وتعالى والكفر بالملائكة مثلاً تكذيب لله ومن كذب الله فقد كفر‏.‏

    ومن هذا القبيل أيضاً استحلال المعصية إذ هو لله تبارك وتعالى‏.‏ أنا لا أرضى حكمه ولا أرتضي حكمتك في تحريم هذا الأمر والواجب أن يكون حلالاً‏.‏‏.‏ وهذا رد لكل إيمان سبق إن كان قد سبق إيمان، وكذلك الأمر بالنسبة للمستكبر عن الطاعة فبيان حاله أنه يقول لا أذعن ولا أفعل لأن أمرك هذا خال من الحكمة وعار عن العلم‏.‏ وهذه معصية إبليس عليه لعنة الله، فقد امتنع عن أمر الله تكبراً واتهاماً لهذا الأمر بالخلو عن الحكمة والعلم‏.‏ ولهذا لم يصبح الأمر مجرد معصية وإنما أصبح قدحاً في علم الله وحكمته وذماً لأمره، وهذا ناقض لكل إيمان سابق وعمل صالح سالف‏.‏

    وبهذا التمهيد أرجو أن يكون الأمر جلياً واضحاً في تطبيق هذه القاعدة على بعض فروعها التي سأتعرض لذكرها بحول الله وإعانته‏.‏ وليس القصد في عرض هذه الفروع الناقضة للإيمان هو الاستقصاء، ولكنه التمثيل فقط لتتضح هذه القاعدة‏.‏ وسأتعرض بالذات لما يكثر عليه الخلاف والجدل في زماننا وما يختلط فيه الحق والباطل والله أسأل الهداية إلى سواء الصراط‏.‏


    كيف ينتقض الإيمان‏؟‏‏؟‏

    حقيقة الإيمان تدور حول الإيمان بذات الله وصفاته الكريمة وكل مسائل الإيمان وقضاياه تلتقي بهذه الحقيقة الأولى‏.‏ الإيمان بالله العظيم الرب الخالق الرحمن الرحيم الملك المهيمن العزيز الجبار الذي خلق الخلق لحكمة عظيمة والذي لا يظلم ولا يعتري ذاته أي نقص من نوم أو غفلة أو ضعف أو مرض والقائم على كل نفس بما كسبت والرقيب على كل شيء الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يخلق ما يشاء ويختار ويفعل ما يشاء ويحكم ما يشاء ويقضي ما يشاء ويأمر بما شاء وينهى عما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وما الإيمان بالملائكة إلا فرع عن الإيمان بالله فالملائكة هم جنده، وكذلك الرسل الإيمان بهم فرع عن الإيمان به، لأنهم رسله والقائمون بدعوته، وكذلك الشأن في كتبه فهي قانونه وتشريعه وكلامه، وكذلك اليوم الآخر فهو اليوم الذي ضربه سبحانه وتعالى موعداً لخلقه من الإنس والجن لفصل القضاء بينهم‏.‏ فالإيمان باليوم الآخر فرع عن الإيمان بالله وكذلك التكذيب بهذا اليوم كفراً بالله، وما القضاء والقدر إلا فعله وتصريفه سبحانه وتعالى‏.‏ ولذلك كان الاعتراض على القضاء والقدر بصورة مباشرة نقصاً للإيمان بالله، وسيأتي لأمر هذا الاعتراض تفصيل في مكان آخر إن شاء الله تعالى‏.‏

    وبهذا تتضح الصورة الكلية للإيمان وأنه ليس أجزاء متفرقة مبعثرة نستطيع أن نأخذ منها ما شئنا ونترك ما شئنا ونبقى بعد ذلك مؤمنين‏.‏ كلا، إن قضية الإيمان لا تتجزأ ومسائله تنبع جميعها من الإيمان بالله الواحد سبحانه وتعالى‏.‏ فلذلك كان الاعتراض أو الرد أو التكذيب لمسألة من مسائله وقضية من قضاياه كفراً بالأصل الأصيل وهو ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏ ونقضاً لها‏.‏

