بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشرط السادس العمل بها
ومن شروط صحة شهادة التوحيد العمل بها وبمتطلباتها ظاهراً وباطناً، وهو الغاية منها ومن نزولها على الأنبياء والرسل، كما قال تعالى:) وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( البينة:5. وقال تعالى:) ومـا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ( الذاريات:56. أي ليوحدون ..
فمن أبطل العمل بالتوحيد كشرط لصحته أبطل الدين وأمات روحه، وأبطل حق الله على العبيد، والغاية التي لأجلها خلق الله الخلق وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كما قال تعالى:) وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( الأنبياء:25. وقال تعالى:) ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ( النحل:36.
هذه الآيات وغيرها تفيد حصر مهام وغاية الرسل جميعاً في تحقيق التوحيد حق الله تعالى على العبيد، وكأنهم ليس لهم مهمة سوى تحقيق ذلك، كما قال الصحابي ربعي بن عامر t لطاغوت فارس عندما استجوبه عن الغاية من انبعاثهم وغزوهم لدياره: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن سجن الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة !
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره عن معاذ بن جبل t قال: كنت رديف النبي r على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يُعذب من لا يُشرك به شيئاً " قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال:" لا تبشرهم فيتكلوا " متفق عليه.
فحق الله على العبيد أن يعبدوه ظاهراً وباطناً ولا يُشركوا به شيئاً ظاهراً وباطناً، وهو المراد من شهادة أن لا إله إلا الله؛ يوضح ذلك الرواية الأخرى عن أنس بن مالك t ومعاذ رديفه على الرحل، قال يا معاذ: ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا ؟ قال:" إذاً يتكلوا " متفق عليه.
هذا الحديث قد فسره الحديث الذي قبله وبين المراد من التشهد بالشهادة؛ فقوله r:" ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار "، فسره r في قوله الآخر:" حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً ". لأن في كلا الحديثين ينهى النبي r فيهما معاذاً أن يخبر الناس بما قاله له حتى لا يتكلوا ويتركوا العمل الزائد عن التوحيد ..
مما دل أن المراد من الحديث الآخر :" ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله .." ليس المراد مجرد التلفظ بالشهادة من دون تحقيق التوحيد حق الله على العبيد عملاً، وظاهراً وباطناً .. فالأحاديث تفسر بعضها البعض، والإنصاف يقتضي إعمالها جميعاً جنباً إلى جنبٍ من دون إهمال أو ترك شيءٍ منها .
ولو كان الأمر ينتهي عند حد القول دون العمل لما امتنع كفار قريش عن إجابة النبي r إلى دعوته، ولأعطوه " لا إله إلا الله " لفظاً مع بقائهم على شركهم وعاداتهم الوثنية، ولاستراحوا وأراحوا، ولما بذلوا أرواحهم وكل ما يملكون مقابل دفع كلمة التوحيد وعدم الاستجابة لها ..!
ولكن لما علموا أن من لوازم الإقرار بشهادة التوحيد العمل بها وبمضمونها ..
من لوازمه تكسير الأصنام والأوثان واعتزال عبادتها .. والانخلاع كلياً من الشرك وعبادة الأنداد ..
من لوازمه تغيير العادات الوثنية الجاهلية المنافية لروح وتعاليم لا إله إلا الله ..
من لوازمه أن تتحول الآلهة المزيفة إلى عبيد يتساوون في العبودية لله تعالى مع عبيدهم ومماليكهم ..
من لوازمه ذوبان جميع الفوارق بين الناس ..لا فرق بين الشريف والوضيع، ولا بين السيد والمسود .. إلا على أساس التقوى والالتزام بأخلاق وتعاليم هذا الدين الحنيف ..
من لوازمه أن ينخلعوا كلياً من أهوائهم وشهواتهم، ومكاسبهم التي كانوا يجنونها من وراء تعبيد العبيد للعبيد .. ويبرؤوا من ذلك كله لله رب العالمين .
لما كان الإقرار بالتوحيد من لوازمه حصول جميع ما تقدم ـ ولن يرضى الشارع I بأقل من ذلك ـ قابلوها بهذا الحرب وبهذا العناد والإعراض الذي لم يعرف التاريخ مثيلاً له ..!!
ولأجل ذلك كله كذلك بذلوا للنبي r كل غالٍ ونفيس من مالٍ وملكٍ ورياسة، وعرضوا عليه كل ما تستشرفه النفوس وتتمناه مقابل أن يعفيهم من الإقرار والانصياع لشهادة التوحيد لا إله إلا الله .. فأبى النبي r إلا أن يُجيبوه أولاً إلى لا إله إلى الله، إلى التوحيد الخالص وخلع الأنداد والأوثان، راداً عليهم جميع عروضهم وما بذلوه من ترغيب(1) ..!!
