بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: قوله ـ تعالى علوًا كبيرًا: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[المائدة: 105]، لا يقتضي ترك الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، لا نهيًا ولا إذنًا، كما في الحديث المشهور في السنن عن أبي بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ أنه خطب على منبر رسول اللّه-صلى الله عليه وسلم-، فقال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه، أوشك أن يَعُمَّهُم اللّه بعقاب منه).
وكذلك في حديث أبى ثعلبة الخشني ـ مرفوعًا ـ في تأويلها: (إذا رأيت شُحًّا مُطاعًا، وهَوىً متبعًا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بخويْصة نفسك). وهذا يفسِّره حديث أبي سعيد في مسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). فإذا قوى أهل الفجور حتى لا يبقي لهم إصغاء إلى البر؛ بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب، سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب.
والشح هو: شدة الحرص التي توجب البخل والظلم، وهو منع الخير وكراهته، و(الهوى المتبع) في إرادة الشر ومحبته، و(الإعجاب بالرأي) في العقل والعلم، فذكر فساد القوى الثلاث التي هي العلم والحب والبغض، كما في الحديث الآخر:(ثلاث مهلكات، شحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه) ، وبإزائها الثلاث المنجيات: (خشية اللّه في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا) ، وهي التي سألها في الحديث الآخر: (اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى).
فخشية اللّه بإزاء اتباع الهوى؛ فإن الخشية تمنع ذلك، كما قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، والقصد فـي الفقـر والغنى بإزاء الشح المطاع، وكلمة الحق في الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه، وما ذكره الصديق ظاهر؛ فإن اللّه تعالى قال: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: الزموها وأقبلوا عليها، ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي، وقال: {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنما يتم الاهتداء إذا أُطيع الله وأُدي الواجب من الأمر النهي وغيرهما،
ولكن في الآية فوائد عظيمة:
أحدها: ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديًا.
الثاني: ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم؛ فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزن على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران في قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
الثالث: ألا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر:88]، فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم فئ آية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم، إما راغبًا وإما راهبًا.
الرابع: ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم؛ بل يُقال لمن اعتُدِيَ عليه: عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الآية[المائدة:8]، وقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، وقال: {فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]، فإن كثيرًا من الآمرين الناهين قد يتعدى حدود اللّه، إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين.
الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد؛ فإن ذلك داخل في قوله: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} وفي قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.
فهذه خمسة أوجه تُستفاد من الآية لمن هو مأمورٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها المعنى الآخر، وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علمًا وعملًا، وإعراضه عما لا يعنيه، كما قال صاحب الشريعة: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، ولاسيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه،لاسيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة.
وكذلك العمل، فصاحبه إما معتد ظالم، وإما سفيه عابث، وما أكثر ما يصوِّر الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللّه، ويكون من باب الظلم والعدوان، فَتَأمُّل الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء.
المصدر : مجموع فتاوى ابن تيمية-رحمه الله-
مواقع النشر (المفضلة)