    فالمكذب بعذاب القبر مثلاً، أو الصراط الموصوف في الأحاديث الصحيحة أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف وأنه جسر مضروب على جهنم يجوز عليه المؤمنون بأعمالهم، وبأن بعض الكفار يحشرون على وجوههم يوم القيامة، يسيرون عليها، هو في حقيقة أمره مكذب بقدرة الله عز وجل ولا يفيده إيمانه السابق بقدرته المشاهدة في الدنيا‏.‏ ولذلك لما سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحشرون على وجوههم يا رسول الله‏؟‏‏.‏‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الذي أمشاهم على أرجلهم في الدنيا قادر على أن يحشرهم على وجوههم في الآخرة‏]‏ ‏(‏البخاري ومسلم والترمذي وأحمد‏)‏، فرد صلوات الله وسلامه عليه الأمر إلى القدرة الإلهية التي يؤمن بها المؤمن في الدنيا‏.‏ وقس على ذلك كل تكذيب أو رد لأي مسألة من مسائل الإيمان‏.‏ ويجب أن يكون هذا الأمر واضحاً أيضاً بالنسبة لمسائل التشريع، فالاعتراض على شعيرة ما من شعائر الإسلام هو في حقيقته اعتراض على المشرع سبحانه وتعالى وهذا هو الكفر، فمن قال مثلاً عن السعي بين الصفا والمروة امرأة سعت بين جبلين من جبال مكة وما شأننا نحن بهذا‏؟‏‏.‏‏.‏ هو في حقيقته معترض على المشرع سبحانه وتعالى‏.‏ وقد سمعت أن بعض الحجاج من المسلمين في زماننا يقول بذلك بل وبأكثر منه كالاعتراض على الطواف وتقبيل الحجر الأسود، ورمي الجمار، ولا شك أن هذا الاعتراض على هذه المناسك هو كفر بحكمة المشرع وعلمه سبحانه وتعالى، وهذا هو الكفر المخرج من الملة والعياذ بالله‏.‏

    فالاستهزاء بإعفاء اللحية أو الصلاة أو الحجاب الشرعي للمرأة أو المسجد أو الكعبة أو الرسول هو كفر بالله تبارك وتعالى، فكل ما ينسب إلى الله من أمر ونهي وذات والاستهزاء به والاعتراض عليه كفر ونقض للإيمان‏.‏

    وأعني بالذات ما ينسب إلى الله من شيء كالكعبة والمسجد والمصحف، فالاستهزاء بالمسلم لإسلامه كفر، ولا يتأتى هذا من مسلم أبداً‏.‏ قال الله تعالى عن الكفار‏:‏ ‏{‏إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون‏}‏ ‏(‏المطففين‏:‏29-30‏)‏‏.‏

    والشاهد أن كل ما ينسب إلى الله قد كرم والاستهزاء به استهزاء بمن كرمه وأعزه، ومن شرع له الطريق الذي يسير فيه‏.‏ ومن هذا الباب أيضاً معاداة المؤمن لأجل تدينه وفتنته ليرجع عن دينه هذا كفر وصد عن سبيل الله تبارك وتعالى‏.‏ لأن الأصل أن يحب المؤمن لإيمانه ويقدم لإحسانه، فإذا عادى شخص ما المسلم لأجل تمسكه بدينه، ولاعتصامه بكتاب ربه وسنة نبيه فقد كفر وصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، أي جمع بين جريمتين؛ الكفر إحداهما والعياذ بالله، والسبب في هذا عداوة المسلم لأجل تدينه هي في حقيقتها عداوة لدين الله، ومن عادى دين الله فقد عاداه وعدو الله هو الكافر وأما المؤمن فإنه ولي الله لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏257‏)‏‏.‏ وأما معاداة المؤمن لأجل شيء آخر فليس بكفر، فمن عادى مؤمناً في خصومه ما على دنيا أو جاه فهي معصية لا يكفر بها‏.‏

    وأرجو بهذا البيان أن أكون قد أوضحت الصورة الكلية لحقيقة الإيمان وكيف أنها تنتقض بانتقاض إحدى جزئياتها‏.‏ والله أسأل أن يعصمني وإخواني المؤمنين من أن ننقض إيماننا، وأن يرزقنا تكميل هذا الإيمان حتى نلقاه سبحانه وتعالى وهو موفور كامل‏.‏

    وهذا أوان بيان بعض هذه النواقض على شيء من التفصيل وسأذكر ما يكثر فيه الوقوع -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وما يكثر حوله الجدل والخلاف‏.‏


    أولاً‏:‏ الاعتراض على حكمة التشريع

    لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وأسكنه الجنة، أخبره سبحانه وتعالى أنه وطنه، ولما عصى آدم وأهبطه الله إلى الأرض كانت فترة حياته عليها وحياة ذريته فترة اختبار وابتلاء يكون ثمرته العودة إلى الجنة لمن جاز هذا الاختبار بنجاح، ليدخل الجنة عن جدارة واستحقاق، والمصير إلى الجحيم لمن عطل القوى التي آتاها الله إليه، ولمن نسي التكريم الذي خلق من أجله‏.‏ والاختبار والابتلاء إنما هو الأمر والنهي‏.‏ قال العلماء من السلف في قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ ‏(‏المؤمنون‏:‏115‏)‏ قالوا‏:‏ عبثاً أي سدى لا تؤمرون ولا تنهون‏.‏‏.‏

    وهذا الأمر والنهي هو التشريع سواء كان من العبادات أم المعاملات أم الأخلاق‏.‏ فإذا كان مقصود الخلق هو الابتلاء بالأمر والنهي فإن التشريع في هذه الصورة يصبح واجباً ملزماً، وفرضاً لا يجوز مخالفته لأنه غاية في ذاته من خلق الخلق وقد تولى ربنا بنفسه سبحانه وتعالى أمر هذا التشريع وقال‏:‏ ‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏57‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏54‏)‏‏.‏