أبى النبي r أن يقبل منهم شيئاً إلا بعد أن يجيبوه أولاً إلى التوحيد بشموليته: اعتقاداً وقولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً ..!
مسألة
مما يدخل في الأعمال التي تُعتبر من شروط صحة التوحيد والإيمان الصلاة، حيث لا يصح إيمان المرء إلا بها، فمن تركها فقد نقض التوحيد وخرج من الملة، ووقع في الكفر والشرك، كما في الحديث الصحيح:" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة .. فإذا تركها فقد كفر "، وفي روايةٍ:" فإذا تركها فقد أشرك "، وغيرها كثير من النصوص التي تفيد كفر تارك الصلاة وخروجه من الملة، مع انتفاء النصوص أو القرائن الشرعية الأخرى التي تصرف هذا الحكم عن ظاهره إلى الكفر الأصغر، أو الكفر دون كفر(1) .
(1) في هذا تنبيه وتذكير لأولئك الذين يترامون على عتبات الطواغيت يستجدون منهم الفتات والعظام المجردة عن لحومها وشحومها باسم الدين، وباسم تحصيل المصالح للدعوة على حساب أعلى وأجل المصالح ألا وهي مصلحة تحقيق التوحيد
فيه تنبيه لأولئك الذين أخروا لا إله إلا الله من أولوياتهم وبرامجهم الحزبية أو الدعوية، وقدموا عليها ـ رهبة أو رغبة ـ الاشتغال بالمندوبات والمباحات، والقيل والقال .. ثم بعد ذلك يحسبون أنفسهم أنهم يُحسنون صنعاً، أو أنهم يسيرون على طريقة ونهج النبي r في الدعوة إلى الله تعالى !!
فيه تنبيه لأولئك الذين يقولون للطاغوت كل شيءٍ، إلا أنهم لا يجرؤون أن يأمروه بالتوحيد، ولا أن يذكروه له، فضلاً عن أن يُطالبوه بتحكيمه والانصياع له ..!!
مسألة ثانية
اعلم أن الإنسان يصير كافراً ـ من جهة ترك الأعمال ـ في حالتين:
الحالة الأولى: أن يترك جنس العمل والطاعة، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي ماله، ولا يفعل شيئاً من الطاعات .. فهذا كافر خارج من الإسلام مهما زعم بلسانه أنه مسلم أو من المؤمنين .
قال ابن تيمية في الفتاوى 7/209: قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت(2)، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً . إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال تعالى:) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( .
وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله(3) ا-هـ.
وقال الإمام الآجري رحمه الله في كتابه أخلاق العلماء: فالأعمال
(1) على تفصيل ذكرناه في كتابنا " حكم تارك الصلاة "، وقد رددنا فيه على شبهات وأدلة المخالفين دليلاً دليلاً، وشبهة شبهة .. فلينظره من لم يقنع بما تقدم .
(2) وهو أفضل ممن لا يصلي قط ..!
(3) من قال هذا فقد كفر بالله ورد على رسوله أمره، فكيف بالذي لا يفعل هذا، وينتفي عنه جنس العمل والطاعة .. لا شك أنه أولى بالكفر والمروق من الدين .
بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل ـ لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه، فاعلم ذلك .
هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله U:) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( (1) .
وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/287: لو قُدر أن قوماً قالوا للنبي r: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شكٍّ ونقر بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيءٍ مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدُق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضاً، ونقاتلك مع أعدائك، هل كان النبي r يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويُرجى لكم أن لا يدخل أحد منك النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك ا-هـ .
ــــــــــــــــــ
(1) عن كتاب ظاهرة الإرجاء للشيخ سفر الحوالي:2/647.
فليحذر مرجئة العصر بأي نار هم يلعبون؛ وبأي باطل هم يميدون، وأي قول هم يقولون عندما يخرجون جنس العمل كشرط لصحة الإيمان ..!!
ورحم الله الشافعي إذ يقول: لأن أتكلم في علم يُقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أتكلم في علم يُقال لي فيه كفرت ا-هـ .
وليحذروا أن يُحمل عليهم قول النبي r:" صنفان من أمتي لا يردان علي الحوض: القدرية، والمرجئة "(1). أعاذنا الله من الكفر والخسران ..!
الحالة الثانية: أن يأتي بجنس العمل ولا يُحرم مطلق الطاعات العملية، لكنه يترك العمل بالتوحيد .. فأيضاً هذا كافر خارج من الإسلام، لا ينتفع بشيءٍ من الأعمال والطاعات الأخرى التي قام بها كما تقدم .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلف شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما ا-هـ .
مواقع النشر (المفضلة)