دموع شيخــي
نظرتُ إلى شيخي فوجدت الدموعَ تسكب من عينيه وقد شخص بصره إلى صورةٍ معلقةٍ على جدران الحائط، وقد وقف الحجيج على جبل عرفة لابسين البياض.. فسألته عن سبب دموعه فقال لي: يا ولدي ما أكثر أسباب الدموع في أيامنا، وسأخبرك بسبب كل دمعة.
أما الدمعة الأولى:
فعلى هذه اللحظة التي كم أتمنى أن أكون فيها هناك.. لحظة الضعف بين يدي القوى يا ولدي.. لحظة أن تهفو القلوب إلى خالقها.. لحظة أن ترتفع الأكف إلى معطيها والمنعم عليها.. لحظة أن يتجرد المسلم من كل حولٍ وطولٍ إلى حول الله وقوته.. لحظة أن يلجأ المسلم بضعفه وفقره إلى قوةِ الله وغناه.. لحظة أن يتجرَّد المسلم من دنياه ويتعلق بآخرته.. يا ولدي ما أجملها لحظة يعيشها الواحد فينا مع ربه.
أما الدمعة الثانية:
فعلى تذكري للموت وسكرته وشدته وكربته.. الموت يا ولدي الموت.. لكم بَعُدت فكرة الموت عن أفكارنا.. ولو ملأت فكرته حياتنا لخلت حياتنا من كل فكرة أخرى.. ألا ترى الحجيج وقد تجردوا من ملابسهم بل من حياتهم كلها.. إنه مشهدٌ من المشاهد التي تُحيي القلوب الميتة وتُوقظ العقول الغافلة.. وتُحيي الأنفس التي كثر عليها الران فانشغلت بالدنيا وضربت عليها الغفلة.. صدقت يا رسول الثقلين: " أكثروا من ذكر هاذم اللذات ".
أما الدمعة الثالثة:
فعلى حال المسلمين اليوم.. على الدماءِ المُراقة.. على المساجد المُهدَّمة.. والأعراض المنتهكة.. والأموال المسروقة... والأقصى المكبل.. والعراق المُغيب.
أما الدمعة الرابعة:
فعلى شوقٍ في قلبي أن أكون ممن يتباهى بهم ربي في هذا اليوم.. أمنية أتمناها وعلى ربي تحقيقها.. ففي الحديث عن جابر- رضي الله عنه- أن رسول- صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من يومٍ أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء.. فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ضاحين جاءوا من كل فجٍ عميقٍ يرجون رحمتي.. ولم يروا عذابي ".
أما الدمعة الخامسة:
فعلى قيمة هذه الدنيا.. فعلى عرفة يشعر الحاج بقيمةِ هذه الدنيا.. فلا تراه يبني دورًا ولا يُشيِّد قصورًا فهو يعلم أنها أيام قلائل ثم يأتي الرحيل.. وحينئذٍ يستعد لما بعد ذلك اليوم.. وإلى أوبته.. إلى دياره الأولى.. إلى معاقله الأصيلة.. أليس هذا حال أهل الدنيا غريبٌ أو عابر سبيل.. فما بالنا بها منشغلين وكأننا عنها غير مرتحلين.. ولا حول ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم.
نسأل الله - عز وجل - يا ولدي أن لا يحرمنا الأجر والثواب.. وأن لا يحرمنا من فيضِ عطائه لأهل الموقف الذين يجتمعون بقلوبٍ خاشعة.. وأعينٍ دامعة.. وأنفسٍ ضارعة لله سبحانه وتعالى.. إنه على ذلك قدير وبالإجابة خبير.
فخرجتُ من عند شيخي والدموع تسكب من عيني.. وكلامه يتردد في أُذني.. ولساني يلهج اللهم آمين.. اللهم آمين.
بسمات شيخي
بعد ما صلينا العيدَ في الخلاء؛ حيث هذا الجمع الغفير من الرجال والنساء والأطفال؛ حيث البسمات التي تعلو الوجوه، والسعادة التي تغمر القلوب، والروائح الطيبة التي تملأ الأنوف.. نفحات الطاعة.. الملائكة التي تحيط جوانبنا.. أخذتُ أبحث عن شيخي لأهنئه بقدوم العيد، وأنا أتوقَّع الحزن على وجهه من آخر لقاءٍ جمعَنا.. وأخيرًا وجدتُه ووجدتُ النورَ على وجهه، يتلألأ بشرًا وفرحًا وسعادةً، والبسمات تملأ وجهه.