    وعندما وضع الله التشريع للبشر على ألسنة رسله فقد أنزل ذلك بعلمه وحكمته فهو العليم سبحانه وتعالى بما يصلح الناس وما يفسدهم‏.‏‏.‏ وبهذه المقدمة نعلم أن الاعتراض على التشريع اعتراض على واضعه ومنزله سبحانه وتعالى، وهذا كفر‏.‏ ومن المعلوم قطعاً أن ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ تقتضي الشهادة لله سبحانه وتعالى بالخلق والأمر، فمن أقر بالخلق فقط وجرد الله سبحانه وتعالى من الأمر وقال‏:‏ للبشر أن يشرعوا لأنفسهم ما يرونه صالحاً لحياتهم فقد كفر وأشرك‏.‏ بل لا إله إلا الله معناه لا خالق ولا معبود ولا إله يطاع أمره وينفذ حكمه إلا الله سبحانه وتعالى‏:‏ ولا يفيد بالطبع الإقرار العام بحق الله عز وجل في التشريع، ونفي الحكمة عن جزئية واحدة من تشريعه لأن الرب تبارك وتعالى ليس محلاً للنقص والغفلة ‏{‏وما كان ربك نسياً‏}‏ ‏(‏مريم‏:‏64‏)‏ ولا يتأتى من فعله شيء خارج عن الحكمة سبحانه وتعالى، فالاعتراض على جزئية من جزئيات التشريع هو اعتراض على المشرع سبحانه وتعالى، وقد عرفنا حكم ذلك‏.‏

    وقد حدث في المجتمع المسلم الأول في مكة شيء من هذا عندما نهى سبحانه وتعالى عن أكل الميتة، وكانت العرب تأكلها ألقى الشيطان في نفوس أتباعه شبهة ليمزق بها المجتمع المسلم الناشيء فقال لهم‏:‏ سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة من قتلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الله، فقال المشركون‏:‏ ما تقتلونه أنتم بأيديكم تقولون عنه حلال، مذكى وتأكلونه، وما يقتله الله تقولون عنه ميت حرام وتنهون عنه‏.‏ أأنتم أفضل من الله‏؟‏ وانطلت هذه الشبهة الصغيرة على بعض النفوس الضعيفة فأنزل الله بيان الأمر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏121‏)‏‏.‏

    فجعل سبحانه وتعالى طاعة المشركين في جزئية من التشريع شركاً به سبحانه وتعالى وذلك أنه اعتراف بحق غيره في التشريع، واعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر واضح ظاهر والحمد لله‏.‏

    وقد فشى في أوساط المسلمين اليوم ترديد شبه أعداء الإسلام فنقلوا واعتقدوا ما بثوه من اعتراض على تشريع الله، ولا يكاد اليوم يخلو حكم شرعي من أحكام الإسلام إلا ونسمع الاعتراض عليه وأظهر ذلك تعدد الزوجات، والطلاق، والرق، وحد السرقة، وحكم القصاص وحد الزنا‏.‏‏.‏ الخ وترديد من يشهد أن لا إله إلا الله لمثل هذه الاعتراضات دون فهم ووعي لحكم ذلك أمر خطير، واعتقاد انتقاء الحكمة من هذه الشرائع والأحكام والحدود كفر بالله تبارك وتعالى‏.‏

    وهذا الأمر أعني كفر المعترض على التشريع أشد وضوحاً فيمن ينكر الشريعة جملة‏.‏ ويرى أنها لا تساير نظام حياة الناس ولا تناسب رقيهم وتطورهم المادي، فهؤلاء خارجون عن الإسلام سواء كانوا مسلمين قبلاً أو لم يسبق لهم إيمان وشهادة‏.‏

    ولكن أرجو أن يعلم أن الاعتراض قد يصدر أحياناً من مسلم يفاجئه الحكم ولا يرى الحكمة منه مباشرة، ولا يخرج بهذا عن الإسلام إلا بعد أن يبين له فلا يرجع إلى الله، ولا يفيء إلى أمره عز وجل‏.‏

    ومن ذلك ما صدر عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عندما سمع ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً‏}‏ ‏(‏النور‏:‏4‏)‏‏.‏

    أهكذا أنزلت يا رسول الله‏؟‏‏.‏‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم‏؟‏‏.‏‏.‏‏]‏ فقالوا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد‏:‏ والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق وأنها من الله، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تفخدها رجل لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته‏.‏‏.‏ ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك ‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏النور‏:‏6‏)‏ ‏(‏رواه أحمد‏)‏‏.‏

    والشاهد في سوقي لهذا الحديث أن أبين أنه يحصل للمسلم أحياناً الاستفسار في صورة الاعتراض على حكم الله، ولا يكون هذا مخرجاً له عن الإسلام‏.‏

