السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هي بكت وبكيت أيضا
إنها محاضرة في جامعة جراتس بالنمسا..
لأنها محاضرة جادة فهي في حاجة الى استعداد وإعداد. ولا بد أن أكتبها وأقرأها. ولا بد أن يكون الأداء هادئا. فالجمهور مختلف والكلام يجب أن يكون علميا.
وجلست وكتبت. ثم أعدت ما كتبت. وحاولت أن أحشر نكتة أو قفشة. ثم عدلت عن ذلك.. أما الموضوع فهو التسامح. أي الاتفاق مع الاختلاف. الأكثرية مع الأغلبية.. بين الأديان.. ووجدتها مناسبة وتحدثت عن طفولتي في المنصورة.. فقد كانت بها جاليات أجنبية. ومدارس للغات: الجالية اليونانية والإيطالية والألمانية. وعدد قليل من اليهود المصريين وغير المصريين.
هذه التسميات عرفناها ونحن صغار. ولكن لا نعرف لها أي معنى. فهم أجانب ويتكلمون العربية.. وهم أصحاب مطاعم ومحلات للحلويات وتجار. أو كنت لا أعرف معنى أن يكون الإنسان إيطاليا أو يونانيا.. أو ما هو الفرق بيننا.. إن الأجانب لغتهم العربية مختلفة.. لا ينطقون العين والحاء.. وبس..
وقلت وصفق الحاضرون طويلا.. ولم يمض يوم واحد لم أذكر: مخالي وجورج وجرجس وكوهين.. ولم أدرك أن هناك فرقا بيننا. ولذلك لم أسأل عن معنى يهودي ومسيحي.
وكانت أمي تزور أم بطرس وتزورها أم ليفي. وأحيانا أتغدى هنا أو أتعشى هناك. ويجيء الأصدقاء من الأطفال إلى بيتنا يأكلون أو نذاكر معا وبعضهم ينام عندنا..
ولكن فوجئت أن جاء أحد أقاربي ووجدنا نلعب في الشارع وقال: سمعتك تقول يا كوهين ويا ميشيل.. ألا تعرف أنهم يهود؟
ولم أفهم أين الغلط.. وظهرت الدهشة على وجهي ولم أفهم.. ولم أتوقف عن اللعب. وعندما عدت الى البيت سألت أمي. واندهشت هي أيضا.
ولما جاء أبي. وحكيت له فقال: إنهم أصدقاؤك؟ قلت: نعم.. وفي اليوم التالي أخذني والدي ومررنا بأحد الكنائس وقال: نحن لنا جامع وهم لهم كنيسة.. وكلنا نعبد إلها واحدا.. وبعد مشوار طويل وجدنا معبدا يهوديا. وقال: وهذا معبد اليهود. أما هذا الدوي في أذني فلم يكن حرجا في مواجهة جمهور نمساوي كبير. لم تكن المواجهة. وإنما كان التصفيق.. أما أنا فقد كانت عندي مشكلة وهي أنني نسيت نظارة القراءة. وكان النص الإنجليزي مع المترجمة النمساوية.. وكنت أرتجل. ولكن بسرعة عالجت الموقف المفاجئ. وأمسكت الأوراق وتظاهرت بأنني اقرأ بصعوبة..
أما دهشتي وأجمل مفاجأة تلقيتها أن تقدمت الصفوف سيدة عجوز قصيرة وطلبت أن أنحني لكي تقول شيئا في أذني. وفوجئت بأنها تقبلني وقالت: أنا مدام إيزاك كوهين التي كانت تسكن إلى جوارنا في المنصورة. وسألتني عن أمي فلما عرفت أنها توفيت من عشرين عاما بكت.. وبكيت أنا أيضا!
_________
منقــــــول
مواقع النشر (المفضلة)