فأسرعت إليه وقبَّلت يديه، وسألته عن سرِّ سعادته، وعن كل هذه البسمات التي تملأ وجهَه؟ فأجابني قائلاً: نعم يا ولدي.. البسمة تعلو وجهي بل وحياتي كلها في هذا اليوم، وخصوصًا مع هذا المنظر الذي يملأ القلب فرحًا وسعادةً، وكما أخبرتك عن سبب دمعاتي من قبل سأخبرك عن سبب بسمات هذه:
أما البسمة الأولى
فلهذه اللحظة التي نعيشها.. انظر إلى جمال ديننا وحلاوته.. للحظة نعيشها في ظل الإسلام، ولسنَّة طبَّقناها من سنن الإسلام، تمتلئ القلوب بكل هذا الفرح، فما بالك لو عشنا الإسلام حياتنا كلها وطبقناه في أمورنا كلها.. الإسلام يا ولدي ما أحلاه!! وما أجمله!! وسبحان ربنا حين قال: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ (طه: 124).
نعم.. معيشة الضنك والنكد والألم، وصدق حين قال : ﴿ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ ﴾ (الرعد: 28) ﴿ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ﴾ (الأنعام: من الآية 82) ﴿ إِنَّ الَّذِيْنَ قَالُوْا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتْقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُوْنَ ﴾ (الأحقاف: 13).
البسمة الثانية
لهذا التكبير الذي كبَّرناه "الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد" ما أحلاه من ذِكْرٍ تلهج به الألسنة!! نبدأ به حياتنا حين نؤذِّن في أذُن مواليدنا، نبدأ به أشرف لقاءٍ لنا في حياتنا كلها، لقاء الله في الصلاة، وحين نصعَد نردِّد "الله أكبر" نعم.. أكبر من كل كبير مهما كان الكبير.. نعم يا ولدي.. أكبر من هؤلاء الطواغيت مهما بَدَت قوتُهم ومهما ظهر لنا كبرهم.. الله أكبر على مَن جاء ليهدم بلادنا، ويغتصبَ أعراضَنا، ويهدمَ قيمَنا وأخلاقَنا.. يا ولدي نعم.. الله أكبر في حياتنا كلها، لو استشعرناها وعشناها ما هُزمنا في حياتنا مهما كان نوع الهزيمة، فالله أكبر الله أكبر.
البسمة الثالثة
[align=right]لهذه العفة والطهر الذي نعيشه في هذه اللحظة.. الرجال مع الرجال.. النساء مع النساء.. الجميع يحس بسمو وطهر، فأين العُقَد التي قالوها؟! وأين الكبْت الذي كبتونا به؟! يا ولدي والله لهذا الطهر لذةٌ ما أحلاها وما أجملها!! وصدق نبي الطهر- صلى الله عليه وسلم- حين قال: " النظرة سهم من سهام إبليس من تركها مخافة الله أبدله الله حلاوةً لا يجدها سواه ".[/align]
البسمة الرابعة
فلهذا الأب الذي صحب أسرته من زوجة وأولاد، ربَّاهم على ثياب العفة.. أمسك بيده زوجته وأولاده وهو في طريقه إلى الصلاة.. وسيظل ممسك بهم حتى يصل بهم إلى الجنة إن شاء الله.. فهو الحافظ المتدبر لقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (6:التحريم).
يا ولدي إنَّ يومنا هذا هو يوم البسمات.. ولكن مع بسماتنا هذه قلوبنا لا ولن تنسى إخواننا وأخواتنا في كل بقاع الدنيا.. أسأل الله أن يملأ قلوب وبيوت جميع المسلمين في بقاع الأرض فرحًا وسعادة.. فتركتُ شيخي كما تركته في المرة الماضية وأنا أردد: اللهم آمين اللهم آمين .
منقول
مواقع النشر (المفضلة)