    وقد حدث مثل هذا لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما اعترض على صلح الحديبية الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، ورأى عمر رضي الله تعالى عنه أن فيه انتقاصاً لحق المسلمين ورضاً بالدنية بالدين، ثم جاء الأمر على خلاف ظنه ورأيه فكان صلح الحديبية أعظم فتح في الإسلام‏.‏ والشاهد في هذا أيضاً أنه جابه الرسول وأبا بكر بالإنكار والاعتراض ولم يكن ذلك خروجاً منه عن دائرة الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه‏.‏

    وخلاصة الأمر أن الاعتراض على الشريعة إذا أصبح عقيدة يعتقدها صاحبها ويطعن بها في حكمة التشريع كان هذا مخرجاً له عن دائرة الإسلام، ولا يختلف هذا الأمر -أعني الاعتراض على حكمة التشريع- عن الاعتراض على ما شرع الله لنبيه ورضى له‏.‏ فالاعتراض على ما أباح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من مباح كالزواج بأكثر من أربع، وأخذ الخمس من المغنم وغير ذلك مما اختص به صلوات الله وسلامه عليه، تعتبر طعناً في الرسالة واتهاماً لاختيار الله للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

    واتهام اختيار الله كفر به سبحانه وتعالى، ومما يجرح القلب حزناً على مسلمي اليوم اعتراضهم على ما أباح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهل هؤلاء مسلمون‏؟‏

    وخلاصة هذا الأمر أن موقف المسلم من تشريع الله عز وجل هو الرضى والتسليم ‏(‏سمعنا وأطعنا‏)‏ هذا شعار المسلم دائماً ولا بأس أن يسأل عن الحكمة ويلتمسها، لأن ظهور حكمة التشريع تزيد المؤمن إيماناً، وتقوي صلته بربه جل وعلا‏.‏ وشتان بين أن يكون هناك تلمس لحكمة التشريع وبين أن يكون هناك اعتراض على حكمة التشريع، فدأب المسلم دائماً أن يتلمس حكمة الله في تشريعه للعباد، وقد نص سبحانه وتعالى عن الحكمة في معظم تشريعاته‏.‏ ودأب الكافر الاعتراض والاستهزاء بتشريع الله تبارك وتعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويل لكل أفاك أثيم‏.‏ يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم‏.‏ وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين‏}‏ ‏(‏الجاثية‏:‏7-9‏)‏‏.‏


    ثانياً‏:‏ الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل

    ما دام أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل تشريعه لعباده ليلتزموا به، وأنه لم يخيرهم سبحانه وتعالى في الأخذ به أو تركه وإنما فرض هذا وألزمه، وأخبر سبحانه أن هذا هو المقصود من خلقهم حتى لا يكون خلقهم عبثاً ولا هملاً، فإن مقتضى الإيمان به هو تنفيذ أمره ونهيه، فإذا كان معنى لا إله إلا الله لا مطاع طاعة مطلقة إلا الله ولا مشرع للناس في شئون حياتهم إلا الله، أقول ما دام أن أمر الإيمان كذلك فإن هذا الأمر ينتقض بالتعالي عن أمره، والخروج عن حكمه، وإبطال شريعته والحكم بغيرها، وقد نص الله على هذا الأمر في كتابه بنصوص صريحة واضحة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏‏.‏

    وكان هذا تعقيباً على اليهود الذين أرادوا إبطال حكم الرجم الثابت في توراتهم وذلك بسؤال الرسول عن هذا الحكم لعله يفتي بخلافه أو بحكم أخف من الرجم فيكون لهم مندوحة عند الله في زعمهم - في التنصل من هذا الحكم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏44‏)‏‏.‏

    وها أنت ترى أن الله سبحانه وتعالى قد ختم الآية -وإن كانت في شأن اليهود- بحكم عام يشمل كل أمة لها رسالة وتشريع‏.‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏(‏فمن‏)‏ من صيغ العموم وهي تعم كل من اتصف بهذه الصفة‏.‏

    وهناك سؤال معروف‏:‏ هل يعد كافراً كل من حكم في قضية ما بحكم غير حكم الله تبارك وتعالى‏؟‏

    والجواب على ذلك أن هناك صوراً ثلاثاً لهذا الأمر‏:‏

    الأولى‏:‏ أن يحكم بغير ما أنزل معتقداً أن ما حكم به هو الأفضل، وهذا كفر بإجماع المسلمين ولا مخالف لذلك‏.‏

    الثانية‏:‏ أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن ما حكم به متساو مع حكم الله وأن هذا مثل هذا‏.‏ وهذا أيضاً كفر بالإجماع لأنه يساوي الله بخلقه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏1‏)‏‏.‏

    الثالثة‏:‏ أن يعتقد أن حكم الله هو الخير وهو الحق، وكل حكم يخالفه مرجوح باطل، ولكنه يحكم به بدافع من شهوة، أو رشوة، أو منصب أو غير ذلك‏.‏ وهذا الذي قال فيه ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ ‏(‏كفر دون كفر‏)‏ أي كفره لا يخرجه من ملة الإسلام ومن جماعة المسلمين‏.‏

