يعقوب عليه السلام الذي عقب والده وأعقب ذرية كبيرة
لما كانت ولادة إسحق عليه السلام من عجوز بلغت ما بلغت من الكبر وقد كثر في الولادات من أمهات كبيرات في السن ضعيفي البنية، أو مشوهي الخلق، قصيري الأجل كالذين يسمون بالمنغوليين مثلاً، فكانت الخشية من ولادة طفل بتلك الصفة؛ ضعيف البنية جريًا على بعض سنن الله في أمثال ذلك، وقد اشتهر القصر وضعف البنية في طوائف من ذريته عليه السلام، مما جر استضعاف الفراعنة لهم إلى استعبادهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك تلميحًا لا تعريضًا، (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) الشعراء، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص، وقولهم لما طلب منهم دخول الأرض المقدسة: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) المائدة،،- وقد يراد بالجبارين المذكورين في الآية اليبوسيون الذين عمروا المنطقة، ويدل اسمهم على الشدة والقساوة- فقد اجتمع عليهم ضعفهم، وهوان أنفسهم عليهم من الذل الذي أصابهم على يد الفراعنة من قبل، هذا ولم يذكر إسحق في القرآن الكريم بأي شيء قام به من ناحية، إلا ما يفهم من إشارة الوصف في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) ص، ومن ناحية أخرى أن الملائكة بشرت إبراهيم عليه السلام بغلام عليم، فوصفه بعليم طمأنة لأبيه مما يخشى منه 00 وكذلك من ضعفت قدراته سعى لتعويضها بحسن تدبيره وزيادة اهتمامه، وابتكار الوسائل التي توصله لتحقيق أهدافه، فيزيده ذلك علمًا، واشتهر هذا الوصف في ذريته كذلك، ولما بشرت الملائكة أم إسحق بإسحق عليه السلام بشرتها من ورائه بيعقوب 00 وذلك أن الوالد يفرح بولده مهما كانت الحالة التي يأتي عليها، ويحتمل وضعه، وخاصة إذا كان له غيره، لكن المرأة لا تحب لولدها إلا أن يكون متميزًا، وأن يكون خلفًا صالحًا لوالده، ومن خلافته لولده أن يكون قويًا جميلاً مقبولاً عند الرجال ومن النساء، قادرًا على الإنجاب، وخاصة أنه وحيدها، وله أخ من غيرها، فإذا كان ولدها ضعيفًا ليس على القدر الذي تطمئن به النساء فكأنها لم تنجب لزوجها شيئًا 00 فجاءت البشرى لأم إسحق عليه السلام بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب دون البشرى لإبراهيم عليهم السلام، أي أن إسحق سيكبر، ويشب، ويتزوج، ويكون له ولد، وقد كانت الأمور كما جاءت بها البشرى، وأعقب يعقوب والده إسحق فسمي لذلك بيعقوب عليهما السلام، وزاد وضوح التسمية عندما أعقب والده بذرية كثيرة0
وقد أشار القرآن إشارة أخرى على أن إسحق عليه السلام لم يعمر كثيرًا، خلاف ما يقوله بنو إسرائيل، فإذا مات إسحق وكان يعقوب صغيرًا، فليس له من يتولاه إلا عمه إسماعيل عليهما السلام، وكانت الإشارة إلى ذلك في قول أبناء يعقوب عندما قال: ( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) البقرة، فجعلوا إسماعيل أبًا ليعقوب مع أنه عمه، والعم يسمى بالأب -وليس بالوالد- خاصة إذا تولى رعاية أبناء أخيه من بعده 00 وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم آل المطلب مع بني هاشم لما ولى المطلب ابن أخيه شيبة بن هاشم - والذي عرف بعد ذلك بعبد المطلب بن هاشم - لأن الناس لم يكونوا يعرفون "شيبة بن هاشم" الذي كانت أمه خزرجية من أهل يثرب، فظن الناس أنه عبد قد اشتراه المطلب فقالوا عنه عبد المطلب، وغلبت هذه التسمية على اسمه الحقيقي0
لذلك نقول: إن إسماعيل هو الذي تولى تربية يعقوب بعد موت أبيه إسحق عليهم السلام 00 وعلى ذلك يتضح لنا لماذا كان هناك أربعون سنة بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى 00 فلما قدم إسماعيل لتولي رعاية ابن أخيه "يعقوب"، وتردد على القدس مرارًا، وكان من قبل قد بنى المسجد الحرام مع والده إبراهيم عليهما السلام، اتخذ مسجدًا له فكان المسجد الأقصى، والمسجد هو المكان الذي يتخذ للعبادة سواء أكان فيه بناء أم لم يكن، لكنه يُعلَّم ويسور حتى يعرف أنه مسجد، وقد ظل المسجد ساحة كذلك حتى جاء المسلمون، فبنوا فيها المسجد، وقبة الصخرة، وهذا هو الأقرب للحق والله تعالى أعلم0
والمسجد الأقصى إنما سمي بالأقصى _ راجع لماذا سمي الأقصى بالأقصى- لأن الله تعالى أقصاه عن أيدي غير المسلمين فلم يتخذوه دارًا للعبادة، مع أنه كان بين أيديهم، وفي حوزتهم، وكانوا هم حوله، ولم يفعل الرومان شيئًا إلا أنهم بنوا حوله سورًا قويًا، وليس لليهود أي آثار فيه تصديقًا لما أخبر القرآن به، ولما احتله الصليبيون لم يتخذوه دارًا للعبادة، مع أن البناء فيه كان قائمًا، فجعلوه مربطًا لخيولهم، ومخزنًا لمؤنهم وأعلاف دوابهم0 وأما القول ببناء سليمان عليه السلام للمسجد الأقصى - فإن صح، ولا أظنه يصح - فهو من باب الاعتناء والتجديد، وسليمان ككل الأنبياء عليهم السلام هو من المسلمين0
ويعقوب عليه السلام لم يدم بقاؤه في بلاد الشام طويلاً، إذ لحق بابنه يوسف عليه السلام في مصر، وبقيت ذريته هناك قرونًا طويلة، وقد وصف القرآن المكان الذي قدموا منه إلى مصر بأنه بادية، فقد قال يوسف عليه السلام: (وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي 00(100) يوسف، والقدس ليست بادية منقطعة عن الحضر، وليست سهولاً صحراوية، إنما هي منطقة جبلية مأهولة من قديم الزمان0000
لماذا سمي يعقوب بإسرائيل ؟! 000 الجواب قادم إن شاء الله تعالى 0
أبو مسلم العرابلي
مواقع النشر (المفضلة)