    وبهذا يكون الحاكم واضحاً في شأن الذين يجعلون شريعة الله على قدم المساواة مع شريعة أنفسهم أو من يتبعونهم من الكفار وفي شأن الذين يصفون حكم الله بالرجعية والجمود والتخلف عن مسايرة الزمن‏.‏

    وثمة نقطة هامة في هذا الصدد أحب بيانها حتى لا تلتبس الأمور وهي أن اجتهاد الأئمة والفقهاء في عصر ما لا يعتبر حكماً لله تبارك وتعالى وإنما حكم الله هو نص كتابه، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، وما سوى ذلك معرض للصواب والخطأ لأنه اجتهاد المجتهد يصيب ويخطئ وأما حكم الله فلا يخطئ أبداً سبحانه وتعالى‏.‏

    فلا يعد مخالفاً لحكم الله تبارك وتعالى وخارجاً عنه من خالف شيئاً من أقوال الأئمة والفقهاء‏.‏ وإنما يعتبر كذلك من خالف النصوص الصريحة الواضحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏


    ثالثاً‏:‏ الاستهزاء بالمسلم لإسلامه، ومعاداته لدينه

    قد يغفل كثير من الناس عن هذا الحكم فيعتقدون -كما بينت سابقاً- أن الاستهزاء بشعيرة من شعائر الإسلام كفر‏.‏ والاستهزاء بالمسلم ليس كفراً، وهذا أمر يحتاج إلى بيان وتفصيل‏.‏

    1- الاستهزاء بالمسلم قد يكون لصفة خلقية ‏(‏بفتح الخاء وإسكان اللام‏)‏ أو لخلق يتصف به،أو لتصرف أو سلوك ما، وهذه معصية ليست كفراً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابذوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون‏}‏ ‏(‏الحجر‏:‏11‏)‏‏.‏

    فجعل الله تبارك وتعالى هذه الأفعال فسقاً ‏{‏بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان‏}‏ أي بئس اسما يطلق على الرجل أن يسمى فاسقاً بعد أن كان مؤمناً‏.‏

    ولكن ليكن معلوماً أن الاستهزاء بالصفات الخلقية والتي لا تدخل للإنسان فيها قد يجر إلى الكفر لأن اختلاف الألوان والأشكال والألسنة من مراد الله تبارك وتعالى بل ومن آياته‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم‏.‏ إن في ذلك لآيات للعالمين‏}‏ ‏(‏الروم‏:‏22‏)‏‏.‏

    2- وقد يكون الاستهزاء بالمسلم من أجل إسلامه فيستهزأ به لتمسكه بشعيرة من شعائر الإسلام‏.‏ أو لعمله عملاً من أعمال الإيمان‏.‏ وهنا ينصرف الاستهزاء إلى الدين ويكون هذا العمل كفراً‏.‏ وقد وصف الله الكفار إن هذا هو دينهم مع المؤمنين قال تعالى‏:‏ ‏{‏ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون *وإذا مروا بهم يتغامزون *وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين *وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون *وما أرسلوا عليهم حافظين‏}‏ ‏(‏المطففين‏:‏29-33‏)‏‏.‏

    فهؤلاء المجرمون يضحكون من المؤمنين ويستهزئون بهم ويتغامزون إذا مروا عليهم ومع ذلك يرجع كل مجرم إلى منزله فرحاً فخوراً بنفسه وكأنه لم يعمل جريمة يحاسب عليها، ثم إنهم يصفون المؤمنين بالضلال، وما أشبه هذا بقول مجرمي زماننا عن المؤمنين ‏"‏انهم معقدون، رجعيون، نسوا حياتهم، ضيعوا شبابهم، لا يستمتعون بمتع الحياة، ولذائذها المبذولة‏"‏‏.‏‏.‏

    قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلوا عليهم حافظين‏}‏ أي ما جعلنا هؤلاء المجرمين محصين لأعمال المؤمنين ولا قائمين عليهم‏.‏ ثم تأتي الصورة الثانية‏.‏ صورة الآخرة حيث يكون أهل الإيمان في العلو والرفعة في الجنات، وأهل الإجرام في النار والجحيم‏.‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون *على الأرائك ينظـرون‏}‏ ‏(‏المطففين‏:‏34-35‏)‏‏.‏‏.‏ ومثل هذه الآيات قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا *ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة *والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏212‏)‏‏.‏

    وخلاصة هذا الأمر أن الاستهزاء بالمسلم لإسلامه كفر لأنه في حقيقته استهزاء بالإسلام، والاستهزاء بالإسلام هو طعن في واضعه ومنزله سبحانه وتعالى ومعلوم ماذا يعني هذا‏.‏ وبهذه المنزلة معاداة المؤمن لتدينه، فالعداوة مع مؤمن لشأن ما من شؤون الحياة وإعراضها إن كانت بحق فليس في هذا شيء وإن كانت بباطل فهي معصية‏.‏ وأما عدوانه من أجل تدينه وتمسكه بالإسلام فهي كفر لأنه محاربة لدين الله ومحادة له‏.‏ وصد عن سبيل الله فكثير من الناس -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يكون الشخص محبباً إليهم محبوباً لديهم إذا كان موافقاً لأهوائهم تباعاً لشهواتهم‏.‏ وما كاد يهتدي ويلتزم طريق الله تبارك وتعالى حتى يلاقي العداوة والبغضاء ممن كانوا له أصدقاء وهذا أمر خطير جداً نعوذ بالله منه‏.‏ فإذا بلغت العداوة مبلغ فتنة المسلم عن دينه، وصده عن سبيل ربه فقد بلغت المنزلة منزلة الكفر، قال تعالى في وصف الكافرين‏:‏ ‏{‏الر‏.‏ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد *الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد *الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة *ويصدون عن سبيل الله *ويبغونها عوجاً *أولئك في ضلال بعيد‏}‏ ‏(‏إبراهيم‏:‏1-3‏)‏‏.‏

    فقد وصف الله الكفار هنا بوصفين‏:‏ الأول حبهم للدنيا عن الآخرة، والثاني صدهم عن سبيل الله ورغبتهم أن يظل طريقه سبحانه وتعالى معوجاً للسالكين فيه حتى ينصرف الناس عنه، وينفض الناس منه‏.‏ وقد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالويل لذلك فكيف بالذين يمارسون هذا الصد عن سبيل الله بتجنيد أجهزة الدولة ومقومات الأمة لذلك، وقد رأيت في صحيفة تصدر في بلاد عربية وإسلامية هذا الخبر ‏(‏صدر في استانبول قرار يقضي بأن لا تسير المرأة محجبة في شارع عام، أسوة بعربات الكارو والحمير‏)‏ انتهى‏.‏ أهناك صد عن دين الله أبلغ من هذا‏؟‏ وانظر إلى فعل الصحافي الخبيث ‏(‏أسوة بعربات الكارو والحمير‏)‏ فليس بالطبع في القرار الصادر هذه العبارة وإن كان القرار في ذاته كفراً، ولكن الصحيفة ترددها لتشفي الصدور المقرحة أن ينشر دين الله عز وجل وتصد أي امرأة مسلمة أن تتزيا بزي الإسلام، فالصد عن سبيل الله عز وجل بأي صورة من الصور، كفر بالله تبارك وتعالى لأن المؤمن يفرح إذا انتشر دين الله وعلت كلمته والكافر ليس كذلك، ومن أبلغ الأمور صداً عن سبيل الله الاستهزاء بالمسلم لإسلامه، وذلك أن المبتدي في أمر الإيمان قد ينصرف عنه إذا قابل استهزاء الناس وسخريتهم وأبلغ من ذلك فتنه وتعذيبه ليرجع عن عقيدته، فويل للمجرمين الذين يعذبون المسلمين ويفتنونهم عن دينهم ويصدونهم عن سبيل الله ومن زعم أن أولئك ليسوا بكفار فقد جهل وكابر وعاند فما الكفر إذن، إن لم تكن فتنة المؤمن عن دينه كفراً‏؟‏‏.‏‏.‏


    رابعاً‏:‏ موالاة أعداء الله

    العقيدة الواحدة والتشريع الواحد تفرضان على المؤمنين الالتزام بوحدة جامعة وأخوة لازمة لا يكمل إيمان فرد فيها إلا بأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فالعقيدة الواحدة إيمان واحد بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والشريعة الواحدة تفرض الوحدة والمحبة، وتنفي الفرقة والخلاف في كل صورة من صورها فمن الوقوف في الصلاة صفاً واحداً بين يدي الله إلى إزالة الأذى عن طريق المسلمين نجد الرغبة في الالتحام والقرب والأخوة، فأدنى عمل في الإسلام وهو رفع الأذى عن طريق المسلمين يشعر بالحب والقرب من المسلم لإخوانه ومجتمعه، وهكذا الزكاة والصيام والحج يكاد أن يكون المقصد الأول من كل ذلك بعد عبادة الله تبارك وتعالى تحبيب المسلم من أخيه المسلم، وربط المسلمين بأخوة جامعة، ووحدة عجيبة، هذه الوحدة والأخوة يصبح السعي في تفريقها وتمزيقها جريمة من الجرائم تصل إلى الكفر في بعض صورها وتكون معصية وإثماً وظلماً في صور أخرى مخففة لا تتصل بالعقيدة أعني استحلال الفرقة والخلاف، فإن استحلال تفريق المسلمين وإذهاب وحدتهم كفر مخرج من الملة بلا خلاف‏.‏

    وإذا فهمت هذه المقدمة جيداً يصبح الوصول إلى الحكم الآتي سهلاً ميسوراً، فما المقصود بولاية المسلم لأعداء الله‏.‏

    - الولاية في لغة العرب تطلق على النصر والتأييد والإعانة فلان ولي لفلان وموال له أي مؤيد وناصر‏.‏

    والله ولي الذين آمنوا‏:‏ ناصرهم ومؤيدهم ومعينهم‏.‏‏.‏ أولياء الله الذين يقومون بنصره سبحانه وتعالى كما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم‏}‏ ‏(‏محمد‏:‏7‏)‏ وعلى هذا المعنى يكون اتخاذ أعداء الله أولياء، يعني اتخاذهم أنصاراً ومؤيدين‏.‏ تنصرونهم وينصرونكم، وتؤيدونهم ويؤيدونكم، والأصل في هذا قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏51‏)‏‏.‏

    فهذه الآية نص صريح في النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء والحكم على من فعل ذلك من المسلمين بأنه منهم أي يهودي أو نصراني، وسمى الله من يفعل ذلك ظالماً لأنه يضع الولاية في غير محلها، فبدلاً من أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين يوالي أعداء الله من اليهود والنصارى ومن على شاكلتهم، ولكن ثمة تفصيل في أمر الولاية وهذا التفصيل ينقسم إلى قسمين‏:‏

    ‏(‏ا‏)‏ القسم الأول‏:‏ بحسب حالة اليهود والنصارى ووضعهم‏.‏

    ‏(‏ب‏)‏ القسم الثاني‏:‏ بحسب نوع هذه الولاية والتأييد‏.‏

    فأما القسم الأول‏:‏ فإن من اليهود والنصارى وغيرهم محاربين معادين لله ورسوله وللمؤمنين وهؤلاء لا علاقة مع أمة الإسلام بهم إلا العداوة والحرب وقد نزلت الآيات في شأن جماعة من هذا القبيل وهم حلفاء عبدالله بن أبي بن سلول من اليهود الذين أراد الرسول تأديبهم لخيانتهم فاستشفع ابن سلول فيهم ونهاه الرسول عن ذلك ونزلت الآية السابقة في هذا الشأن فلا يجوز بحال موالاة المحاربين لأمة الإسلام سواء كانت هذه الحرب مباشرة أي بمساعدتهم لأعداء الإسلام، وجميع أنواع الولاية من حب ونصر وتأييد وإعانة مرفوضة مع هؤلاء، ومن فعل فقد انتقل من معسكر المسلمين إلى معسكر الكافرين‏.‏

    وأما غير المحاربين منهم وهم المحايدون المستأمنون في بلاد الإسلام أو القاطنون في غيرها الذين لا يحاربون المسلمين بأنفسهم ولا بمساعدتهم لغيرهم فهؤلاء يجوز أن يكون بين المسلمين وبينهم نوع من ولاية نص الله تبارك وتعالى عليها بقوله‏:‏

    ‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين‏}‏ ‏(‏الممتحنة‏:‏8‏)‏‏.‏ وهذا البر المسموح به والإقساط غير الولاية التي نهانا الله تبارك وتعالى عنها وأخبر أنها خروج من الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية، وبهذا يظهر لنا معنى الولاية المسموح بها -إن صح هذا التعبير- من الولاية التي نهانا الله تبارك وتعالى عنها‏.‏

    وأكبر الإثم وأعظمه في هذا الأمر هو ولاية المسلم للكافر على أخيه المسلم، أعني أن يعاضد المسلم الكافر ضد إخوانه المسلمين هذه ولاية الكفر المخرجة من الإسلام والعياذ بالله، لأنها بمثابة الحرب للإسلام والمسلمين ودين الله عز وجل‏.‏ وكم يمارس مثل هذا ضعاف النفوس من الحكام رغبة في أن يحفظ عليهم أعداء الإسلام مناصبهم وكراسيهم‏.‏ إلا أنها مناصب زائلة‏.‏ وأنها لحسرة وندامة عليهم يوم القيامة‏!‏

    وخلاصة هذا الأمر هو أن المسلمين أمة واحدة يكون ولاء كل مسلم لها، وقلبه معها ويده ولسانه وسلاحه معها، ولا يجوز أن يصرف شيء من ذلك لأعداء الإسلام، فمن فعل غير ذلك فقد انتقل من معسكر الإسلام إلى معسكر الكفر شاء أم أبى‏.‏ انظر كيف يقسم الله الناس إلى معسكرين لا ثالث لهما‏:‏

    قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم *والذين آمنوا وعملوا الصالحات *وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم *ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم، كذلك يضرب الله للناس أمثالهم‏}‏ ‏(‏محمد‏:‏1-3‏)‏‏.‏

    ثم يعقب بعد هذا التقسيم للناس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب *حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق *فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها‏}‏ الآية ‏(‏محمد ‏:‏4‏)‏‏.‏

    إن هذا الانفصال بين أمة الإسلام وأمة الكفر الداعية إلى الكفر المحاربة للمسلمين واجب ولازم لاستمرار هذه الدعوة وبقاء هذه الرسالة فإن لم يكن في الأوطان والدول فليكن أولاً في العقيدة والشعور ولا بد، وبغير هذا لا يكون هناك إسلام‏.‏


    خامساً‏:‏ الرضا بفشو المنكر وانتشاره

    يقول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل‏]‏ ‏(‏مسلم‏)‏‏.‏

    هذا الحديث نص على أن من مستلزمات الإيمان إنكار بإحدى وسائل الإنكار السالفة وهي اليد ثم اللسان ثم القلب، وإنكار المنكر باليد معناه إزالته بالقوة، وأما باللسان فمعروف، وأما إنكار المنكر بالقلب فهو كراهيته وبغضه وبغض فاعليه وكراهيتهم، وهذه الصورة الأخيرة التي هي أدنى صور الإنكار لا تعرض المؤمن للأذى وهي أقل مستويات الإيمان‏.‏ ومفهوم هذا الحديث أن الذي لا يكره المنكر ولا يبغض أهله فليس بمؤمن لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ‏[‏وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل‏]‏‏.‏

    وهذا نص صريح واضح ومعلوم أنه لا يخرج من النار من في قلبه إيمان أقل من هذا، لأنه لا أقل من هذا‏.‏ وعلى هذا يكون الراضون بفشو المنكر وانتشاره كفاراً فاقدي الإيمان وإن زعموا أنهم من المسلمين‏.‏ فكيف بمن يبارك المنكر ويحبه‏؟‏‏!‏

    فكم ممن ينسب إلى الإسلام اليوم يحب ويرضى ويبارك أن تتعرى النساء في الأسواق والمجتمعات العامة وأن يتم اختلاط الرجال بالنساء على هذه الصورة ليمتع نفسه بالمتاع الحرام‏.‏ وكم منهم من يسب المجتمعات الإسلامية المحافظة ويستهزئ بها وبأهلها ويتهمهم بالرجعية والتأخر وشتى نعوت النقص والتحقير‏.‏‏.‏ وكم من هؤلاء من يفرق إذا نودي في الناس بوجوب تحكيم كتاب الله تبارك وتعالى وغاية فرقه وخوفه أن تختفي هذه الشهوات المحرمة وتغلق الخمارات والبارات وتختفي اللذائذ الرخيصة‏!‏‏!‏ وهؤلاء هم الذين شرحوا بالكفر صدراً، وضاقت صدورهم أن يذعنوا للإسلام ديناً ودولة، ومجتمعاً نظيفاً طاهراً والحكم على هؤلاء بأنهم مسلمون حكم ظالم وجاهل يصدر ممن لم يعرف ما الإسلام وما رسالته وما غايته في الحياة والناس‏.‏

    فليراجع كل مؤمن إيمانه ولينظر هل اختار حقاً دين الله منهج حياة وغاية وجود، فيضع نفسه في صف المسلمين محباً لعقيدتهم راضياً بشريعتهم كارهاً للكفر بكل صوره ومظاهره وللمنكر بكل أشكاله‏.‏ وهذا هو الإيمان‏.‏

    وفي معنى حديث هذا الباب الحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان‏]‏ ‏(‏البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم‏)‏‏.‏ ومعنى هذا أن إنكار المنكر بالقلب أضعف الإيمان أنه ليس هناك إيمان وراء هذا‏.‏

    وأما السبب في ذلك أن الإيمان يستلزم حب شريعة الله تبارك وتعالى، والرغبة في تحكيمها، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فإذا لم يتحرك القلب تجاه المعصية فيبغضها ويبغض أهلها فمعنى هذا أنه رضي بالمنكر، والرضا بالمنكر إقرار له ومعنى هذا الانسلاخ من دين الله تبارك وتعالى ومضادة الإيمان به‏.‏ فإذا انضاف إلى الإقرار والرضا الحب والمتابعة، والإشادة والمباركة فقد اجتمعت جريمتان‏:‏ كفر وصد عن سبيل الله تبارك وتعالى لأن محبة المنكر أن يفشو والرغبة في أن يسود الباطل، إنما هو الرغبة في أن تكون كلمة الله دون كلمة الكفر‏.‏ وهذا نقيض الإيمان الذي يستلزم العمل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى‏.‏

    وهذا الأمر يحتاج من كل مسلم إلى مراعاة وعناية فائقة ليخلص قلبه من كل حب لغير شريعة الله، ومن كل هوى يناقض دينه سبحانه وتعالى والله المستعان‏.‏

     
  2. #2
    المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute المودة has a reputation beyond repute الصورة الرمزية المودة
    تاريخ التسجيل
    17 / 08 / 2004
    العمر
    33
    المشاركات
    20,806
    معدل تقييم المستوى
    26172

    افتراضي رد: الفصل الثاني نواقض الإيمان

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا ... تحياتي .

     
  3. #3
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: الفصل الثاني نواقض الإيمان

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    بارك الله فيك اخي ابو راشد

     

 
+ الرد على الموضوع

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك